فتحت محاولة الانقلاب العسكري الفاشلة الأخيرة في تركيا الباب واسعًا حول تاريخ الانقلابات العسكرية التركية، والأسباب التي كانت ولا تزال تدفع العسكريين الأتراك إلى تحريك الجنود والقوات. تاريخ الانقلابات العسكرية في تركيا في أعوام 1960، 1971، 1980، 1997، والانقلاب الفاشل حتى الآن 2016، فقبل كل انقلاب من هذه الانقلابات كانت تسود تركيا حالة من الحريات السياسية والدينية فيخرج البيان رقم واحد بقوة السلاح والدبابة ليُرجع الناس قهرًا إلى مربع سنة 1923م، الذي صار لحظة مقدسة يتجلى فيها صنم أتاتورك، لحظة تقديس العلمانية والركوع لها في معبد القومية المقدس. من أجل فهم أكثر للدوافع كان علينا في هذه السلسة الثلاثية من المقالات أن نتناول موجزًا لتاريخ تركيا الحديثة منذ إعلان إلغاء الخلافة العثمانية وحتى الانقلاب الأخير ليتمكن القارئ من مشاهدة صورة كاملة وافية بقدر من التبسيط غير المخل.


سقوط الخلافة العثمانية

كانت الأرض التركية مقر الخلافة العثمانية لعدة قرون خلت، وكان الخلفاء العثمانيون يعودون إلى أصل تركي، وقد حكموا أجزاءً واسعة من القارات الثلاث آسيا وإفريقيا وأوروبا، وظلت الدولة العثمانية على حالة من القوة حتى انتابها الضعف والوهن، ولجأت إلى التحالفات لتقوية موقفها أمام أعدائها، فاضطرت إلى الدخول في الحرب العالمية الأولى (1914م – 1918م) بجانب ألمانيا والنمسا، لكن الطرف الآخر المكون من انجلترا وفرنسا وروسيا هزم الدولة العثمانية وحلفاءها، وترتّب على هذه الهزيمة نتائج وخيمة لا تزال دول العالم الإسلامي العربي تعاني من آثارها فضلاً عن تركيا ذاتها.

كان الخليفة العثماني محمد السادس قد قرّب أتاتورك أحد ضباط حزب الاتحاد والترقي بإيعاز من الانجليز في بادئ الأمر، ووضع كامل ثقته فيه.

لقد نُفّذت المرحلة الأولى من مخطط الحلفاء بتقسيم الدولة العثمانية إلى دويلات على أُسس قومية وعرقية وعلى هوى المصالح الغربية، وأدى انهزام العثمانيين في تلك الحرب إلى انسحاب وزارة الاتحاد والترقي من الحكم برئاسة طلعت باشا. كان الخليفة العثماني محمد وحيد الدين (محمد السادس ت 1926م) قد قرّب أتاتورك – أحد ضباط حزب الاتحاد والترقي-، بإيعاز من الانجليز في بادئ الأمر، ووضع كامل ثقته فيه، ثم أمره بمقاومة اليونانيين في أزمير سنة 1919م، فسار إليها لكنه ما أن وصل إلى منطقة سامسون حتى أعلن استقلاله وعدم ارتباطه بأية حكومة أو سلطة أو خليفة، الأمر الذي اضطر الخليفة معه تحت ضغط حكومته إلى إقالة أتاتورك من الجيش العثماني في نهاية الأمر.

لكن ذلك لم يُثن من عزم أتاتورك الذي كان قد انتقل إلى أنقرة ليتحصن ويتقوى بحلفائه «القوميين» والمؤيدين له، وفي نهاية عام 1919م جرت انتخابات في سائر أنحاء تركيا العثمانية ما بعد الهدنة بالاتفاق مع الحلفاء (الانجليز والفرنسيين واليونانيين والإيطاليين والأمريكان واليابانيين) لانتخاب مجلس نواب تركي جديد، فأحرز القوميون الأتراك نصرًا ساحقًا، وقد اتفق النواب وزعيمهم مصطفى كمال أتاتورك على ما عُرف باسم «الميثاق الوطني»، وقد دعا هذا الميثاق إلى إنشاء دولة تركية مستقلة، وكان لسقوط اسطنبول في يد الانجليز عاملاً آخر على سقوط هيبة السلطان العثماني بالكلية.

