قبل يومين، كنت أتصفح الفيسبوك في ملل معتاد، فقلت لنفسي: «دعينا نسمع شيئا مفيدا»، فقمت بتشغيل وثائقي عن «هياكل نازية عملاقة». كان الوثائقي مثيرًا حقًا، فاندمجت فيه، وأنا «مائة عام من الـ scroll down» على الفيسبوك.. فجأة ظهر أمامي من حيث لا أدري منشورٌ يُقال إنه للمفاخرة عن ديكورات شقة! ما حدث فيما تلى تلك اللحظة من كوميديا سوداء لا أظنني أستطيع التعبير عنه بالكلمات. كانت عيناي تنظر إلى الصور وأذني تلتقط كلمات محددة – وفقط – من الوثائقي.

مشهد: الحيطان الزرقاء في كل مكان كان ذلك فظيعًا.

مشهد: حجرة الأطفال التي بها عرائس مشنوقة تتدلى من السقف | لم يستتطع أحد أن يُصدق أن بإمكانهم فعل ذلك.

مشهد: حجرة الطعام المتروسة بالمرايا | لقد كلّفهم ذلك كثيرا من احتياطي الخزانة.

مشهد: دولاب الملابس المرصوصة فيه الملابس الداخلية كمعارض الملابس الرخيصة | بدا ذلك مُضحكًا بالنسبة لأوروبا.

مشهد: حمام فيه بانيو أكل كل المساحة يقبع بجانبه جردل وخيشة | لقد خسروا كل ما أنفقوه في تلك الخردة!

وقتما انتبهت إلى العبث المُضحك الذي يقوم به عقلي، اقشعر جسدي لثانية، ثم ضحكت حتى تناثر الساندويتش الذي كنت آكله!

اممم … حسنًا.

هناك فلسفة تُسمى الـ «Maximalism» وهي فلسفة تُكرّس عقيدتها الأولى في «التضخيم»، وقد نشأت في عهد البارونات الفرنسي، وتم اعتمادها في كل جوانب الحياة؛ الديكور، العمارة، تصاميم البيوت، القصور الفخمة والكنائس ذوات اللوحات المعلقة في الأسقف والمزينة بالتماثيل والتحف والذهب. كذلك كان الحال في الفنون من موسيقى جنائزية فخمة ولوعات من الأوبرا المتعاظمة السبرانو والصولفاج، والرسم الباذخ على يد سدنة ذلك الفن. ومما لا شك فيه أن المنحوتات كانت قد تراجعت شيئًا يسيرًا إلا أنها كانت مساندة للديكورات كالثريات الضخمة المتدلية من الأسقف. كذلك الزخارف، وفروعها من مفارش، ومناظر تناسقية للديكور وردهات منزل وغرف معيشة.

حتى في الأزياء كالباروكات للرجال قبل النساء، ومساحيق التجميل المبالغ فيها، وأزياء النساء المنمقة للغاية من ناحية الصدر بالكثير من الكرانيش والقصات والكرمشات والواسعة جدًا من أسفل مع تظريزات مبالغ فيها، وكذلك أزياء الرجال كالقمصان التي تنتهي بأسوار فيها العديد من الكرانيش. والطهي أيضًا نال نصيبه من تلك الفلسفة، أطباق متروسة فخمة بالعديد من أنواع الخضر واللحم، والحلوى المُزينة بشتى الألوان والأشكال. يكفي أن نعرف أن 90% من الحلوى الغربية التي نأكلها اليوم هي نتاج عصر البارونات الفرنسي (الجاتوه – الماكرون – كعكات الزفاف – الميل-في… الخ). وامتد ذلك بالتبعية (أو لنقل كنتاج طبيعي لهكذا نفسيات يملأها المبالغة في التّفخم) إلى العلاقات الإنسانية، كالأدب و الشعر، والمجاملات اليومية بين النّاس، خصوصًا أولئك الذين ينتمون إلى الطبقات المرّفهة الثرية.

من لوحات الفنانين الإنجليز في القرن السادس عشر (نموذج للماكسيماليزم في الأزياء)

وتعتمد فلسفة «الطرف القصّي» على «التَّرْس»! والتَّرْس هنا معناه، الجمع بين: 1. عدد الموجود + 2. فخامة الموجود. ويظهر ذلك جليّا في لوحات ما قبل الثورة الفرنسية على وجه الخصوص. كل هذا كان مُكلفًا، باهظ التحمُل.

