كان هذا المذهب أكثر قبولا لدى الوطنيين والقوميين العرب، فكل مذهب حداثي آخر كان يشي بمنبته الأوروبي وينذر بمسخ الطابع القومي والروح القومية.
شكري عياد في وصفه للمذهب الواقعي في الأدب

يبدو أن قدر العالم العربي في العصر الحديث أن يكون تابعا للغرب الغالب في مختلف مجالات الحياة، إذ لم يكن ذلك في ميدان التقدم العلمي والصناعة والمخترعات الحديثة فحسب، وإنما كان هذا الاتباع في عالم الأدب والنقد وميدان الفكر الإنساني بعامة. فإنك لا تكاد تجد اتجاهًا أدبيًا أو فكرة نقدية في العالم العربي اليوم، إلا ولها جذور في الفكر الغربي تابعه العرب عليه. ومن ذلك ما يعرف باتجاهات الأدب أو المذاهب الأدبية في العصر الحديث. فإنك تجد اتجاهات الأدب العربي كلها كانت نشأت بتأثير من اتجاهات الأدب الغربي وفلسفاته. يصدق ذلك على الكلاسيكية والرومانسية والواقعية والرمزية والوجودية والسيريالية والعبثية وغيرها إلى ما يعرف اليوم بالحداثة وما بعدها.


مدرسة الإحياء والبعث

مالت «مدرسة الإحياء والبعث» إلى احتذاء شعر الفحول، الذين صنعوا مجد الشعر العربي، في العصر الجاهلي وصدر الإسلام، وفي العصر العباسي بخاصة.

فإذا كانت الكلاسيكية، أو ما يطلق عليه المذهب الاتباعي أو المدرسي، أقدم مذهب أدبي غربي، دعا إلى الالتزام بالتقاليد الفنية الموروثة ورأى ضرورة اتباعها وعدم الخروج عليها، ودعا إلى محاكاة النماذج العليا التي أرسى تقاليدها اليونان والرومان، على مستوى اللغة والأسلوب والمضامين، فإن البداية الحقيقية للأدب العربي الحديث لم تكن إلا صدى لهذه المدرسة، حيث مالت «مدرسة الإحياء والبعث» إلى احتذاء شعر الفحول، الذين صنعوا مجد الشعر العربي في القرون الأربعة الأولى، في العصر الجاهلي وصدر الإسلام، وفي العصر العباسي بخاصة، حيث بلغ الشعر ذروة السنام.

وإذا كنا لا نستطيع القطع بيقين أن البارودي رائد هذه المدرسة قد طالع بعض حركات التجديد الشعري في تركيا أثناء إقامته هناك، أو أنماطًا من التجديد في الشعر الفارسي الذي كان يعرفه ويحاول النظم على منواله، فحاول القيام بحركة مشابهة في الأدب العربي، أو أن ذلك كان نابعًا من ذوقه المحض- إذا كنا لا نستطيع القطع بذلك فإن أحمد شوقي، أعظم خلفاء البارودي، كان متأثرًا بلا شك، بالأدب الفرنسي، وقد نزع منزعًا كلاسيكيًا واضحًا، كما تدل المقدمة التي كتبها للطبعة الأولى من ديوانه الصادر عام 1898. وقد دفع شوقي بالكلاسيكية خطوة أخرى بعد أن أتم البارودي الخطوة الأولى، بتخليص لغة الشعر من الزخرفة الفارغة، وأعاد اللحمة بينها وبين الشعور والخيال.[1]، وقد اقتحم شوقي الشعر القصصي، وكتب كذلك الرواية والمسرحية الشعرية.

وإذا كانت حركة الإحياء التصقت بالشعر التصاقًا وثيقًا فإن النثر كان له حضور ظاهر في تلك الحقبة أيضًا تمثل في كتابات رفاعة الطهطاوي وعلي مبارك وجورجي زيدان ونصيف اليازجي وأحمد فارس الشدياق، وكل من كتب في عصر النهضة كانوا اتباعيين، أو كلاسيين بالمفهوم الغربي، حيث غلبت الأسجاع والعناية باللغة على الكتابة بأثر من الأدب القديم.


