ما تزال الدراسات قليلة في مجال بحث السياقات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي تتحرك فيها الفتوى، فأغلب الباحثين يكتفي بالنظر إلى الفتوى واستنادها الشرعي ونقدها، ومدى إمساكها بالدليل الشرعي عند إصدارها، لكن البحث في الواقع الذي تحركت فيه الفتوى، وجاءت لضبطه، أو تغييره، ما تزال دراساته محدودة.

وفي محاولة للاقتراب من تلك السياقات المتعددة والحاكمة في العملية الإفتائية، يأتي كتاب «الفتوى والحداثة» الذي يتناول تطورات الإفتاء في مصر في القرن التاسع عشر؛ ذلك القرن الذي تحول الإفتاء فيه من ممارسة فردية إلى الجانب المؤسسي ضمن الجهاز البيروقراطي للدولة. الكتاب من تأليف الدكتورة فاطمة حافظ، وصادر عن مركز نماء للبحوث والدراسات في بيروت، في طبعته الأولى 2019، في (287) صفحة، وهو رسالة دكتوراه في التاريخ من جامعة القاهرة.

والحقيقة أن السياق أو الواقع لا يمكن أن ينفصل عن الدليل الشرعي عند إصدار الفتوى، ودور الفتوى هو محاولة تنزيل النص على ذلك الواقع حتى لا يكون هناك افتراق بينهما، وهو ما يفرض على المفتي أن يكون مُلمًا بالواقع والدليل، وأن يمتلك مؤهلات تحقيق التفاعل بينهما، حتى لا يجافي الواقع ما تريده الشريعة ونصوصها. وإذا افتقد المفتي أحد الأمرين، تحولت الفتوى إلى مصدر للأزمات والاضطراب داخل المجتمع. وقد لعبت الفتوى دورًا مؤثرًا في التاريخ الإسلامي، فقد أمسك بها بعض الثوار في مواجهة السلطة، وأمسك بها الحكام لقمع المعارضة، ولجأت إليها الدول لتمرير سياسات معينة، فلم تكن السياسة يومًا ما بعيدة عن الإفتاء.


الفتوى والتحديث

كان الإفتاء في مصر في العصر العثماني مستقلًا عن الدولة حيث لم يكن للدولة دور في اختيار المفتين أو تنصيبهم، وكان أمر الفتوى في غالب أمره في يد علماء الأزهر، وكان لكل مذهب مفتيه الخاص، وكانت عملية اختياره لا علاقة للدولة بها، وتمتع مفتو المذاهب بمكانة متساوية.

وعندما سيطر محمد علي باشا على السلطة في مصر عام 1805، اهتز دور الإفتاء بعدما أخضعته السلطة لهيمنتها، وسعت للقضاء على الدور المميز والمستقل للعلماء، وتحويل هذا الدور لدعم سياساتها. فعندما أراد محمد علي تحديث الجيش على النمط الأوروبي، استعان بمفتٍ مقيم في مصر من أصل جزائري هو الشيخ محمد بن محمود الجزائري، الشهير بـ«ابن العنابي»، الذي ألف كتابًا بعنوان «السعي المحمود في ترتيب العساكر والجنود»، وهو من أوائل الكتب التي تناولت تحديث المؤسسة العسكرية من المنظور الفقهي، ألفه ابن العنابي عام 1826، وهو العام الذي شهد تخلّص السلطان العثماني محمود الثاني من فرقة الإنكشارية وتأسيسه الجيش العثماني الحديث.

وعندما أراد محمد علي تأسيس الجيش اعتمادًا على الفلاحين، وجد نفورًا من الفلاحين عن الالتحاق بالجيش، ولم يجد أمامه إلا الاستعانة بالدين لتحميس الفلاحين على التجنيد. كما لجأ محمد علي إلى الفتوى لتطبيق الحجر الصحي مع انتشار وباء الطاعون في الإسكندرية عام 1834، فكان يتم اللجوء إلى حرق الجثث، وهو ما أثار اعتراض العلماء على ذلك الإجراء باعتباره مخالفًا للشريعة الإسلامية. وعندما استفتى محمد علي العلماء في حكم تشريح الموتى، أفتى العلماء بعدم الجواز، فضرب محمد علي بفتواهم عرض الحائط وقرّره على طلبة الطب.