مع الثورة الفرنسية واستيلاء العامة على ممتلكات «الحراميّة» من الإقطاعيين، وتطور أوروبا ودخول عصور أخرى رديئة المعيشة، ثم الثورة الصناعية وتخلي الإنسان الحديث عن القاعدة الأولى من فلسفة الماكسماليزم (عدد الموجود) ليثبّت تركيزه على (فخامة الموجود)، باتت العائلات تتوارث «قِرطًا» للجدة، قرطًا واحدًا فقط، لكنه من ماس مثلا، ولوحة واحدة، وكرسيًا أثريًا واحدًا، وهكذا.

حتى دخول الحرب العالمية الثانية، لم يتأثر كل ذلك بشيء سوى قصور ذات اليد عند أغلبية الناس على حصولها على قطعة واحدة فخمة تُزيِّن بها صدر ردهة استقبال الضيوف مثلا. وفي السبعينيات، ومع انتشار صرعة الهيبيز، بدأت فلسفة «الماكسيماليزم» تأخذ منحنى مختلفًا نوعًا ما، فقد اختلطت بروح عقيدة أن هناك أرواحًا أخرى غير فرنسية-أوروبية، فبات الاقتناءُ يبحث عن الغرائبيات، كشواهد القبور الهندية، وألواح الوجوه الخشبية الأفريقية، والنباتات النادرة حقًا، وقطع الأقمشة الدمقسية والباكستانية واليابانية. وبالمختصر، صُبغت روح الماكسماليزم التي مكثت لسنوات طويلة جدًّا فلسفة أوروبية حصرية بصبغات تُناسب روح الإنسان المُعاصر المنفتح على الدّنيا إنفتاحًا مباغتا.

كان أوج نشاط الماكسمالي الهيبياوي أواخر الستينات وحتى نهاية السبعينات. وفي الثمانينات، كانت الفلسفة قد أصبحت مرهِقة المسايرة. لم يعد الإنسان الغربي في حاجة ليُثبت للعالم أنه منفتح على غيره من الحضارات. كانت حضارتُه (الآلية) تُناديه، فجعل من نفسه أول ركائز «الماكسيماليزم»، فضخم ثروته في البنوك، واستفاض في جمع ما أصبح في الثمانينات عوضًا عن لوحة من عصر البارونات الفخم: جهاز استريو أول دفعة بالسوق، جهاز تلفاز بعرض ملون عديد البوصات، جهاز كمبيوتر باكورة نتاج IBM، ساعة كاسيو تعمل تحت الماء تصلح لرياضات الأناقة والتفاخر أمام جميلات البكيني، وهكذا.

لكن مع الوقت أيضًا، وجد الإنسان نفسه مُرهقا بالمادية البشعة التي أكلت من روحه.. وأكلت من جيبه أيضًا. ولأنه يتمع بأنانية يُحسد عليها، لجأ لكل الطرق التي قد أتيحت له للبحث عن روحه. باتت صلوات الكنيسة بالنسبة له ترديدا لما عهده من قبل! مثلها مثل لوحة جده الفخمة التي ورثها، وغرفه استقبال جدته التي ملأتها بالمزهريات الصينية النادرة والأثاث «السينيه» وساعته الإلكترونية التي أنفق لشرائها نصفَ عام يكدحُ فيه من الصباح إلى المساء! لقد واجه كسادا في ماله.. روحه.. وأخيرا قدرته على الاستمتاع بالحياة، فلجأ إلى الغرائبيات مرة أخرى. جعل من حضارات الآخرين ملجأه نحو النجاة، ليتخفف، فأصبح بوذيا وهندوسيا، ذلك لما وجده من بساطة، وتخّفُف! تخّفُفٌ من كلّ شيء، حتى قيمه الغربية التي طالما آمن بها، تخّفُفٌ حتى آخر دولار في جيبه. عندها ظهرت فلسفة مُغايرة اسمها «الميناماليزم». يُقال إن منشأها الرئيس هو فلسفة الزن Zen، إحدى مدارس البوذية الصينية، فروّجها للعالم الدالاي لاما، الإمام البوذي الروحي الزاهد في كل شيء؛ ذلك الذي لا يحيط نفسه إلا بما هو: 1. بسيط المنظر + 2. قليل العدد.