كان الميثاق النواة الأولى لإقامة الدولة التركية الحديثة حيث نصّ على أن البلاد ضمن حدودها القومية وحدة واحدة لا تتجزأ، وأنه في حال سقوط الحكومة العثمانية فإن الشعب سيُدافع عن نفسه ضد أي نوع من أنواع الاحتلال الأجنبي، وأنه يجب بناء القوة الوطنية، وهكذا وُجدت سلطتان تنفيذيتان في البلاد أحدهما في اسطنبول والثانية في أنقرة.

استغل الحلفاء الغربيون هذا الانقسام ودعموه، ودعوا حكومة مصطفى كمال في أنقرة إلى المفاوضات في لندن، وكان أتاتورك قد بدأ نجمه في البزوغ بانتصاره على الفرنسيين في منطقة قليقيا على الحدود الجنوبية الغربية مع سوريا، وضد اليونان في غرب الأناضول.

كان انتصار أتاتورك على اليونان قد جعله الزعيم الأوحد للأتراك، فأصدر أوامره بعد دخول أزمير وجلاء اليونانيين عنها بإنشاء دولة جديدة بإلغاء السلطنة، وهو ما تم بالفعل في اجتماع المجلس النيابي في أنقرة في 20 أكتوبر/تشرين الأول سنة 1923م، وأُعلنت الجمهورية، وانتخب مصطفى كمال رئيسًا للجمهورية، وبعدها بيومين فقط وُقّع الصلح في لوزان في 23 أكتوبر/تشرين الأول بين الأتراك والحلفاء، على استقلال الدولة التركية القومية الحديثة، وعلى تعيين حدودها الحالية.


جمهورية أتاتورك العلمانية

كان على مصطفى كمال أن يزيل الخلافة العثمانية لدوافع كثيرة على رأسها كراهيته للإسلام، وحقده على نُظُمه، وحتى ينفِّذ وعوده للحلفاء، بأخذ القوانين الأجنبية منهم، لذا فقد شكَّل وزارة جديدة قبل يوم واحد من إعلان الجمهورية وانتخابه رئيسًا، أما النواب في المجلس فكان معظمهم من العسكريين ومن رجال مصطفى كمال المسلحين، وبعد أربعة أشهر من إعلان الجمهورية أمر مصطفى كمال بعدما استتب له الأمر، ومكَّن رجاله من مفاصل الدولة، ومن خلال الاعتماد على الحلفاء بإلغاء الخلافة العثمانية، ووزارة الأمور الشرعية، ووزارة الأوقاف، وإلحاق المدارس الدينية بوزارة المعارف، وإخراج الخليفة وأفراد أسرته جميعًا من البلاد وذلك في 27 رجب 1343هـ/ 3 مارس/آذار 1924م، وطُرد الخليفة عبد المجيد بن عبد العزيز إلى فرنسا.

ظنت النخبة التركية أن إلغاء الخلافة وإقامة الجمهورية وترسيخ دور البرلمان سيعمل على لحاق الأتراك بركب الغرب الأوروبي الديمقراطي، وكثيرون من هؤلاء النخبة كانوا متحالفين مع مصطفى كمال، لقد عمل رؤوف أورباي على تشكيل الحزب الجمهوري التقدمي وحصل هذا الحزب على الأكثرية غير أن مصطفى كمال لم يرضَ أن ينازعه مُلكه الجديد أحدًا ولو بدافع الديمقراطية واحترام خيارات الشعب، فحلّ المجلس المنتخب، وأتى بمجلس جديد، وتخلّص ممّن تصوّرهم مُعارضين له، كلٌّ بطريقة من الطرق، بعضها الإبعاد، وبعضها الشراء.