الرومانتيكية والواقعية

وقد نشأت الرومانتيكية في الغرب في القرن الثامن عشر وكانت انقلابًا على الاتجاه الكلاسيكي، وهدمًا لمبدأ محاكاة النماذج القديمة ورفضًا للسير على نهج الأولين، وكان من أبرز روادها الشعراء النقاد وردزورث وكوليردج وشيللي وهازلت وغيرهم، وقد رأوا أن الأدب تعبير عن المشاعر الإنسانية، فانتصروا للعاطفة في مقابل العقل الذي استندت إليه الكلاسيكية. وآمنوا بحرية الفرد في التعبير عما يخالجه من مشاعر وأحاسيس، لذلك دعوا إلى استخدم لغة الحياة البسيطة، وعدم الاعتماد على الأساليب المنمقة والألفاظ الجزلة على عكس الاتجاه الكلاسيكي الذي كان يهتم بالسبك اللغوي. وقد أعلت الرومانتيكة من شأن الخيال وعنصر الصدق في الإبداع.

لم يمض وقت طويل حتى وجدت الرومانتيكية أصداءها في نفوس الكتاب والشعراء المصريين والعرب، متمثلة في الموجة الأولى في جماعة الديوان (عبد الرحمن شكري والعقاد والمازني).

ولم يمض وقت طويل حتى وجدت الرومانتيكية أصداءها في نفوس الكتاب والشعراء المصريين والعرب، متمثلة في الموجة الأولى في جماعة الديوان (عبد الرحمن شكري والعقاد والمازني)، والرابطة القلمية في المهجر التي رادَها ميخائيل نعمية، وعند جماعة أبوللو في الموجة الثانية، حيث آمنوا جميعًا بأن العاطفة هي مادة الحياة وجوهر الشعر وهي أنبل ما في الإنسان. والخيال هو سبيل العاطفة لإدراك حقيقة أسمى من حقائق العلم. والشعر الصحيح لا يكذب ولا يخالف الحقيقة، وإن بدا مخالفًا للواقع فذلك لأنه مهتم بالباطن لا بالظاهر.

وقد كانت الرومانتيكية في ثوبها العربي ألصق شيء بالشعر، لأن مجال عمله هو الشعور، أما السرد القصصي والروائي فقد لاذ بالمذهب الواقعي، أو ما أطلق عليه «الواقعية الاشتراكية»، التي هي حصيلة النظرة الماركسية للفن. وقد كان هذا المذهب أكثر قبولاً لدى «الوطنيين والقوميين العرب، فكل مذهب حداثي آخر كان يشي بمنبته الأوروبي وينذر بمسخ الطابع القومي والروح القومية»، وقد دعا هذا المذهبُ الأدبَ إلى أن يقول شيئًا وأن يوجه فكرة أو رسالة، أو أن يكون أدبًا هادفًا، ودعا إلى تصوير البطولة النابعة من صميم الشعب، أو على الأقل الشخصيات الإيجابية المتفائلة التي تعبر عن الجانب المشرق في الإنسان، والتخلص من بقايا الرومانسية المريضة الذابلة، التي تصور الانسحاب من الحياة بالانكفاء على الذات والعجز عن مواجهة الواقع.[2] ونجد آثارها في أعمال محمد حسين هيكل، وتوفيق الحكيم وطه حسين، وعبد الرحمن الشرقاوي، ونجيب محفوظ في أعماله الأولى، وغيرهم.

وحين أسرفت الرومانتيكية في الذاتية، وبالغت المدرسة الواقعية في تمثل الواقع ونقله والتعبير عن قضاياه،وغلبت الإيديولوجيا على النقد وبخاصة بعد انتشار المد الماركسي،الذي حاصر الأدب وطالبه بالالتزام بقضايا خارجة عنه كالتعبير عن الصراع الطبقي، والظواهر السلبية التي يعانيها المجتمع وأحواله السياسية والاقتصادية. في هذه الأثناء ظهر مذهب الفن للفن، أو ما يعرف بالبرناسية، رد فعل على الرومانسية والواقعية جميعًا،ويرى أصحابه أن الأدب غاية في حد ذاته، هدفه إمتاع القارئ، وهو قادر وحده على تحقيق سعادة الإنسان؛ بعيدًا عن العقائد والأخلاق والقضايا التي تشغل المجتمع، وأن اهتمام الأديب يجب أن ينصب على الشكل واللغة والأسلوب أكثر من اهتمامه بالمضامين. وقد أسهمت الحروب، التي عرفها العالم في القرن العشرين في فقدان الثقة في الإيديولوجيات القائمة كلها، وفي جدوى الالتزام بأي قضية من أي نوع. ومن ثم نشأ أدب يلفت النظر إلى نفسه وجمالياته، ولا يحفل بالمجتمع.


