يؤمن الشيعة الإمامية الاثنا عشرية بتعاقب اثني عشر رجلاً من نسل الرسول، على منصب الإمامة. أول هؤلاء الرجال كان علي بن أبي طالب المتوفى 41هـ، وآخرهم هو الإمام الثاني عشر محمد بن الحسن العسكري الذي اختفى عن الأنظار في عام 329هـ.

في كتابه المهم «المعجزة أو سبات العقل في الإسلام» يسلط المفكر السوري جورج طرابيشي الضوء على ظاهرة «المعجزة» في الذهنية الشيعية الإمامية، ويحاول أن يربط بين تضخم تلك المعجزات والمبالغة فيها من جهة، والظروف التاريخية العصيبة التي مر بها الشيعة الإمامية عبر القرون من جهة أخرى.

المعجزة حجة الإمام

الباحث في تاريخ التشيع سيجد أن هناك عدداً كبيراً من الكتب والمصنفات المختصة بذكر معجزات الأئمة الشيعة الاثنا عشرية. من أهم تلك المؤلفات كل من «نوادر المعجزات في مناقب الأئمة الهداة» لمحمد بن جرير الطبري الإمامي الذي عاش في القرن الرابع الهجري، و«عيون المعجزات» للحسين بن عبد الوهاب الذي عاش في القرن الخامس الهجري، و«مدينة المعاجز» لهاشم البحراني المتوفى 1109هـ، وهو الكتاب الأكثر شهرة في هذا الباب، لا سيما وقد ضمت صفحاته ما يزيد عن الألفي معجزة كاملة.

الملاحظة المهمة التي تبدو واضحة في جميع تلك الكتب، هي أن مؤلفيها قد اجتمعوا بعضهم مع بعض –على الرغم من القرون الكثيرة الفاصلة فيما بينهم- على أهمية وضرورة وقوع المعجزات على يد الأئمة.

الحجة الرئيسة التي ساقها علماء الشيعة في سبيل إثبات ذلك الأمر أن الإمام مثله مثل الرسول والنبي، فجميعهم حجج لله عز وجل على خلقه، وبهم تصل الرسالة الحقة إلى الناس، ولهذا كان من اللازم أن يؤيد كل منهم –الرسول/ النبي/ الإمام- بمجموعة من المعجزات الخارقة للعادة، والتي تؤكد لقومه صدق قوله، حتى لا يبقى لأي أحد سبيلاً لإنكار الدعوة أو طريقاً للفرار من التكليف المفروض عليه.

الطبري الإمامي، في كتابه نوادر المعجزات، تحدث عن سبب تأييد الأئمة بالمعجزات والخوارق، فقال: «ولو لم يجعلهم كذلك -قادرين كاملين عالمين معصومين- لم تبدُ من أولهم وأوسطهم وآخرهم القدرة الباهرة، والمعجزة التامة، والبراهين الساطعة، والدلائل الواضحة، والعلوم الكاملة وما اتبعهم أحد، وما آمن بهم نفر ولصارت أمور الخلق داعية إلى البوار وذهاب الحرث والنسل…».

من هنا تأخذ المعجزة مكانها في الذهنية الشيعية الجمعية، على كونها حلقة الوصل بين السماء والأرض، فهي الشاهد الرباني على صدق المبعوث الإلهي، وهي الوسيلة المفضية إلى تمكين أهل البيت وتأكيد سلطتهم وأعلميتهم بين عموم المسلمين.

في كتابه الموسوعي «بحار الأنوار»، نقل العلامة محمد باقر المجلسي المتوفى 1111هـ عن الإمام الرابع علي زين العابدين، قوله المؤكد على التماهي والتشابه بين سلطات النبي والإمام: «ما أعطى الله نبياً شيئاً قط إلا وقد أعطاه محمداً صلى الله عليه وآله، وأعطاه ما لم يكن عندهم، وكل ما كان عند رسول الله صلى الله عليه وآله فقد أعطاه أمير المؤمنين عليه السلام، ثم الحسن والحسين ثم من بعد كل إمام إماماً إلى يوم القيامة…».