مدرسة الطب بأبي زعبل
height=”763″/> أول درس تشريح في مدرسة الطب بأبي زعبل (1829)

ولعب الإفتاء دورًا في تطويع إرادة الناس لطاعة الدولة الحديثة التي كان يؤسسها محمد علي، ومن ذلك فتوى ابن العنابي سنة 1845 بجواز إلغاء الوقف الأهلي، ووجوب اتباع الأوامر الأميرية (أي إتباع القوانين التي تصدرها السلطة). ويشير الكتاب إلى أن محمد علي كان يتمتع بقدرة كبيرة على إجبار العلماء لإصدار الفتاوى في المجال السياسي بدرجة أكبر منها في المجال الاجتماعي؛ فقد كانت الفتوى في المجال الاجتماعي تجد مساحة واسعة للاختلاف والتعارض مع السلطة، ولعل ذلك يعود إلى أن النصوص التي تحكم المفتي في المجال السياسي محدودة، وقابلة للتأويل. كما أن العلماء كانوا جزءًا من البنية الاجتماعية المصرية، أي أن بعض عمليات التحديث ستؤثر على قاعدتهم الشعبية في المجتمع وربما على مصالحهم.

وفي عصر محمد علي، أخذ منصب مفتي الحنفية يكسب نفوذًا متزايدًا، وأضحى مفتي الدولة الرسمي. وفي نهاية حكم محمد علي، كان الإفتاء قد أخذ طريقه نحو الهيكلة المؤسسية والإدارية. ويُلاحظ في مصر في النصف الأول من القرن التاسع عشر أن تطور الإفتاء ارتبط بتطور القضاء، وكان القضاة في ذلك الوقت متعددي المذاهب، وكل قاضٍ يحكم وفق مذهبه، وكانت الفتاوى جزءًا لا يتجزأ من الدعوى، حتى تم تخصيص القضاء بالمذهب الحنفي عام 1813، وأعقبه تخصيص الفتاوى القضائية عام 1835 بالمذهب الحنفي، فدعمت بذلك السلطة المذهب الحنفي .

ومع وفاة محمد علي باشا عام 1849، كانت أسس الدولة المصرية الحديثة قد تم إرساؤها. وقد ارتبط جهاز الإفتاء بجهاز الدولة البيروقراطي وتشكّل معه، وتوسعت الدولة في إعداد المفتين، وتربّع على رأس المنظومة الإفتائية في مصر «مفتٍ» رسمي اختلفت ألقابه. وخلال الفترة الممتدة ما بين 1848 و1895، تعاقب على منصب الإفتاء شخصيتان فقط، هما: الشيخ محمد العباسي المهدي، والشيخ محمد محمد البنا، وخلّفا تراثًا هائلًا من الفتاوى. فقد نشرت فتاوى المهدي تحت عنوان «الفتاوى المهدية في الوقائع المصرية» في سبعة مجلدات في (3992) صفحة، وحوالي (13500) فتوى. أما الشيخ محمد البنا، فلم تنشر فتاواه وظلت محفوظة في ثلاثة سجلات رسمية.


الفتوى بين الحداثة والسياسة

القرن التاسع عشر هو قرن الحداثة، حيث انتقلت الحداثة من أوروبا إلى العالم الإسلامي. جابهت عملية التحديث داخل الأزهر عقبات كثيرة بسبب الرفض الداخلي في الأزهر، إلا أن تيارًا داخل الأزهر تبنى فكرة التحديث وانخرط في أطرها، وقد انعكس ذلك على الفتوى، فقد صدرت فتوى بجواز تعليم العلوم الحديثة في الأزهر، إلا أن تطبيقها تأخر حتى أصدر الخديو عباس حلمي الثاني في (20 محرم 1314هـ=30 يونيو/حزيران 1896م) بتدريس التاريخ والإنشاء والهندسة في الأزهر، لكن الدولة اتخذت خطوة للتحديث بعيدة عن الأزهر عندما أصدرت عام 1872 بإنشاء مدرسة «دار العلوم» لتوفير عددٍ كافٍ من المدرسين الذين يجمعون بين العلوم الشرعية والعلوم الحديثة.

وإذا كانت الحداثة في جوهرها قائمة على إحلال نسق ونظم جديدة محل أخرى، وكانت مؤسسة القضاء إحدى المؤسسات التي طالتها يد التحديث، فقد تم إدخال التوثيق إلى القضاء، وكذلك التقنين، وهو ما انعكس على الفتوى، فكان المفتي حاضرًا في عمليات التقنين لضبط أوجه النشاط الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، فمثلًا راجع المفتي قانون الأوقاف وقانون المحاكم الشرعية.