الرمزية والسيريالية والعبثية

تخلق المذهب الرمزي في هذه الأجواء، والمراد بالرمزية أن تؤدي عبارة أو لفظ معنى غير معناها الحقيقي. يستطيع أن يدركه المرء من القرينة. وهي بذلك تلوين ضبابي قد يشف عما وراء العبارة أو اللفظة من صور أو أفكار أو عواطف، وقد يغرق أحيانًا أخرى في حجبها حتى لا يوصل إليها إلا بكثير من كدّ الذهن، وقد لا يمكن الوصول إليها على الإطلاق، ويبقى لكل قارئ أن يستشف وحده ما وراءها من معان، وقد تعييه الحيلة في ذلك فلا يظفر بشيء. وهذا المذهب فرنسي النشأة، إذ عرف هناك في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وقد ظهرت بواكيره في «أزهار الشر» لبودلير عام 1857، وقد شهد له فيكتور هيجو بأنه «زود الفن برعشة شعرية جديدة».

ثم اشتهر هناك عند رامبو ومالارميه وفرلين وبول فاليري، ثم ما لبث أن لاقى رواجًا في العالم العربي بين الشعراء الشبان، وبخاصة عند الشعراء اللبنانيين أديب مظهر، وسعيد عقل، وبشر فارس وغيرهم. ويرد سعيد عقل ذلك هذا الإبهام في الرموز إلى أن الشعر إنما ينبع من اللاوعي، وهو يفسر هذا بأنه أرقى درجات الوعي، ويرى أن الشاعر الموفق في شعره هو الذي ينظم في حالة لاوعيه. وهو بهذا يريد ألا يفهم الناس الشعر فهمًا تفصيليًا واضحًا؛ لأنه في رأيه شيء فوق الفهم، وإنما يريد أن يُحِسّوه بنفوسهم، وأن يسكروا بخمرة هذا الإحساس.[3]

ويبدو أن هذا الغموض في الرمزية لم يكن كافيًا للتعبير عن معاناة الإنسان في القرن العشرين، في ظل ما عاناه من الحروب وويلاتها، حتى فقد سواءه النفسي واتزانه فراحَ يبحث عما يعبر به عن نفسه، فظهرت المدرسة السيريالية والعبثية بأثر من شيوع الفلسفة الوجودية. فأما السيريالية فقد أدخلت الأدب في عالم من الغرابة والإدهاش، حيث يغترف المبدع من هذيانه، ولم يعد ثمة حد فاصل بين الواقع والحلم، وإنما فتحت بينها القنوات وأزيلت الجواجز. وعمدت السيريالية إلى تحطيم القواعد والشكل ورفض المنطق، وأهملت اللغة فإذا بها مجموعة من التداعيات النابعة من اللاشعور. وهي في تعريف رائدها «بروتون»: (إملاء من الذهن في غياب رقابة العقل؛ خارج أي اهتمام جمالي أو أخلاقي)[4].

وأما العبثية فهي اتجاه أدبي يعد الإنسان ضائعًا وفاقدًا للمعنى، وأنه يسعى عبثًا لفهم الوجود! لأن الوجود أيضًا فاقد للمعنى! ومن هنا جاء مسرح العبث، الذي هو الابن الشرعي للسريالية، لنرى أبطاله غير قادرين على التوافق مع من حولهم من الناس، لا يسمعون إلى من يتحدثون إليهم، ولا يفهمون ما يقال لهم، وذلك لفقدان الاهتمام والتعاطف، في العصر الذي سيطرت فيه الآلة على حياة الإنسان، وقد ارتبطت العبثية في جانب منها بالفكر الوجودي، وانتشرت بعد الحرب العالمية الثانية، التي هزت أوروبا والعالم هزة عنيفة،وخلفت دمارًا لا حدود له. وقد نشطت هذه العبثية أول الأمر في ميدان المسرح ثم ما لبثت أن انتشرت في فنون الأدب كلها، ومن أهم روادها صمويل بكيت، ويوجين يونسكو. أما عن أصحاب هذا الاتجاه في الأدب العربي فأبرزهم الشاعر صلاح عبد الصبور في مسرحيته الشعرية العبثية «مسافر ليل» التي عرضت عام 1969، وتوفيق الحكيم في مسرحيته الشهيرة «يا طالع الشجرة» التي صدرت عام 1962.


