لا بد وأن المفارقة الأكثر دعوة للضحك في الأمر الخاص بالهواتف الذكية هي تصوّر معظم الناس أنهم مختلفون، يمكن لهم بسهولة أن يتخلّوا عن تلك الأجهزة الساحرة، ويتطلب الأمر فقط أن يتخذوا القرار، كذلك فإنهم يظنون – حينما نقول إن الإنسان المتوسط يتفحص هاتفه الذكي أكثر من مائة مرة في اليوم الواحد – أنهم ليسوا هذا الإنسان المتوسط. في الواقع، فإن ذلك غير صحيح.

أنت فقط تؤشر، أثناء ممارستك السلوكيات اليومية الطبيعية، على زر الطيّار الآلي، لكن إذا قررت أن تستخدم أيًا من التطبيقات كـQuality Time والتي تتتبع عدد مرات تفحصك للهاتف الذكي النسب المختلفة لاستخدامك لتطبيقات التواصل الاجتماعي وعدد ساعات الاستهلاك اليومي وأوقات الذروة الخاصة بك ستجد أنك – مثلك مثل الآخرين – تتبع نمطًا ما يتميز بأنه «قهري».

راحة الدماغ

لكن المشكلة في أن هذا النمط قد يتسبب بضرر واضح لحياتك، فرغم الفائدة الجمة التي تعطيها لنا الهواتف الذكية، والحياة الرقمية في العموم، فإن أضرارها كذلك تستحق التأمل. على سبيل المثال، كانت دراسة أخيرة، نشرت في «جورنال أوف بيهفيورال ثيرابي» قد فحصت دور الهواتف الذكية في التأثير على عقولنا حتّى في أوقات الراحة، لتجد نتائج مثيرة للاهتمام.

حيث خضع المشاركون في التجارب، حوالي 400 شخص، لاختبار تضمن مجموعة من الأحجيات الكلامية، في منتصفه يحصل بعض المشاركين على استراحة لعدة دقائق، في أثناء الاستراحة يتم تخييرهم بين استخدام الهاتف الذكي أو الكومبيوتر أو فقط بعض الورق، ثم بعد ذلك يستكملون اختباراتهم.

هنا جاءت النتائج لتقول إن الذين استخدموا الهواتف الذكية الخاصة بهم في فترة الاستراحة كانت نتائجهم أقل بقيمة 22% من المجموع وأبطأ بنسبة 19%، مما عنى أن الهواتف الذكية قادرة على تشتيت انتباهنا، ليس فقط أثناء القيام بالمهام، ولكن أيضًا في أثناء فترات الراحة، مما يمنع عقولنا من أخذ فترات راحة من الأساس.

في الواقع، فإن النشاط البحثي الذي يفحص العلاقة بين الهواتف الذكية وانتباهنا قد أعطى نتائج سابقة أكثر إثارة للانتباه. على سبيل المثال، كانت دراسة من جامعة كولورادو، صدرت قبل عامين، وخضع لها حوالي 600 طالب جامعي، قد حاولت فحص تأثير وجود الهواتف الذكية على عقولنا، مجرد وجودها، حتّى دون الحاجة إلى تفحصها.

خضع المشاركون في تلك الدراسة إلى اختبارات تقيس قدراتهم الإدراكية، في أثناء ذلك قسّم الخاضعون للاختبار إلى ثلاث مجموعات، الأولى، سوف تخضع للاختبار بينما يوضع هاتفها الذكي على نفس الطاولة التي يتلقون عليها الاختبار، لكنه سيكون مقلوبًا على وجهه، مغلقًا أو على وضع «صامت»، والمجموعة الثانية سوف ستضع هاتفها في الحقيبة الخاصة بها، والمجموعة الثالثة ستضع هاتفها في حجرة أخرى.

هنا جاءت النتائج لتقول، إن المجموعة الأولى حصلت على أقل درجة في الاختبارات، مع درجة تناسب عكسي في التجربة ككل بين النتيجة والمسافة بينك وبين الهاتف، مما يعني أن مجرد وجود الهاتف الذكي في محيطك قادر على تقليل سعة قدراتك الإداركية، لكن .. لم يحدث هذا، لقد كان الهاتف مقلوبًا ولم ير أحد شيئًا؟!

من «قصف جبهة» من؟

لفهم الفكرة تخيّل أنك في قاعة ضخمة مملوءة بالناس، الجميع يتحدث وصوت الهمهمات في خلفيتك واضح لكنك لا تستطيع تمييز ما يتحدث فيه الآخرون فأنت أيضًا تضع معظم انتباهك مع الشخص الذي تتحدث معه، لكن فقط حينما يُنادي أحدهم باسمك، حتّى إن كان لا يقصدك ويقصد فقط شخصًا آخر له نفس الاسم، ستلتفت فورًا.