في كتابه سابق الذكر تحدث طرابيشي عن بعض السمات المميزة للمعجزات الشيعية الإمامية، والتي تفرق كثيراً فيما بينها وبين النسق الإعجازي عند أهل السنة والجماعة، فكان مما أشار إليه: «إن أول ما يميز أدبيات المعجزات الشيعية الإمامية هو تضخم الخيال كبديل تعويضي عن انكماش الواقع»، وهو أمر مفهوم إلى حد بعيد إذا رجعنا لتاريخ الشيعة على مر القرون. فالشيعة الذين ظهروا وسط الحروب والخلافات السياسية الكبرى التي وقعت داخل الدولة الإسلامية في القرن الأول الهجري، سرعان ما نُظر إليهم على كونهم فرقة مبتدعة منحرفة عن الطريق الإسلامي القويم، ووجهت لهم السلطة الممثلة في دولة الخلافة الراشدة/ الأموية/ العباسية سهام النقد والتشكيك، بل تجاوزت ذلك في الكثير من اللحظات التاريخية الحرجة، لتصل حدود العداء والاستهداف لمرحلة التضييق والاضطهاد وممارسة العنف والتصفية الجسدية في الكثير من الأحيان. كل هذا أسهم في انكفاء الشيعة الإمامية على أنفسهم، وعملهم على اختلاق تاريخ مناقبي مجيد لأئمتهم، ومن ثم كان تزايد الاضطهاد والعنف يتناسب طردياً مع تضخيم السردية الإعجازية الشيعية من جهة، والتأكيد على المبالغات الواردة في تفاصيلها من جهة أخرى، وهو الأمر الذي أشار إليه طرابيشي بقوله: «ما كان لمنطق آخر أن يصمد غير منطق المعجزة، فالمعجزة هي سلاح من لا سلاح له».

معجزات الميلاد

تُعدُّ معجزات ميلاد الأئمة إحدى أهم أنواع المعجزات المرتبطة بسير الأئمة الاثني عشر، وهو أمر غير مستغرب، خصوصاً أن ميثولوجيا القرون الوسطي –في بلاد الإسلام وغيرها من البلدان- كانت تولي اهتماماً خاصاً بلحظة الميلاد على وجه التحديد، وهو الأمر الذي يمكن التأكد منه بمراجعة ما كُتب عن ميلاد الشخصيات المقدسة في كل دين، ومنهم على سبيل المثال كل من النبي موسى والمسيح وبوذا وزرادشت.

يحكي المجلسي في بحار الأنوار الكثير من التفاصيل عن ولادة الإمام الأول علي بن أبي طالب، ويظهر في القصة العديد من التفاصيل التي تتشابه كثيراً مع الصورة القرآنية للولادة الإعجازية للمسيح عيسى بن مريم.

يحكي المجلسي أن فاطمة بنت أسد –زوجة أبي طالب وأم علي- قد دخلت في أواخر أيام حملها إلى جوف الكعبة، ولم تخرج منها إلا بعد ثلاثة أيام، فقالت لمن أحاط بالبيت الحرام وهي تحمل وليدها –علي- بين يديها «…هتف بي هاتف وقال: يا فاطمة سميه علياً فأنا العلي الأعلى، وإني خلقته من قدرتي، وعز جلالي وقسط عدلي، واشتققت اسمه من اسمي، وأدبته بأدبي وفوضت إليه أمري، ووقفته على غامض علمي، وولد في بيتي وهو أول من يؤذن فوق بيتي، ويكسر الأصنام ويرميها على وجهها، ويعظمني ويمجدني ويهللني، وهو الإمام بعد حبيبي ونبيي وخيرتي من خلقي محمد رسولي، ووصيه، فطوبى لمن أحبه ونصره، والويل لمن عصاه وخذله وجحد حقه ». وتُستكمل الرواية بعد ذلك أن الرسول لما رأى علياً، «اهتز له أمير المؤمنين وضحك في وجهه وقال: السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته، ثم تنحنح بإذن الله تعالى وقال: (بسم الله الرحمن الرحيم* قد أفلح المؤمنون* الذين هم في صلاتهم خاشعون) إلى آخر الآيات. فرد عليه الرسول قد أفلحوا بك، وقرأ تمام الآيات إلى قوله: (أولئك هم الوارثون* الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون».

