من المعتاد والمنطقي أن نجد منابر السلفية المدخلية في السعودية مملوءة بالدعاء والثناء على ما يصفونهم بولاة الأمر هناك، بل ويوجبون لهم الطاعة والبيعة؛ إذ إن ظاهر نظام الحكم السعودي ووزارة الأوقاف هناك مصبوغة بالصبغة السلفية، بينما من المستغرب أن نجد خطابًا كهذا وبصورة أشد في مصر، ومن رموز السلفية المدخلية هناك، لأن المؤسسات الدينية الرسمية تدين ديانة كاملة للعقيدتين الأشعرية والماتريدية، بل وتخاصم السلفية خصومة وجودية.

لقد كان من المفاجئ أن تقدم وزارة الأوقاف على إيقاف الشيخ محمد سعيد رسلان عن الخطابة والدروس في مسجده المعروف في المنوفية، فالرجل يقدم خدمات جليلة للنظام من خلال هجومه الشديد والمتكرر على جماعة الإخوان المسلمين وفكرها، وكذا خطابه التهكمي والفظ تجاه غالب الحركات الإسلامية الأخرى، كما أنه يمجد ليل نهار في نظام السيسي ويوجب له الطاعة، ويجعل من مخالفته أو الخروج عليه جرمًا شرعيًا عقديًا عظيمًا.

لقد وثب رسلان وثبة الأسد فور سقوط جماعة الإخوان في 2013، بعد خفوت صوته ولسانه سنة حكمهم، واهتبل الرجل الفرصة السانحة لإعادة إحياء خطابه ودعوته وأفكاره، وبصورة باتت محل ثناء شديد من رموز الإعلام المصري كمصطفى بكري وسعيد حساسين.


لماذا رسلان الآن؟

لا يمكن بحال إنكار الجهود الذي يبذلها مختار جمعة وزير الأوقاف المصري لضمان استمراره في موقعه المهم للنظام الحالي في مصر، بل إن وجوده معبر عن رغبة ملحة للنظام لتقويض نفوذ شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب داخل المؤسسات الدينية في مصر. وبالطبع كانت أشد جهود جمعة موجهة منذ البدايات ضد جماعة الإخوان ونفوذها داخل الأوقاف، وبطبيعة الحال تجذيب ما تسرب من سلفيين فيها، خاصة المتعاطفين مع الإخوان.

يبدو أن جمعة قرر التدرج في مواجهة النفوذ والتمدد السلفي، فبدأ بترويض السلفية السكندرية وأبرز رموزها ياسر برهامي، ووضع الجميع تحت رحمة قوانين الخطابة والتزام الخطباء بضرورة استخراج تصاريح رسمية من الأوقاف، وهو ما جعل من سلطة الأوقاف قوة فوق سلطة الرمزية المشيخية لدى السلفية، واضطرهم للولوج في مسار التصاريح والإشراف الأزهري على مساجدهم.

وبخفوت الصعود السلفي السياسي والديني بعد عمليات الاحتواء والتقويض منذ يونيو 2013؛ اختار مختار جمعة توقيتًا مفاجئًا لجعل السلفية المدخلية في مرمى الهدف، وقرر إيقاف أشهر وأبرز رموزها في مصر، محمد سعيد رسلان، عن الخطابة والدروس لأسباب إدارية كما صرح بذلك وكيل الوزارة.

الحقيقة أن الاستغناء عن خدمات رسلان ورفاقه الجليلة في تدجين السلفية وتقويضها تحت سقف محدد؛ لا يمكن أن يتصور في هذه المرحلة الحرجة التي يرغب فيها النظام في تأميم الفضاء الديني تأميمًا كاملًا ومواليًا له فقط، لكن إغفال الرغبة الجامعة لدى مختار جمعة وتيارات العداوة الأشعرية السلفية داخل الأزهر والأوقاف؛ قد يكون من المخل في تفهم كامل الصورة وعمقها.

ثمة رغبة قديمة وجامحة لدى قوى التأثير والفاعلية داخل الأزهر والأوقاف لوقف التمدد السلفي المجتمعي والديني، وهي مبنية على صراعات قديمة جدًا بين الأشعرية والسلفية والعكس، خاصة منذ وصول الوهابية لقمة السلطة الدينية في السعودية، وبدا أن الصراع انتقل من حيز الخلاف الكلامي/العقدي، إلى حيز المنافسة على الزعامة الدينية للعالم الإسلامي بعد سقوط الخلافة وانقسام الدول الإسلامية في صورتها مابعد الاستعمارية.

لم تشفع خدمات رسلان له أمام هذه الرغبة القديمة والمتجددة، وكان لابد على الأوقاف أن تنذر بقرب حلول الطلاق الرجعي بينها وبين رسلان، وباقي السلفية المدخلية من ورائه، والتي ستجعل الخطاب السلفي المدخلي داخل إطار التدجين الكامل، فكريًا وعقديًا، مما يعني أن وقف بروز الانتقادات والمآخذ السلفية تجاه الأشعرية سيكون من ضمن قواعد وشروط العودة للمنابر، وهنا سيقفز السؤال المحوري: كيف سيمرر وسيشرعن رسلان ورفاقه ذلك مناقضين لأحد أهم قضاياهم العقدية وهي الموقف من أهل البدع!


