كانت فكرة رصد «الحركة الفكرية في الجيش» خلال ما يزيد على نصف قرن من الزمان (أواخر القرن التاسع عشر – حتى أواخر الأربعينيات من القرن العشرين) هي الشغل الشاغل للضابط في الجيش المصري/ الشاعر والصحفي والقاص الراحل «محمود عيسى»، والذي عمل بداية من سنة 1940 سكرتيرًا صحفيًا في مكتب وزير الحربية.

أصدر عيسى في رصده هذا كتبًا ذات عناوين رنانة، ومنها على سبيل المثال: «شعراء وأدباء في جيش الفاروق» والذي نشره في 1947، وهو الكتاب الذي نال حظاً كبيراً من معرفة النقاد والكتاب اللاحقين به. وقد تناوله الكاتب والمترجم الراحل «محمد خليفة التونسي» في العدد (892) من مجلة «الرسالة» بالنقد، حيث أثنى على عيسى باعتباره أورد تراجم لتسعة من الأدباء والشعراء من ضباط الجيش، مع نُبذٍ من آثارهم شعراً أو نثراً، والإشارة إلى أعمالهم التأليفية، لكنه أشار إلى أن ذلك غير كافٍ.

عيسى قرر أن يضع مؤلفاً آخر في نفس الإطار بعنوان «الصحافة العسكرية»، هو الحادي عشر في قائمة مؤلفاته، ويُقال إنه الثامن عشر لو احتسبت الأعمال التي شارك فيها مع آخرين. ويرصد الكاتب فيه تاريخ المطبوعات والإصدارات المتخصصة بالجيش المصري، منذ عهود المصريين القدماء، وحتى منتصف القرن العشرين.

محاولات تاريخية: صحيفة «بتاح» حتى «بريد مصر»

بدأ عيسى كتابه الذي أصدره سنة 1951 والمطبوع في «دار المستقبل»، بأن مصر عرفت هذا النوع من الصحافة منذ أكثر من 5 آلاف سنة، زاعماً أن أقدم صحيفة عسكرية نُقشت على الحجر من وجهين، وأشرف على تحريرها الكاتب المصري «بتاح»، وجرى توزيعها شهرياً على قادة الجيش وطليعة الحكام، بل وبلغ مجموع نسخها نحو 100، وكان من أهم أغلفتها- وفقاً لعيسى- هي صورة للملك مينا موحد القطرين، وقد نال من أعدائه، أما موادها فكانت حول أنباء المعارك وذكريات القادة وأحداث الجند. ويقول عيسى إن أول صحفي عسكري ذاعت شهرته تاريخياً هو القائد المصري «ووني» من رجال الملك «بيبي الأول»، من ملوك الأسرة السادسة!

ما ذكره عيسى حول معرفة مصر لهذا النوع من الصحافة ربما لا يتجاوز التفاخر والتباهي بتاريخ الأجداد، الذين نقشوا كل شيء على جدران المعابد، واهتموا بتدوين حياتهم اليومية، ولو طبقنا كلام عيسى عن النقوش على المعابد بشكل يشمل الحياة الفنية أو التاريخية أو الأدبية، فإن المصريين القدماء بهذا الطرح يكونون قد عرفوا شتى أنواع الصحافة، باعتبار أن تدوين الحياة أصلاً هو صحافة في حد ذاته.

أما في العصر الحديث، فيقول عيسى إن القائد الأول للحملة الفرنسية على مصر، نابليون بونابرت، هو صاحب أول مطبعة وأول جريدة عسكرية، وكان اسمها «بريد مصر»، وقد أصدرها القائد العسكري بالفرنسية في أغسطس 1798 لتكون لسان جيشه وعنوانه، ويُقال إنها كانت توزع نحو 10 آلاف نسخة، كما كانت تنشر طرائف وأشعاراً وقصصاً. كما حاول بونابرت أن يصدر جريدة عسكرية ناطقة بالعربية، ولكنه فشل، فحاول الجنرال جاك مينو تنفيذ فكرة بونابرت، لكنه لم يستطع.