معجزة الكلام  في المهد لن تنحصر في شخص علي بن أبي طالب وحده، بل سنجدها متواترة في سير جميع الأئمة، على سبيل المثال، ذكر محمد بن يعقوب الكليني المتوفى 329هـ في كتابه «الكافي» أن أحد الشيعة قد ذهب لبيت الإمام السادس جعفر الصادق، فوجده يحمل ابنه الرضيع موسى –وهو الذي سيصبح فيما بعد الإمام السابع موسى الكاظم- ويحكي الشيعي أن الصادق قد أمره «ادْنُ مِنْ مَوْلَاكَ –يقصد الكاظم- فَسَلِّمْ فَدَنَوْتُ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَرَدَّ عَلَيَّ السَّلَامَ بِلِسَانٍ فَصِيحٍ ثُمَّ قَالَ لِيَ اذْهَبْ فَغَيِّرِ اسْمَ ابْنَتِكَ الَّتِي سَمَّيْتَهَا أَمْسِ فَإِنَّهُ اسْمٌ يُبْغِضُهُ اللَّهُ وَكَانَ وُلِدَتْ لِيَ ابْنَةٌ سَمَّيْتُهَا بِالْحُمَيْرَاءِ فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ –الإمام الصادق- انْتَهِ إِلَى أَمْرِهِ تَرْشُدْ فَغَيَّرْتُ اسْمَهَا».

أيضاً، ذكر المجلسي وقوع المعجزة نفسها على يد الإمام الثامن علي الرضا، إذ ينقل عن أم الرضا أنها قالت: «لما حملت بابني –علي الرضا- لم أشعر بثقل الحمل، وكنت أسمع في منامي تسبيحاً وتهليلاً وتمجيداً في بطني فيفزعني ذلك ويهولني، فإذا انتبهت لم أسمع شيئاً، فلما وضعته وقع على الأرض واضعاً يده على الأرض رافعاً رأسه إلى السماء يحرك شفتيه كأنه يتكلم…».

المعجزة ستتكرر مع ميلاد الإمام الثاني عشر محمد بن الحسن العسكري، إذ يذكر المجلسي أنه لما ولد حمله أبوه وقال له: «اقرأ يا بني مما أنزل الله على أنبيائه ورسله، فابتدأ بصحف آدم فقرأها بالسريانية، وكتاب إدريس، وكتاب نوح، وكتاب هود، وكتاب صالح، وصحف إبراهيم، وتوراة موسى، وزبور داود، وإنجيل عيسى، وفرقان رسول الله»، وهكذا يظهر الطفل الرضيع أعلميته وتفوقه على جميع العلماء والشيوخ مع اللحظات الأولى لوصوله إلى تلك الدنيا.

معجزات المسخ

 وهي تلك المعجزات التي يقوم فيها أحد الأئمة بمسخ أحد الرجال المعارضين أو المعادين له، ليتحول إلى حيوان وضيع الشأن، كريه المنظر، ولا يقوم الإمام بإعادته إلى حاله الأول إلا بعد الكثير من المناشدة والاستعطاف.

يفسر طرابيشي ذلك النوع من المعجزات بـ«الرهان على الحاجة القهرية للعقل البشري إلى الإلغاء المؤقت لنفسه بين الحين والآخر، فضلاً عن دغدغتها للنرجسية البشرية التي يطيب لها تخيل أبطال بشر محبوبين بقدرات إلهية خارقة».

الطبري الإمامي ذكر في كتابه نوادر المعجزات بعض المعجزات التي وقعت فيها حالات المسخ، من ذلك أن رجلاً قد غصب زوجة أحد الشيعة، فجاء هذا الشيعي إلى علي بن أبي طالب شاكياً، فأرسل علي بعمار بن ياسر ليأتي له بهذا الغاصب، فلما حضر أمامه، قال له: «يا لعين ابن اللعين، والزنيم ابن الزنيم، أما تعلم أني أعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وأني حجة الله في أرضه وبين عباده، تفتك بحريم المؤمنين؟! أتراك أمنت عقوبتي عاجلاً وعقوبة الله آجلاً؟!»، ثم قال لعمار: «يا عمار، جرده من ثيابه»، وقرعه بالقضيب على كبده وقال: اخسأ لعنك الله، فمُسخ هذا الرجل وتحول لسلحفاة.