الحداثة وما بعدها

هذا الغموض في الرمزية لم يكن كافيًا للتعبير عن معاناة الإنسان في القرن العشرين، فظهرت المدرسة السيريالية والعبثية بأثر من شيوع الفلسفة الوجودية.

والحق أن الأدب العربي مضى في هذه الطريق حتى كاد يبلغ منتهاها، فقد أسلمته هذه الاتجاهات إلى ما عرف بالحداثة الأدبية، أو أدب الحداثة، حيث غلب التشظي والتفكك اللفظي والمعنوي على بنية النصوص السردية والشعرية، حتى اتسعت الفجوة بين النصوص والقراء. إذ لم يعودوا ينعمون بالقراءة وهم في حال استرخاء ودعة طلبًا للمتعة السهلة الخالصة، وإنما يضطرهم المؤلفون اليوم للمشاركة في عملية الكتابة وخلق دلالة النص. فالنص الحداثي ممعن في الغموض والتشظي لتصوير شعث هذا العالم والوجود.

في أدب الحداثة غلب التشظي والتفكك اللفظي والمعنوي على بنية النصوص السردية والشعرية، حتى اتسعت الفجوة بين النصوص والقراء.

وإذا كان هذا النمط من الكتابة قد بدأ عند جيل الستينيات وما بعده، حتى ظهرت كتب نقدية تواكب الإبداع وتشي عنواناتها بالمضامين مثل: «شفرات النص»، و«شعراء السبعينيات وفوضاهم الخلاقة». وإذا كان الأمر كذلك في تلك الحقبة فقد بلغ حدًا ليس عليه من مزيد عند جيل التسعينيات والجيل الجديد الذي عاصر الثورات العربية وويلاتها، حيث رفدته بموضوعات وقضايا ووسائل تعبيرية كثيرة، ما كان له أن يحصلها إلا بفعل هزة عنيفة زلزلت كيانه كانت بأثر من هذه الثورات. فظهر إنتاج أدبي يُجسّد الضياع وفقدان الهوية وتمزق الأعضاء البشرية مثل فرانكشتاين في بغداد، وظهرت أعمال تطرح يوتوبيا عكسية وعوالم سوداوية كابوسية في الشعر والقصة والرواية على السواء.

والسؤال الذي يطرح نفسه هنا بقوة بعد هذا العرض الموجز: هل أفاد الأدب العربي من اتباعه لهذه الاتجاهات؟ وهل هذا الاتباع كان نابعًا من ضرورة حقيقية وحاجة ملحة أم أن الأمر كله كان استجابة لإغراء المحاكاة والتقليد وبخاصة أن هذا النقل والتقليد أغفل الخلفيات الفلسفية والحضارية التي نشأت هذه الاتجاهات والمذاهب في إطارها، وكثير منها ربما لا يتناسب مع البيئة العربية؟ وهل ينبغي التحفظ في إطلاق هذه التسميات غير العربية النشأة على اتجاهات الأدب العربي؟ هل تحقق التوفيق بين الأصالة والمعاصرة؟ وهل أفرزت مرحلة المثاقفة مع الغرب اتجاهات يمكن وصفها بأنها عربية خاصة؟!

إن الإجابة عن هذه الأسئلة المشروعة تقتضي مساءلة النتاج المتراكم على المستوى الأدبي والنقدي حتى تتضح الرؤية وينجلي المستقبل أمام الإبداع العربي.


[1] شكري محمد عياد، المذاهب الأدبية والنقدية عند العرب والغربيين، عالم المعرفة، الكويت، 1993، ص 93.[2] شكري عياد، السابق ، ص34.[3] عيسى الناعوري، الرمزية في الأدب العربي الحديث، مجلة الأديب، لبنان، فبراير 1951، ص 21.[4] حنا عبود، النظريات الأدبية الحديثة والنقد الأسطوري، منشورات اتحاد الكتاب العرب، 1999، ص 37، وينظر: إدوار الخراط، السيريالية في الأدب، مجلة البيان الكويتية، عدد 106، يناير 1975، ص 44-47.