ومسألة نسب عيسى أول صحيفة عسكرية في مصر خلال العصر الحديث لبونابرت، وللفرنسيين عموماً، لا تخلو من وجاهة ومنطقية، لأنه يُعتقد أن أول صحيفة عسكرية متخصصة بشكلها الحديث صدرت في فرنسا عام 1631 (قبل الحملة بأكثر من قرن ونصف من الزمان)، وهي «لا جازيت»، ثم توالى بعد ذلك صدور الصحف العسكرية في مختلف أنحاء العالم.

الوقائع المصرية: جريدة عسكرية!

في عهد محمد علي باشا الذي بدأ سنة 1805، ومع قوة الجيش المصري، كان الطريق ممهداً لأن يكون هناك جريدة ناطقة بلسان حاله، خصوصًا أن المؤسسة العسكرية حينها كانت تمتلك عدة مطابع، واحدة للمدفعية بطرة، وأخرى للفرسان بالجيزة، وثالثة بالقلعة، ورابعة ببولاق.

ومعروف أنه في عهد محمد علي أصدرت أول جريدة مصرية وهي «الوقائع» سنة 1828، على أن الكاتب محمود عيسى يُدخلها ضمن الصحف العسكرية، زاعماً أنها أول صحيفة عسكرية في العصر الحديث، وأن محمد علي باشا بنفسه كان يقرأها بشكل دقيق، كما أنه كان يتولى بنفسه مراجعة موضوعاتها قبل النشر، وذلك تفادياً لخطأ حدث بعد نشر خبرٍ رأى الوالي الكبير أنه يضر بسمعة الجيش، وسمعة أهل السلطة.

ازدهار في عهد إسماعيل

يقول عيسى، إن في عهد الخديو إسماعيل، تم اتخاذ قرار بتحويل «الوقائع» إلى جريدة حكومية، على أن يكون للجيش صحيفة خاصة به، وألا يقتصر أمر التحرير فيها على رجال الجيش، بل أسهم في تحريرها أخصائيون في الفنون والعلوم والتاريخ، وقد صدرت تلك الجريدة سنة 1865، ونهض بتحريرها «المسيو فيدال» معلم الرياضيات والتاريخ بالمدارس الحربية المصرية، بمعاونة كثير من الكتّاب والمترجمين في هذا الوقت.

ولكن عيسى لم يذكر اسم الجريدة، وبالبحث وجدت أنه كان يقصد «الجريدة العسكرية المصرية»، والتي ظهر معها مجموعة من الصحف الرسمية الجديدة، كان أولها صحيفة متخصصة باسم «يعسوب الطب»، ثم «الجريدة العسكرية المصرية»، وفى العام التالى صدرت في الإسكندرية مجلة أسبوعية سياسية تجارية أدبية باسم «تقدم مصر» أو «لوبروجريه إيجيبسيان»، وتم توزيع العددين الأول والثانى مجاناً لتعريف القراء بالصحيفة ولجذب المعلنين، حيث صدرت في ثماني صفحات بطباعة أنيقة.

وإلى جانب «الجريدة العسكرية المصرية»، أنشأ الخديو جريدة «أركان حرب الجيش المصري»، وكان القصد من إنشائها التركيز على تقدم الجيش المصري في الفنون الحربية والاطلاع على الوقائع والحوادث العسكرية التي تقع في البلاد الأجنبية، وكان يقتصر تحريرها على رجال الجيش من دون غيرهم، وقد أشرف على تهذيب المواد المنشورة في هذا الإصدار، الشيخ حسن الطويل مصحح وزارة الحربية، وصدر أول عدد منها يوم 10 يوليو عام 1873، واستمرت في الإصدار شهرياً بانتظام طيلة خمس سنوات.