أما هاشم البحراني فقد ذكر في كتابه مدينة المعاجز صورة أخرى من تلك المعجزة، إذ حكى أنه بينما كان علي في مسجد الكوفة يجهز جيشه لقتال معاوية «إذ اختصم إليه رجلان، فعلا صوت أحدهما في الكلام، فالتفت إليه علي، وقال له: اخسأ، فإذا رأسه رأس كلب، فبهت الذين حوله، فمال الرجل بأصابعه، وتضرع إلى أمير المؤمنين، وقال من حوله: يا أمير المؤمنين، أقله عثرته، فحرك شفتيه، فعاد كما كان».

معجزات التحويل لم تقتصر على المسخ إلى صور الحيوانات فقط، بل امتدت أيضاً لتحويل الجمادات إلى بعض الكائنات المرعبة والتي تثير الرعب في القلوب. ومن ذلك ما ذكره شاذان بن جبرائيل القمي المتوفى 660هـ في كتابه الفضائل على لسان الخليفة الثاني عمر بن الخطاب، أنه قد قابل علي بن أبي طالب ذات يوم، وسارا معاً ناحية المقابر وكان علي يمسك قوساً «فلما صرنا في الجبانة رمى بقوسه من يده فصار ثعباناً عظيماً مثل ثعبان موسى، فتح فاه وأقبل نحوي ليبتلعني فلما رأيت ذلك طار قلبي من الخوف وتنحيت وضحكت في وجه علي عليه السلام وقلت له الأمان يا علي بن أبي طالب، اذكر ما كان بيني وبينك من الجميل فلما سمع هذا القول استفرغ ضاحكاً، وقال: لطفت في الكلام، فإنا أهل بيت نشكر القليل، فضرب بيده إلى الثعبان وأخذه بيده وإذا هو قوسه الذي كان بيده».

معجزات اللغات

لما كان الإمام في الاعتقاد الشيعي التقليدي هو أعلم البشر –بعد الأنبياء والرسل- وأكثرهم فهماً للحقائق والمعارف، فقد كان من الطبيعي أن تهتم السردية الإعجازية الشيعية بالتأكيد على إتقانه لكل اللغات المعروفة.

في هذا السياق، ينقل الشيخ المفيد المتوفى 413هـ في كتابه الاختصاص، عن الإمام الثاني الحسن بن علي: «إن لله مدينتين إحداهما بالمشرق والأخرى بالمغرب، عليهما سور من حديد وعلى كل مدينة ألف ألف مصراعين من ذهب وفيهما سبعون ألف ألف لغة يتكلم كل لغة بخلاف صاحبتها وأنا أعرف جميع اللغات، وما فيهما وما بينهما وما عليهما حجة غيري وغير أخي الحسين».

الدلالة نفسها تظهر فيما نقله المفيد في كتابه، أن بعضاً من شيعة الإمام جعفر الصادق، قد ذهبوا لزيارته ذات يوم، فلما اقتربوا من باب المنزل سمعوا صوتاً يقرأ باللغة العبرانية، فلما دخلوا على الإمام، استفسروا منه «فقالوا: أصلحك الله سمعنا صوتاً بالعبرانية فظننا أنك بعثت إلى رجل من أهل الكتاب استقرأته، فقال: لا ولكني ذكرت مناجاة إيليا فبكيت من ذلك، قلنا: وما كانت مناجاته؟ فقال: جعل يقول: يا رب أتراك معذبي بعد طول قيامي لك وعبادتي إياك ومعذبي بعد صلاتي لك، وجعل يعدد أعماله فأوحى الله إليه أني لست أعذبك، فقال: يا رب وما يمنعك أن تقول: لا بعد نعم وأنا عبدك وفي قبضتك، فأوحى الله إليه أني إذا قلت قولاً وفيت به».

علم الإمام باللغات لا يقف عند حدود اللغات البشرية المتداولة، بل يتجاوز هذا ليتشابه مع موهبة النبي سليمان الذي كان يعرف لغات الحيوانات والطيور، وفي ذلك ينقل الحسين بن عبد الوهاب في عيون المعجزات عن الإمام الكاظم قوله: «إن الإمام لا يخفى عليه كلام أحد من الناس ولا منطق الطير والبهائم، فمن لم يكن فيه هذه الخصال فليس بإمام…».