وفيما يتعلق بالتحديث، ظهرت مسألة العلاقة مع الآخر الأوروبي وأخذ العلم عنه، وظهر ذلك في كتاب الشيخ عليش «أجوبة الحيارى عن حكم لبس قلنسوة النصارى» الذي ناقش فيه الابتعاث للغرب لأخذ العلوم الحديثة، وكذلك إقامة المسلم في الغرب، وهنا نجد تشددًا في الفتوى، فرأى الشيخ عليش أن تعلم العلوم الغربية الحديثة غير جائز، وأن العلوم الواجب على المسلم تعلمها هي علوم الشريعة وبعض العلوم الخادمة لها، وما زاد على ذلك لا يُطلب تعلمه بل يُنهى عنه، وأنه لا يجوز طلب العلم من الأجانب، وأن العلوم التي سيدرسها المسلم في الغرب مثل الصناعة والحدادة والطب كانت أحط العلوم عند المسلمين.

تكشف الفتوى السابقة أن المفتي لم يستوعب متغيرات الواقع المتمثلة في التراجع الحضاري الإسلامي وتقدم الغرب حضاريًا، وهو ما أوجد اختلال العلاقة مع الآخر، وكان يُفترض أن تتعاطى الفتوى بشكل مختلف مع الواقع الجديد، لذا عجزت تلك الفتوى عن إدراك الواقع وضبطته.

كان تقليد الغرب ومحاكاته في طرق معيشته من القضايا التي شغلت المفتي في تلك الفترة، مثل الأكل بالشوكة والسكين. والحقيقة أن المفتي الرسمي التابع للدولة والقريب من إدراك حجم النفوذ الأجنبي داخل الدولة، وقوة الامتيازات الغربية، وعجز الدولة عن مقاومتها كان أكثر إدراكًا للواقع.

وأحيانًا كان المفتي يلجأ للفتوى كوسيلة لمقاومة ذلك النفوذ، فقد وقف الشيخ المهدي العباسي أمام محاولات الخديو سعيد باشا للاستيلاء على الأراضي الخاصة بالأوقاف، ووضع في ذلك رسالة شهيرة بعنوان «الصفوة المهدية في إرصاد الأراضي المصرية» أكد فيها أن الاستيلاء على أراضي الأوقاف غير جائز، وقيّد إرادة الحاكم بأوامر الشرع، ولعل هذا ما جعل الدولة تتوقف عن استشارته في أمور السياسات العامة، فقد توقفت الدولة عن اللجوء للمفتي في بعض السياسات العامة التي ترى فيها مصلحة، وتتوقع أن يعارضها المفتي، مثل تحرير الرقيق وتوقيع الدولة المصرية على اتفاقية إلغاء الرق عام 1877 مع إنجلترا، إذ ظل الشيخ المهدي متمسكًا بجواز الرق، وأن الرق نظام اجتماعي لا يرفضه الإسلام، وليس ثمة ما يوجب إبطاله.

محمد المهدي العباسي
height=”720″/> الشيخ محمد المهدي العباسي، شيخ الأزهر الشريف (1870-1882) ومفتي الديار المصرية

كانت الضرائب من أكثر السياسيات العامة التي يتفاعل معها الأهالي، لذلك كانت الفتاوى المتعلقة بها تستحوذ على اهتمام الناس والسلطة معًا، وكان الأهالي أمام جبروت السلطة في الجباية ينسحبون من أراضيهم إلى القرى المجاورة خوفًا من السجن، وقد أدى ذلك إلى تعقيدات في الملكية والتركيبة السكانية في القرى، وكان الرأي الفقهي السائد أن المعسر الذي لا يمتلك إلا داره يجب إطلاق سراحه وألا يحبس، لذلك قضت الفتاوى بإطلاق سراح المديونين نظير الضرائب والأموال الأميرية، ولم يستطع المفتي أن يحرّم التسحب من الأراضي في حال تعرض الفلاح للظلم. هذا الموقف الافتائي كان عقبة أمام شرعنة الظلم على الأهالي.

أما التجنيد فكانت الفتوى حاضرة فيه، حيث ترتب عليه مآس كبيرة للأفراد للذين يلتحقون بالتجنيد ويلبثون في الجيش مدة تقترب من خمسة عشر عامًا، فعند عودته يجد أسرته قد شردت، وأرضه ربما استحوذ عليها غيره، ناهيك عما يتعرض له من إصابات أثناء القتال، وكان الفلاحون يلجئون إلى قطع أصابعهم حتى لا يلتحقوا بالخدمة العسكرية، ونظر بعض المفتين إلى هذا البتر على أنه أخف الضررين.