لقد واجهنا لاعبين رائعين، مدهشين، وخصمًا لا يُصدّق.
بيب جوارديولا، مؤتمر مباراة موناكو.

بالطبع كان ذلك أسبوعًا إستثنائيًا، ليس لـ بيب جوارديولا فقط، أو لزميله الآخر إنريكي، بل لقطاع واسع من جمهور كرة القدم، بالأخص هؤلاء الذين لا يتوقعون خروجًا عن المألوف من غير الأندية الكبرى.

الخروج عن المألوف لم يأتِ بحالتنا مرة واحدة بل مرتين، لتؤكد الأندية الفرنسية ظهورها على خريطة دوري الأبطال متمردة على صورتها النمطية بالإقصاء كل عام من كبار المرشحين.

باريس أدهشت العالم بتفوق فني أفردت له الصحف والمواقع الرياضية حيزًا من التحليل والدراسة، لا تخسر “برشلونة” برباعية مستحقة كل يوم، أما موناكو فالتقط الخيط ليكون طرفًا بأحد أروع مباريات الموسم، لعب على الفوز أمام سماوي إنجلترا بعقر داره وأنهى المباراة واضعًا جوارديولا بورطة حتى قال :”علينا التهديف بفرنسا وإلا سيمر موناكو”، ببساطة لأن “موناكو” قد يسجل أكثر من هدفين مجددًا.

قد يدهش غير المتابعين لمسيرة الناديين الفرنسيين بأن أمر المباريات الأخيرة لم يكن من قبيل الصدفة أو لطفرة عابرة أدت بحالها لنتائج غير منتظرة، بل إن كثيرًا من سمات الفريقين جاءت مشتركة مع أدائهما المعتاد بالدوري، فالناس تنجذب عادة للصورة الأخيرة، المنتج النهائي، النجاح منقطع النظير أو الفشل الساحق، لكن تجربة الناديين تستحق أن تنال قدرًا من تسليط الضوء، ربما لأننا أمام تحوّل قادم سيسمح لأندية فرنسا بمزاحمة الكبار!.


عقاقير موناكو

هذا الاتفاق يفتح صفحة جديدة بتاريخ النادي، أنا أثق في ديمتري.
أمير موناكو ألبير الثاني.

متى كانت آخر مرة سمعت فيها عن تواجد أوروبي لـموناكو قبل ليلة الإمارات؟!، لعل الذاكرة لا تسعفك إلا بخسارة نهائي 2004 بمواجهة بورتو مورينهو بعد مسيرة حافلة تجاوز فيها جيلٌ ضم «جولي، بيرباتوف، إيفرا» الميرينجي والبلوز تحت قيادة ديشامب، عانى بعدها النادي من تخبط إداري وفني أدى لموسم 2010/2011 الكارثي. هبط موناكو للدرجة الثانية بعد أداء محبط!،

لكن جمهور الأبيض والأحمر كان لايزال يساند فريقه الذي سبق وحقق 7 بطولات للدوري. ولأن الفجر لا يأتي إلا عند إشتداد ظلمة الليل، كوفئ جمهور موناكو بأفضل شيء يتمناه؛ فجر جديد.

خلال عام 2010، كان الملياردير الروسي ديمتري ريبولوفليف قد وقع بحب الإمارة الفرنسية الساحرة، يشتري منزلًا قيمته 220 مليونًا ويبني علاقات ممتازة مع العائلة الملكية، يتأثر كبقية سكان البلد بأحوال النادي وتبدأ الفكرة تلمع برأسه بالتوازي مع خطوة ناصر الخليفي بالعاصمة.

ديمتري الذي بدأ حياته طبيبًا للقلب، واكتشف برفقة والده طرق علاج بالمغناطيس بالتسعينات، وتولى إدارة شركة «أولكاي» لتتخطى ثروته بحسب مجلة «فوربس» 8.5 بليون دولار، كان قد استغل صداقاته بالعائلة الملكية ليعرض شراء 66% من أسهم النادي، رحّب الأمير ألبير الثاني بالفكرة الاستثمارية ليزيل الروسي من فوق كاهله هموم التصعيد من جديد.

بعد موسم أول حقق فيه النادي المركز الـ 8 بالدرجة الثانية، كان «ديمتري» يدعم خطوط فريقه صيف 2012 بـ 23 مليون يورو بلاعبين كـ «لوكاس أوكامبوس وإيمير باجريمي»، تحقق الصعود للدرجة الأولى وأنجز أول مهامه!.

http://gty.im/633051100

”دميتري، الأمير ألبير، رئيس فرنسا السابق ساركوزي“

أنا هنا لأساعد موناكو للوصول لمكانة جيدة محليًا وأوروبيًا.
ديمتري ريبولوفليف.