وينقل الشيخ المفيد عن أبي حمزة الثمالي –أحد الشيعة المعروفين في القرن الأول الهجري- قوله: «كنت مع علي بن الحسين عليهما السلام في داره وفيها شجرة فيها عصافير وهن يصحن، فقال: أتدري ما يقلن هؤلاء؟ فقلت: لا أدري، فقال: يسبحن ربهن ويطلبن رزقهن».

السردية الإعجازية الشيعية اعتادت أن توظف معجزة كلام الأئمة مع الحيوانات في سياق تأكيد أعلميتهم وعدالتهم المطلقة، ومن ذلك ما ورد في عيون المعجزات من أن رجلاً وامرأة قد اختصما في جمل، كل منهما يدعي أنه صاحبه، فحكم علي بن أبي طالب بالجمل للمرأة، فاعترض الرجل واتهم علياً بالظلم، فسأل علي الجمل: «أيها الجمل لمن أنت»، فقال بلسان فصيح: «يا أمير المؤمنين ويا سيد الوصيين، أنا لهذه المرأة منذ بضع عشرة سنة»، فقال علي للمرأة: «خذي جملك، وعارض الرجل بضربة فقسمه نصفين».

كما اهتمت تلك السردية أحياناً بإبراز تلك المعجزة في بعض المواقف السياسية المهمة في سير الأئمة، ومن ذلك ما أورد الطبري الإمامي في كتابه دلائل الإمامة، من أن الحسين بن علي وهو في طريقه إلى الكوفة، قد قابل أسداً «فوقف له فقال له: ما حال الناس بالكوفة؟ قال: قلوبهم معك وسيوفهم عليك، قال: ومن خلفت بها؟ فقال: ابن زياد وقد قتل ابن عقيل…». وهكذا يحل الأسد في تلك الرواية محل الشاعر الفرزدق، الذي اعتادت الكتابات التاريخية أن تنسب إليه تلك الجملة المشهورة «قلوبهم معك وسيوفهم عليك».

كلام الأئمة مع الأسود يتكرر كثيراً في السردية الإعجازية الشيعية، وهو أمر يبدو مفهوماً، لمكانة الأسد في الذهنية العربية الجمعية، ولكونه قد اعتاد أن يمثل معاني القوة والبأس والشجاعة، ومن ذلك ما ذكره ابن شهر آشوب المازندراني المتوفى 588هـ في كتابه «مناقب آل أبي طالب»، عندما ينقل عن أحد أصحاب علي بن أبي طالب، أنه كان مع الخليفة الرابع في طريق، فخرج لهما أسد واقترب منهما، فوقف له أبو الحسن كالمصغي إلى همهمته، ثم تنحى الأسد إلى جانب الطريق، وحوَّل أبو الحسن وجهه إلى القبلة وجعل يدعو بما لم أفهمه، ثم أوى إلى الأسد بيده أن امضِ، فهمهم الأسد همهمة طويلة وأبو الحسن يقول آمين آمين، وانصرف الأسد، فقلت له: جعلت فداك عجبت من شأن هذا الأسد معك! فقال: إنه خرج إليَّ يشكو عُسر الولادة على لبوته، وسألني أن أسأل الله أن يُفرِّج عنها، ففعلت ذلك، وألقي في روعي أنها تلد ذكراً فخبرته بذلك، فقال لي: امضِ في حفظ الله فلا سلط الله عليك ولا على ذريتك ولا على أحد من شيعتك شيئاً من السباع، فقلت: «آمين».