لم يكن حال الصحافة العسكرية جيداً في عهود حكام مصر التابعين للخديو إسماعيل، واقتصرت أخبار الجيش مثلاً في عهد الملك فؤاد على المنشورات الدورية التي تصدرها وزارة الحربية والبحرية في مطبعتها، وعلى بعض المقالات والأبحاث التي تنشر بين الحين والحين في جرائد الأهرام والجهاد وكوكب الشرق الصباحية والضياء والمقطم ومصر المسائية، وكانت كلها توقع باسم «محارب قديم».

لم يكشف «المحارب القديم» عن اسمه الحقيقي حينها، حتى في سنة 1927، عندما قدم أول مجلة عسكرية، وأطلق عليها اسم مجلة «الجيش والبحرية»، وكان هو فقط من يقوم بتحريرها، ولكن لم تستمر هذه المجلة كثيرًا، وقد تم وأدها سريعًا، وفي حيثيات الإغلاق قال «المحارب القديم»: «إن كلمات الإعجاب لا تدير آلة الطباعة، ولا تبتاع ورقاً، ولا تنتج مقالات!».

مجلة الجيش.. مجلة جيشنا

مع عصر الملك فاروق، ظهرت «مجلة الجيش»، وكان أول أعدادها في سبتمبر من عام 1938، وقد صدرت كل شهرين تحت قيادة ما سماه عيسى بـ«أول صحفي عسكري» اعترفت به مصر، وهو اليوزباشي أحمد حمودة، صاحب توقيع «محارب قديم»، والذي توفي في مارس 1943، وكان يعاونه في تحريرها بالغرفة المتواضعة بمبنى وزارة الحربية اليوزباشي عبدالرحمن زكي، أمين المتحف الحربي، وثالثهم كان صاحب الكتاب، محمود عيسى.

في 1942 ظهرت مجلة «جيشنا»، على أن تصدر بشكل نصف شهري، وكانت مختصة بإصدار الأنباء الخفيفة، إلى جوار مجلة شهرية أخرى بعنوان «رسائل الثقافة الحربية»، وقد طبعتا في مطبعة التوكل بشارع الخليج، ثم طبعتها في مطبعة المستقبل بشارع نجيب الريحاني.

بعد هذا الوقت، أصدرت الوزارة العديد من المجلات، ومنها مجلة «المدفعية»، ومجلة «الطيران»، وأخرى لسلاح «المشاة» بنفس الاسم، ولسلاح «الفرسان» بنفس الاسم كذلك، وكانت كل هذه المجلات تصدر كل ثلاثة أشهر، أي بشكل فصلي.

اليوزباشي أحمد حمودة: شيخ الصحافة العسكرية

خصص عيسى النصف الثاني من كتابه لرواد هذا النوع من الصحافة، وقدم عنهم ما يشبه البورتريهات، وأولها للمحارب القديم، اليوزباشي أحمد حمودة، الذي لقبه بـ«شيخ الصحافة العسكرية»، وهو شخص قصته جديرة بالاحتفاء والمعرفة، فقد وصفه محمود عيسى بأنه حارب بسيفه وقلمه طيلة حياته إلى أن توارى في الثمانين من عمره (ولد في يوليو 1863 ومات في مارس 1943). ويضيف الكاتب بأنه عاش ومات وهو يحتفظ بكرامته ويزود عن شخصيته ويتفانى في واجبه.

كان حمودة يجيد العربية والتركية والألمانية والإنجليزية والإيطالية، وقد شارك في حرب استعادة السودان في أواخر القرن التاسع عشر، ثم أحيل إلى الاستيداع في سنة 1908، برتبة اليوزباشي، وعندما اندلعت حرب البلقان الأولى، كان أول المتطوعين وعُيّن في سلاح المدفعية التركية، وأبلى بلاءً حسنًا، حتى أنه نال أحد الأوسمة المهمة.