فأضحت الميناماليزم أحد مشاهد الحياة مثلا في البيوت الآسيوية الحديثة وخصوصا اليابانية. فلا تجد في بيت الأسرة سوى أسرّة منخفضة، ومائدة واحدة، وأبسطة ألوانها لا تتعدى درجات اللون الواحد فقط الذي في العادة يتراوح بين الأبيض والكريمي. كما انصبغت باقي مظاهر الحياة بتلك الفلسفة؛ فثمة الأثاث القليل، الطعام القليل، العلاقات الإنسانية القليلة، الكلام القليل، كـتأكيد لتيار «العودة».. العودة للجذور.. للأرض.

نموذج للماكسيماليزم في الديكورات
نموذج للمينيماليزم في الديكورات

في الحقيقة .. ما شاهدته في صور تلك «الشقة» (إذا ما استطعنا مجازًا إطلاق ذلك الاسم عليها) هو إحدى الوقائع المصورة التي تشهد أن الغالبية العظمي من المصريين «مُسرفين». وللأسف، فإن إسرافهم يأتي مع انخفاض عام في دخولهم بالمقارنة بدول أخرى مجاورة، وفي ذلك دلالة خطيرة. ومنشأ ذلك – ربما – هو العادات البالية السيئة وانعدام الأذواق. والذوق، كما هو مُثبَت قطعيًا بالمشاهدات، ليس متعلّقًا أبدا بطبقة اجتماعية دون سواها؛ وإلا فلِمَ أنفق أصحاب تلك الشقة «الكارثية» ما يبدو أنه لا يقل عن 200 ألف جنيه مصري في تلك الديكورات البشعة؟! وما كنا لنرى بيوتًا متواضعة حقًا لكنها تشع جمالا ورحابة.

ارتفاع سقف الوعي بمصروفات المرء فيما يقابل احتياجاته، هو حصيلة من خلفيته الاجتماعية، مستوى ما يحيط به من مشاهدات، نسقه النفسي وإحساسه بالموجودات. وصدق أو لا تصدق، كل هذا في استطاعة المرء رفعه نحو حدود الذوق والفن والتناسق بكثرة المشاهدات؛ فلا يخلو اليوم أي جهاز نقّال مثلا من برنامج «انستغرام» الذي تجد عليه ملايين الحسابات الغربية والشرقية المتخصصة في الديكور والتنسيق، حتى لأتفه المساحات وأربحها على الإطلاق.

وبالمختصر، الإسراف من أبشع الصفات التي قد تنكب على عاتق أحدهم. فالإنسان الذي يشكو قلة المال ليشترك لأولاده في ناد رياضي، لكنه يصرف الآلاف من الجنيهات سنويًا على وجبات الديليفري في مقر عمله والمياه الغازية التي تشبه «الفنيك» والسجائر وجلسات المقاهي = شخص مسرف عديم الذوق.

والإنسان الذي يشكو قلة المال ليُسافر للترفيه والتعرف على الثقافات، لكنه يترس شقته بأثاث ضخم الجثة، وديكورات حفرية من عهد الديناصورات الأول، كريه المنظر، سخيف الألوان = شخص مسرف عديم الذوق.

والإنسان الذي يشكو صغر مساحة بيته ولا مجال فيه ليلعب أطفاله الصغار، لكنه يشتري ما يسمى بـ «النيش والفيش والبقلولويش» الضخم عريض الأطراف = شخص مسرف عديم الذوق.

ثمة مقولة رأيتها عند إحدى السيدات على إنستغرام متخصصة في الديكور تقول: «بيتك .. هو ما تفرشه على أقل من مهلك!». استغربت مقولتها، ولما وجدتها تتناقش مع متابعيها أنها نفسها قامت بفرش شقتها (وهي تحفة فنية حقًا من الماكسيماليزم) في ست سنوات كاملة، وعلى مهل وروية، وإعادة النظر والتمهل في الاختيار، فهمت! ولقد كان من ضمن نصائحها للنفوس التي تهوى «المكسماليزم» أن يراعوا في اختياراتهم الألوان الفاتحة المُبهجة، مع لمحة لون الخشب الدافئ الذي يُتيح للعين إطلالات البهجة في كل إلتفاته، مع ترك مساحة من البراح حتى – كما قالت – تفترشها وتنام وسطها!

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.

المراجع
  1. When Historical Minimalism becomes Philosophical Maximalism
  2. Maximalism and Moral Harmony: Douglas W. Portmore (2015)
  3. Princeton Workshop in Normative Philosophy: Maximalism vs. Omnism about Permissibility
  4. The Minimalist Principle: Omit Needless Things
  5. Zen and the Art of Minimalism – Part 1: Zen Philosophy
  6. 20 Vibrant Rooms That Prove Minimalism Is Out, Maximalism Is In