مبالغة السردية الإعجازية الشيعية فيما يخص معرفة الأئمة بشتى اللغات تصل إلى ذروتها مع تلك الروايات التي تتحدث عن كلام الإمام مع الأجرام السماوية، ومن ذلك النوع الرواية المشهورة التي يذكرها ابن شهر آشوب في كتابه «كلمت الشمس علي بن أبي طالب سبع مرات: فأول مرة قالت له: يا إمام المسلمين اشفع لي إلى ربي أن لا يعذبني، والثانية قالت له مرني أحرق مبغضيك فإني أعرفهم بسيماهم، والثالثة ببابل وقد فاته العصر فكلمها وقال لها ارجعي إلى موضعك فأجابته بالتلبية، والرابعة قال: يا أيتها الشمس هل تعرفين لي خطيئة؟ قالت: وعزة ربي لو خلق الله الخلق مثلك لم يخلق النار، والخامسة فإنهم اختلفوا في الصلاة في خلافة أبي بكر فخالفوا علياً فتكلمت الشمس ظاهرة فقالت: الحق له وبيده ومعه، سمعته قريش ومن حضره، والسادسة حين دعاها فأتته بسطل من ماء الحياة فتوضأ للصلاة فقال لها: من أنت؟ فقالت: أنا الشمس المضيئة، والسابعة عند وفاته حين جاءت وسلمت عليه وعهد إليها وعهدت إليه».

شفاء المرضى وإحياء الموتى

لما كان الاعتقاد الشيعي الإمامي الراسخ يرى أن الإمام يستمد نوره وبرهانه من نفس المشكاة التي استمد منها النبي/ الرسول قداسته، فقد كان من الطبيعي والحال كذلك أن تعيد السردية الإعجازية الشيعية إنتاج المعجزات المنسوبة للأنبياء، وأن تقدمها منسوبةً إلى الأئمة من آل البيت، ومن هنا يمكن فهم سبب كثرة المعجزات الإمامية التي تسير على تيمة شفاء المرضى وإحياء الموتى، وهي التيمة التي نسبها القرآن الكريم للمسيح عيسى ابن مريم.

محمد باقر المجلسي عقد في كتابه الموسوعي بحار الأنوار باباً كاملاً في تلك المسألة، وسماه «إنهم –أي الأئمة- يقدرون على إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص».

مما ورد في هذا الباب أن زعماء قبيلة قريش قد ذهبوا إلى الرسول وسألوه أن يحيي لهم موتاهم، فوجه معهم علي بن أبي طالب، وقال له: «اذهب إلى الجبانة فنادِ باسم هؤلاء الرهط الذين يسألون عنهم بأعلى صوتك: يا فلان، ويا فلان، ويا فلان، يقول لكم رسول الله: قوموا بإذن الله، فقاموا ينفضون التراب عن رؤوسهم، فأقبلت قريش تسألهم عن أمورهم، ثم أخبروهم أن محمداً قد بعث نبياً، فقالوا: وددنا أنا أدركناه فنؤمن به…».

وإذا كان الإمام في الرواية السابقة يظهر كأداة لتحقيق المعجزة وأن المصدر الرئيس لها هو الرسول، فإن الإمام يظهر في العشرات من الروايات الأخرى كمصدر وأداة معاً، من ذلك ما ذكره هاشم البحراني عن الإمام الأول علي بن أبي طالب، عندما أتاه شاب من بني مخزوم، أصابه حزن شديدٌ لوفاة أخيه، فخرج معه علي حتى وصلا إلى القبر، فضربه برجله، عندئذ خرج الميت من مدفنه وعاد إلى الحياة. كما ذكر البحراني في موضع آخر من كتابه أن علياً قد أعاد الحياة إلى سام بن نوح، وتبادل معه الحديث أمام جمع من الناس، وكذلك أنه أحيا عدداً من جنوده الذين قتلوا يوم واقعة صفين، وروي كذلك أن الحسين بن علي، قد قام بإحياء سيدة ماتت قبل أن توصي بميراثها، فلما قامت وأوصت عادت مرة أخرى ميتة من فورها!