وفي 1914 طلب حمودة إحالته إلى المعاش، وفي نفس العام نُفي إلى جزيرة مالطة، وبقي فيها حتى 1919، عندما أطلق سراحه مع الزعيم سعد زغلول، وبعد ذلك عاد إلى مصر، وتعرض لكثير من المحاكمات وفترات السجن لحديثه المستمر عن الإصلاح، ويؤكد عيسى أن سجن «الحضرة» بالإسكندرية كان شاهداً على ما لاقاه، حتى نشر أول كتاب له بعنوان «النخبة الفاروقية في الفنون الحربية» سنة 1926، وقد نال هذا الكتاب رضا وزارة الحربية حينها، وبسببه جاءت به الوزارة لتأسيس مجلة «الجيس والبحرية».

ألف وترجم حمودة 30 كتاباً، كما سعى أن ينشيء قاموساً عسكرياً فنياً يرجع إليه المتخصصون في هذا الشأن، كما لم تصرفه مشاغله عن أن يضع في عام 1930 مذكرة الوفد المصري الذي فاوض الحكومة الإنجليزية عن أهم النقاط العسكرية المنتظر أن يلمسها الحديث.

يؤكد عيسى في آخر جمل كتبها عن اليوزباشي أحمد حمودة، أنه كان صبوراً على البحث، وعكوفاً على الاطلاع، وصَموداً للمآسي، وقد يكون أتى في غير أوانه، حتى أنه بعدما رحل عن الدنيا، سار كثيرون (ومنهم الكاتب) على خطواته وكلماته وذكرياته.

كتاب ورواد الصحافة العسكرية: منهم يوسف السباعي

باقي البورتريهات التي خصصها الكاتب كانت لكثير من الضباط الذين يعتبرهم رواداً وكتاباً في الصحافة العسكرية، ويظهر منهم الأميرالاي حامد نيازي رئيس مجلس إدارة مجلة «الجيش» في عام 1948، وكذلك اليوزباشي عبدالحميد زكي، الصحفي الرسام، وأحد المشاركين في إصدار مجلة «جيشنا»، وكان في الوقت ذاته مؤسس أول مجلة انتقادية بالكاريكاتير الملون وهي «السياسة المصورة». كما يذكر عيسى أيضاً القائمقام أحمد عبدالعزيز الذي استشهد في فلسطين في حرب 1948، ويقول الكاتب في معرض الحديث عنه وعن بطولاته في تلك الحرب أن الجيش الصهيوني استغاث بالألمان من أجل أن يواجهوا هذا القائد الشاب الفذ في الميدان، ولكنه قتل في أحد المعارك.

قدم عيسى كذلك تعريفات وافية لمجموعة أخرى، ومنهم «القائمقام أحمد فهيم بيومي (الأديب)، واللواء سعد الدين صبور، واللواء وحيد شوقي، والأميرالاي أحمد شوقي عبدالرحمن، والأميرالاي رفعت الجوهري، والقائمقام عبدالرحمن زكي (الصحفي المؤرخ)، والقائمقام محمد صفوت، والقائمقام عبدالحميد فهمي مرسي (الشاعر)، والقائمقام محمد جلال الدين (الطبيب)».

ومن بين من قدم لهم عيسى، البكباشي يوسف السباعي، الأديب الكبير، الذي كان حينها مُتخرجًا في كلية أركان الحرب، ولا يُظهر الكتاب إسهامات السباعي في مجال الصحافة العسكرية، ولكن انشغل عيسى بتقديمه كأديب شاب (لم يتجاوز الأربعين وقتها)، يكتب روايات ومقالات في الصحف العادية، ومشارك في تأسيس بعض المجلات، على أن ختم البورتريه الخاص بالسباعي قائلاً: «ليس عجيباً أن يصير صاحبنا (السباعي) إلى ما صار إليه، فهو نجل الأستاذ الكبير محمد السباعي، والمشرف الأول على مجلة (الكلية الحربية)، ومُنشئ مجلة (المدرسة العسكرية الثانوية)».