أسّس أتاتورك حزب الشعب الجمهوري، وأمر أعوانه بالانضمام إليه، كما أسرع نحوه أصحاب المصالح، وكان حزبه بيده مقاليد كل الأمور في الدولة، وقام هذا الحزب على الجمهورية والقومية والشعبية والعلمانية والتقدمية والثورية. وشرع أتاتورك يحارب الإسلام وشعائره بكل ما أوتي من طاقة وجهد، وكل ما يمت للخلافة العثمانية من رموز أيضًا، فأصدر أمره بترك الطربوش واتخاذ القبعة غطاءً للرأس، وجعل الإجازة الأسبوعية يوم الأحد بدلاً من الجمعة، وغير الأبجدية التركية من الحرف العربي إلى الحروف اللاتينية، وترجم الدستور السويسري وجعله دستورًا جديدًا لتركيا، وفوق ذلك غرس أتاتورك التعصّب للقومية التركية والحط مما سواها، وكان غرضه قطع أي علاقة بين الأتراك وبين جيرانهم وإخوانهم في العالم الإسلامي، وقطعًا للطريق على أي تقارب بينهم، الأمر الذي ترتّب على هذه الشوفينية أن شرع الأكراد يُطالبون باستقلالهم وحريتهم خاصة أن الأرمن تمكنوا من إقامة دولة لهم في شرق الأناضول، لكن قُضي على حركتهم بالعنف والقوة، ولا تزال القضية الكردية إلى اليوم أثرًا من آثار التعصّب القومي الذي بعثه أتاتورك لمصالحه الضيقة.


وفاة أتاتورك وصعود ظلّه!

أسس أتاتورك حزب الشعب الجمهوري، وأمر أعوانه بالانضمام إليه، وكان حزبه بيده مقاليد كل الأمور في الدولة

توفي مصطفى كمال أتاتورك في 10 يناير/كانون الثانى 1938م، بعد حكم دام أكثر من 15 سنة قضاها في ترسيخ محاربة الإسلام، والاستبداد والطغيان، وتقلّد الحكم خلفًا له أحد أشد المخلصين لأتاتورك والمساعدين له وهو «عصمت إينونو».

سار إينونو على نهج أتاتورك في رئاسة الحزب، ومعاداته للإسلام وشعائره، وإبراز العصبية القومية، والتبعية الاقتصادية والسياسية.

سار إينونو على نهج أتاتورك في رئاسة الحزب الشعبي الجمهوري، ومعاداته للإسلام وشعائره، وإبراز العصبية القومية، وفي التبعية الاقتصادية والسياسية، وخلال الحرب العالمية الثانية (1939 – 1945م) وقفت تركيا على الحياد. أصبح هناك رد فعل في الريف التركي ضد إجراءات أتاتورك حيث كان هناك سلوك في الأرياف التركية لتطبيق التعاليم الإسلامية ومحاربة العلمانية، ونتيجة لذلك وبعد وفاة أتاتورك وبخاصة في المدة الواقعة بين 1938م – 1942م أسّست الحكومة صحيفة الأوقاف، وطرحت بين سنتي 1946- 1954م مفاهيم جديدة للتعليم الديني في المجلس الوطني التركي.

على أن نشوء المعارضة بعد عام 1945م أعطى المجال نوعًا ما للمعارضة الإسلامية للبروز، ونتيجة لذلك قام كل من نجمي كوناش ومصطفى أوزبك وميتاسوار بتشكيل حزب «حماية الإسلام» إلا أن الحكومة طبقت عليه الأحكام العرفية، وتم إغلاقه في 12 سبتمبر/أيلول من نفس العام.

كان العداء للإسلام في حكم إينونو لا يزال علنيا وقويًا، ففي 4 فبراير/شباط سنة 1949م أُقيم الأذان باللغة العربية في المجلس الوطني التركي، وفي اليوم التالي من هذه الحادثة كتبت صحيفة kurdert الناطقة باسم حزب الأمة قائلة: «إن الحكومة مسئولة عن الحادثة لأن ذلك يتعلق بحرية الوجود». ومن ناحية أخرى أجابت صحيفة ulus الناطقة باسم الشعب الجمهوري «الحزب الحاكم» قائلة: «إذا سُمح للرجعيين إقامة الآذان بالعربية اليوم فسوف نستجيب للقانون الديني: الشريعة والخليفة غدًا»!

كل أجزاء سلسلة «موجز تاريخ تركيا الحديث»هنا