رجل الدين الشيعي محمد بن الحسن الحر العاملي المتوفى 1104هـ، ذكر في كتابه «إثبات الهداة بالنصوص والمعجزات»، العديد من المعجزات التي قام فيها الأئمة بإحياء الموتى، وعدَّ ذلك من دلائل إمامتهم الدامغة التي لا يرتقي إليها الشك، من ذلك أن أحد المشككين في إمامة علي الرضا قد قابله وكشف له عما يعتمل في صدره من شكوك، فقال له الرضا إن آية الإمام أن يحيي الموتى، وتابع: «وأمَّا أهلك فإنَّها ماتت منذ سنة، وقد أحييتها الساعة، وأتركها معك سنة أخرى، ثمَّ أقبضها إليَّ لتعلم أنِّي إمام بلا خلاف»، وتتابع الرواية على لسان الرجل أنه لما وصل منزله «فإذا بأهلي جالسة، فقلت لها: ما الذي جاء بك؟ فقالت: كنت نائمة إذ أتاني آتٍ ضخم شديد السمرة، فوصفت لي صفة الرضا صلوات الله عليه فقال لي: يا هذه، قومي وارجعي إلى زوجك، فإنك ترزقين بعد الموت ولداً. فرزقت والله».

وفي رواية أخرى يتشكك أحد الشيعة في إمامة الرضا، ويطلب منه أن يحيي له أباه وأمه فرد عليه الرضا «انصرف إلى منزلك: فقد أحييتهما»، ويتابع الراوي «فانصرفت والله وهما في البيت أحياء، فأقاما عندي عشرة أيام، ثم قبضهما الله تبارك وتعالى».

معجزة إحياء الموتى لا تقتصر على الموتى من البشر، بل تشمل الحيوانات النافقة أيضاً، ومن ذلك ما ذكره هاشم البحراني في مدينة المعاجز أن الإمام الصادق قد «جيء إليه بسمك مسلوخ‌، فمسح يده على سمكة فمشت بين يديه…»، وما ذكره الحر العاملي في إثبات الهداة أنه وبينما كان الإمام محمد الباقر سائراً مِن مكَّة إلى المدينة… إذ انتهى إلى جماعةٍ على الطريق، فإذا رجلٌ منهم قد نفق حمارُه، وتبدَّد متاعه، وهو يبكي. فلمَّا رأى أبا جعفرٍ عليه السَّلام أقبل إليه وقال له: يا ابن رسول الله، نفقَ حماري وبقيتُ منقطعاً، فادعُ اللهَ أن يُحييَ لي حماري. فدعا أبو جعفر وحرك شفتَيه بما لم يسمعه أحد منهم… فإذا بالحمار وقد انتفض، فأخذه صاحبه وحمل عليه رَحْلَه.. وسار معنا حتَّى دخل مكَّة».

الشفاء من الأمراض والتحول من الهرم إلى الشباب أيضاً، كانا من بين المعجزات المهمة التي استأثر بها الأئمة، ومن أهم الأمثلة على ذلك قصة حبابة التي ذكرها الحسين بن حمدان الخصيبي المتوفى 358هـ في كتابه «الهداية الكبرى».

بحسب الرواية، كانت حبابة امرأة تعيش في عصر الإمام الأول علي بن أبي طالب، وقد وعدها علي بطول العمر، وأنها ستلقى الأئمة المنحدرين من صلبه، حتى الإمام الثامن علي الرضا. وبالفعل، ظلت حبابة تعيش حتى قابلت الرضا، فسألها: «يا حبابة ترين بياض شعرك؟ قلت: بلى يا مولاي، قال: يا حبابة أفتحبين أن تريه أسود حالكاً كما كان في عنفوان شبابك؟ قلت: نعم يا مولاي، قال: يا حبابة ويجزيك ذلك أو نزيدك؟ فقلت: يا مولاي زدني من فضلك عليَّ، قال: أتحبين أن تكوني مع سواد شعرك شابة؟ فقلت: يا مولاي هذا البرهان عظيم، قال: وهذا أعظم منه ما تجدينه مما لا يعلم الناس به، فقلت: يا مولاي اجعلني لفضلك أهلاً فدعا بدعوات خفية حرك بها شفتيه، فعدت والله شابة طرية غضة سوداء الشعر حالكاً، ثم دخلت خلوة في جانب الدار ففتشت نفسي فوجدتها بكراً فرجعت وخررت بين يديه ساجدة».

معرفة الغيب

تتفق المصادر الشيعية الإمامية على معرفة الأئمة للكثير من أخبار الغيب التي سمح الله عز وجل لهم بالاطلاع عليها، وتستشهد تلك المصادر بما ورد في سورة الجن «عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَىٰ غَيْبِهِ أَحَدًا، إِلَّا مَنِ ارتضى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا».