كان هذا الشخص الذي نادى باسمك جزءًا من الهمهمات قبل قليل، لكن ما إن ذُكر اسمك بين كل تلك الهمهمات حتّى انتبه دماغك فورًا، يحدث ذلك لأن أدمغتنا انتقائية بطبعها، فهناك قدر كبير جدًا من المعلومات المحيطة بحيث لا يمكن للدماغ أن يعالج كل هذا فورًا، لذلك يضع معظم انتباهه على شيء واحد مع درجات انتباه أقل، لكنها ليست صفرًا، على الأشياء المحيطة.

في تلك النقطة تدخل الهواتف الذكية، فهي تستهلك الكثير من درجات الانتباه التي من المفترض أن تكون قليلة بالأساس، يتسبب ذلك في أن تمتلك درجة انتباه أقل في العموم، وهو ما يتسبب في تقليل تركيزك على أي مهمة تؤديها، ببساطة سيلتفت عقلك إلى تلك القطعة من البلاستيك القابعة هناك، سيود – بدرجة من الشهوة تقترب من الإدمان – لو تتفحصه لترى ماذا حدث.

هل أرسل صديقك الخبر الذي تنتظره؟ هل ردت عليك الفتاة التي تود لو تدخل في علاقة معها؟ ماذا عن فريقك المفضل، ما آخر أخباره؟ من قام بـ«قصف جبهة» من؟ ولمَ فعل ذلك؟ وكيف حال «جروب الدفعة» على فيسبوك؟ صف طويل جدًا من الأسئلة يقف على باب دماغك ويود لو تجيب عليه الآن، فقط بمد يديك إلى هاتفك الذكي.

ينقل جوزيف فيرث، من جامعة ويسترن سيدني الأسترالية، تلك النقطة إلى مستوى آخر، فهو يقول – في دراسة نشرت فقط قبل عدة أشهر – إن عالم الهواتف الذكية، والتواصل الاجتماعي من خلالها، يتميز في الأساس بقدراته على توزيع انتباهنا لنقاط عدة. في دراسته جاءت النتائج لتقول إن معدل تنقل الخاضعين للتجارب بين عدة شبكات اجتماعية على الجهاز نفسه نفسها هو مرة كل 19 ثانية فقط! وبحد أقصى مرة كل دقيقة.

لفهم الفكرة تخيّل أن عالم الهواتف الذكية مبني على قواعد البيولوجيا التطورية، لكن الانتخاب الطبيعي لا يقول هنا إن البقاء للأصلح، بل يقول إن البقاء للأكثر قدرة على لفت انتباهك، في هذا العالم تتواجد مجموعة من التطبيقات التي تتطور وتتنوع، كيف يمكن أن يكون مستقبلها؟

هوس العصر الرقمي

بالضبط، الأمر كما تصورت، تلك التطبيقات التي تلفت انتباه الجمهور ستبقى وتتنوع وتلقى قدرًا أفضل من الفرص، بينما تلك غير القادرة على لفت انتباه الناس ستخفت أضواؤها شيئًا فشيئًا، ثم ستنتهي للأبد، ليبقى لنا في النهاية عالم مبني بالكامل على لفت الانتباه. لا داعي للتخيل الآن، فهذا هو الواقع بالفعل.

لهذا السبب تتنافس تطبيقات الهواتف الذكية في التفنن في أدوات لفت الانتباه، شكلًا ولونًا وصوتًا وطبيعة الإشعار القادم إليك من هذا التطبيق، لكن ذلك بدوره يؤثر سلبًا علينا، لأنه يُفقدنا أهم مزايانا كبشر، وهي قدرتنا على التركيز على شيء محدد والعمل عليه، بغض النظر عن كل المنبهات الموجودة حولنا.

حسنًا، العالم الرقمي هو هبة البشرية المعاصرة، يمكن أن نستمر في التحدث عن فوائده الجمة، ولا ننتهي قبل أن نملأ مجلدات ضخمة، لكن في نفس الوقت فإننا – كبشر – لسنا مهيئين لقبول كل تلك الدفعات الهائلة من التواصل مرة واحدة، ولأننا كائنات تشتهي التواصل وتود دائمًا أن تكون ضمن شبكة، فإننا نفعل على أي حال.

لذلك فإن الحل لتلك المشكلات التي تواجهنا مع العالم الرقمي ليس أن تتوقف عن الخوض داخله، لأنك لن تتمكن من ذلك، ببساطة لأن العالم الرقمي ليس أن تغلق فيسبوك أو تمتنع عن التواصل عبر «الواتس»، لكنه حالة ينغمس فيها العالم المعاصر كاملًا، وأنت معه.

لذلك فإن أفضل الحلول هو التحكم، دقق في سلوكك مع الهاتف الذكي، انتبه لعدد المرات التي تتفحصه خلالها ومعدلات استخدامك اليومية، امنع نفسك عن الاستمرار في تلك الحالة القهرية من التجول على الصفحة الرئيسية للفيس بلا هدف، لا تلجأ للهاتف إلا لغرض، امنعه عن سريرك وطعامك وفي مهام العمل، إن محاولاتنا للتحكم في هوسنا بالهواتف الذكية هي محاولات للانغماس في الحقبة الرقمية لكن دون أن نفقد انتباهنا.