بوادر سقوط الثيمات السلفية

استجاب رسلان لقرار وزارة الأوقاف بإيقافه عن الخطابة والدروس، واعتلى وكيل وزارة الأوقاف بالمنوفية المنبر مكانه في خطبة الجمعة الأخيرة، وتكلم رسلان عقب الخطبة لبيان موقفه ولتمرير شرعية الاستجابة والانصياع للقرار وفق مبدأ طاعة ولاة الأمور، إذ اعتبر الأوقاف مؤسسة رسمية تمثل امتدادًا لولاة الأمر في مصر، وبالتالي فطاعتهم واجبة.

الجديد في هذا الموقف أن السلفية المدخلية تعتبر الخصومة والتحذير من أهل البدع ركنًا ركينًا في بنيان العقيدة الإسلامية «السلفية»، وهي في هذه الحالة ستتعارض مع ركن «طاعة أولي الأمر»، وهو الاختبار الأهم في تجانس أركان عقائدهم المزعومة.

لم يجر على مدار التاريخ العقدي المعتمد لدى المداخلية أن قدم أحد طاعة ولي الأمر على التصالح مع أهل البدع، بل إن محنة الإمام أحمد بن حنبل هي المورد الأساسي لموقف «أهل السنة والجماعة»، وفق التصور السلفي، تجاه التعارض بين طاعة الحكام والقبول بالبدع، وهو ما يتعارض مع موقف رسلان الراهن.

قد يستدرك البعض على ذلك أن موقف الإمام أحمد تجاه بدعة القول بخلق القرآن كونها بدعة معتزلية، تحتلف بصورة كبيرة مع درجة بدعية المقولات الأشعرية؛ لكن الحقيقة أننا لسنا بإزاء موقف عقدي من مقولة بدعية، بل إننا أمام سطوة إدارية وستكون عقدية من الأشعرية على ما يراه المداخلة «عقيدة أهل السنة والجماعة»، ولا يرون الأشاعرة داخلين تحتها في مسائل الأسماء والصفات المهمة، وبالتالي كيف سيكون القبول بقرار ولي الأمر دون الإقرار ببدعية ولاة الأمر أولئك؟!

الحقيقة أن معمار السلفية المدخلية العقائدي مفتقد للتجانس والواقعية، ولأن اختبارات واقعيتها وتجانسها كانت شبه منعدمة في العقود الماضية بسبب خدمة الأوضاع السياسة لها، باستثناء حقبة الربيع العربي، ومع خلو الساحة من باقي السلفيات في مصر عدا السلفية السكندرية؛ فإن اختبار إيقاف رسلان وتبرير الرجل قبوله به ضمن إطار طاعة ولاة الأمر هو المحك الأبرز الذي سيظهر تناقضات الطهورية السلفية التي تصدرها سلفيته وتياره، وسيجد الكثير من أتباعه ترددًا في قبول محاولة الجمع بين المتناقضات التي تحويها خطابات رسلان، خاصة مع هجومه الشرس والمتكرر على من هم أقرب له عقديًا من السلفيين، بل إن الفوارق بينه وبينها تعد معدودة وقليلة، لكن تبقى فاعلية تفسير موقفه هذا بفكرة فروريد «نرجسية الفروق البسيطة»؛ هي المقاربة التفسيرية الأكثر نجاعة ومنطقية في هذه الحالة.


هل يمكن تسوية الأمر؟

يبدو لي أن الأمر سيؤول للتسوية بصيغة مرضية للجميع، وسيذعن رسلان ورفاقه للسقف الذي سيضعه له مختار جمعة دون تذمر، خاصة وأن إعلاميين كثر في مصر طالبوا بتقدير جهد رسلان في الهجوم على الإخوان وباقي السلفيين، وهو ما يعبر بصورة ما عن أصوات داخل النظام وليست مجرد آراء شخصية لإعلاميين.

لكننا ينبغي أن ندرك أن مسار بناء الفضاء الديني الجديد بعد يونيو 2013 مخطط له أن يستهدف كل مجال ديني يسير خارج المنظومة الرسمية المأممة، وأن انحسار السلفية التقليدية في السعودية مؤذن ببدايات جفاف مصادر التمويل والدعم المعنوي والمادي للسلفيات الأخرى خارج السعودية وخاصة مصر.

يبقى أن تنحسر قضية الموقف من أهل البدع الكبيرة داخل الخطاب السلفي المدخلي كثمن لبقاء رسلان على منبره، بينما ستجري عملية تفتيت لجماهيره من خلال عدم الإبقاء عليه في مكان واحد حسبما صرح بذلك وكيل وزارة الأوقاف، إذ سيوضع له جدول خطب في أماكن مختلفة كما هو الحال لباقي خطباء الأوقاف، حيث ستمثل هذه الخطوة فائدة للأوقاف وضرر لرسلان وجماهيره، حيث ستستفيد الأوقاف من نشر خطابه الديني العدائي للإخوان بين مختلف المساجد والشرائح المجتمعية في المساجد الأخرى، بينما سيتضرر رسلان بإضعاف نقطة تمركز كان يبنيها الرجل منذ سنوات طويلة. والواقع أننا إزاء الكثير من التقلبات والتغيرات التي ستشهدها خريطة الصراعات الفرقية والمذهبية السنية في المرحلة المقبلة.