هذا الاعتقاد ورد بشكل صريح في العديد من الروايات المنسوبة إلى الأئمة، ومن ذلك ما رواه الكليني في كتابه الكافي عن الإمام الكاظم، أنه لَمَّا سأله رجُلٌ مِنْ أهْلِ فارِسَ: أتَعْلَمُونَ الغَيْبَ؟ رد عليه «يُبْسَطُ لَنا العِلْمُ فَنَعْلَمُ، وَيُقْبَضُ عَنَّا فَلاَ نَعْلَمُ، وَقالَ سِرُّ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ أسَرَّهُ إلى جَبْرَائيلَ عَلَيْهِ السَّلامُ، وَأسَرَّهُ جَبْرَائيلُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ إلى مُحَمَّدٍ، وَأسَرَّهُ مُحَمَّدٌ إلى مَنْ شاءَ اللهُ».

الكتابات والمؤلفات التي اهتمت بالحديث عن حياة الأئمة، امتلأت بتلك النبوءات التي قالوا بها، والتي تحدث الجزء الأكبر منها عن توقعهم للنهايات الدامية لحيواتهم وحياة خلفائهم.

من ذلك ما ذكرته أغلب المصادر الشيعية، من أن الإمام الأول علي بن أبي طالب كان يعرف أن عبد الرحمن بن ملجم المرادي هو الذي سيقتله، وأن علياً كان «ينادي في الملأ أن من أراد أن ينظر إلى قاتلي فلينظر لهذا ويشير إلى عبد الرحمن بن ملجم».

وما ذكره البحراني في مدينة المعاجز، عن توقع الحسن بن علي وهو على فراش الموت، للنهاية البشعة لأخيه الحسين في كربلاء، والتي ستقع بعد عشر سنين كاملة، عندما قال له وهو في لحظاته الأخيرة «إن الذي يؤتى إليَّ سم يدس إليَّ فأقتل به ولكن لا يوم كيومك يا أبا عبد الله يزدلف إليك ثلاثون ألف رجل يدعون أنهم من أمة جدنا محمد وينتحلون دين الإسلام فيجتمعون على قتلك وسفك دمك وانتهاك حرمتك وسبي ذراريك ونسائك وأخذ ثقلك فعندها تحل ببني أمية اللعنة وتمطر السماء رماداً ودماً، ويبكي عليك كل شيء حتى الوحوش في الفلوات والحيتان في البحار».

الإمام السادس جعفر الصادق أيضاً، كان من بين الأئمة المعروفين بالقدرة على معرفة الغيب، ومن ذلك قوله المشهور: «ما منا –يقصد الأئمة- إلا مسموم أو مقتول»، وهو القول الذي سيتم استدعاؤه بصورة قدرية حزينة مع نهاية حياة كل إمام من الأئمة.

أيضاً عُرف الصادق بنبوءته المشهورة في اجتماع الأبواء والتي توقع فيها أن يصل العباسيون إلى السلطة. تقول الرواية إن اجتماعاً مهماً بين زعماء الفصائل السياسية المعارضة للأمويين انعقد في قرية الأبواء القريبة من المدينة المنورة، عام 127هـ، وحضره الإمام العباسي إبراهيم بن محمد، وأخواه أبو العباس وأبو جعفر، كما شارك فيه عبد الله بن الحسن المثنى وجعفر الصادق كممثلين عن التيار العلوي، وتشاور الجميع حول الطرق المُثلى لإسقاط السلطة الأموية.

يذكر كل من أبي الفرج الأصفهاني في كتابه «مقاتل الطالبيين»، والشيخ المفيد في كتابه «الإرشاد إلى معرفة حجج الله على العباد»، أن الحاضرين في هذا الاجتماع اتفقوا على زعامة محمد النفس الزكية لتيار المعارضة الهاشمي، ولكن الإمام جعفر الصادق، عارض ذلك، ورفض أن يقبل بإمامة النفس الزكية، بل أخبر الجميع أن العباسيين هم الذين سيصلون إلى السلطة، وأن أبا جعفر المنصور هو الذي سيعتلي كرسي الخلافة، وهو ما حدث بالفعل في نهاية الأمر.