المكانة التي سعى لها لم يجد لها وسيلة أولًا إلا ضخ الأموال للحاق بقطار باريس المنطلق كالصاروخ بفضل الوسيلة نفسها، وافقه «رانييري» مدرب الفريق حينها ومنحه قائمة هائلة لأسماء يحتاجها، نذكر منها «فالكاو، جيمس رودريجز، كوندوبيا، جواو موتينهو، مارسيال، برباتوف، أيمن عبدالنور، سيرجو روميرو» بقيمة 136 مليون يورو،لكن المرعب الحقيقي كان رحيل قائمة أخرى عن الفريق ضمت أكثر من 27 لاعبًا مقابل 4 مليون يورو فقط؛ ميركاتو خرافي لا يوصف إلا بغرابة الأطوار!.

لكن 136 مليونًا لا تضمن لك الدوري أحيانًا، ربما لأن منافسك هو ناصر الخليفي الذي كان يضم حينها «كافاني، ماركينيوس، رابيو» لترسانة مدججة بـ «تياجو سيلفا، إبراهيموفيتش، لوكاس مورا، فيراتي»، أنهى موناكو الدوري ثانيًا وصعد ليلعب تشامبيونزليج.

http://gty.im/187393517

يونيو 2014 يقع اختيار «ديمتري» على البرتغالي «ليوناردو جارديم» لقيادة فريقه، كانت القوانين المالية للويفا بدأت بعرقلة ماكينة الشراء، فتعدلت سياسات موناكو مع الوافد.


بساط جارديم السحري

اللاعبون الصغار أثبتوا كفاءة آلية تطوير أكاديميات موناكو، نعم لقد غيرنا إستراتيجية الشراء.
ليوناردو جارديم، قبل مباراة يوفنتوس، دور الـ8 موسم 2015.

بعد العمل كمساعد مدرب لمدة 5 سنوات، ومثلهم كمدير فني، كان قد اختير لقيادة «شافيس» البرتغالي، من هنا بدأ سطوع نجم «جارديم» بسماء التدريب البرتغالي، عمل معهم لعام واحد فقادهم للدرجة الأولى، في الوقت الذي عانى فيه سبورتنج لشبونة أشد معاناة بتحقيقه أسوء مراكزه تاريخيًا بالدوري.

وجد نفسه مسئولًا عن إعادة شخصية لشبونة، لكنه أثبت إمكانياته عندما أتم مهمته على أكمل وجه صاعدًا بالفريق من المركز السابع للثاني مقتنصًا بطاقة الشامبيونزليج. ملمحان أساسيان تميّز بهما لشبونة مع «جارديم»؛ أولهما الغزارة التهديفية بالرغم من إمكانيات لاعبيه، وثانيهما هو الاهتمام الكبير بأكاديمية الكرة، يكفي الإشارة أنه من منح الفرصة للحارس “بارتيسيو” بطل اليورو الفائت، ربما أُعجِب ديمتري بهذين الملمحان!.

أن تكون مدربًا لفريق فيجو ورونالدو فهذا يعني اهتمامًا بفرق الشباب.
ليوناردو جارديم.

http://gty.im/643176364

كان مونديال 2014 قد فتح الباب لمغادرة «فالكاو، رودريجز، روميرو» عن موناكو لأندية أكبر، لم يُذعر «جارديم» بعكس سلفه «رانييري» الرافض لمغادرة أي نجم، وقرر البرتغالي إضافة أسماء شابة بديلة كـ «باكيوكو، برناردو سيلفا» ومنح فرق شباب النادي الاهتمام. أقنع «ديمتري» بأن فلسفة تطوير لاعبين صغار ثم إعادة الاستفادة من بيعهم بعد تحقيق إنجاز بـموناكو يجدي نفعًا أكثر من مجرد شراء النجوم؛ كالبساط السحري تمامًا بدت الفكرة للروسي.

جارديم بدأ بأسلوب لعب متحفظ، حتى سخر منه الصحفي المخضرم «بيير ميني» فقال إنه يمنح الجماهير الرغبة بالنوم أكثر من مشاهدة المباريات. ربما كان براجماتيًا بشهوره الأولى، لا يحب مغامرة غير محسوبة العواقب بـ موناكو الشباب الجديد، الأكيد أن «ميني» لم يغالبه النوم بالموسم الثالث!.

الانصهار والتجانس التام للاعبين بالفرق لا يأتي بسهولة، جارديم مدرب عبقري في الاستفادة القصوى من لاعبيه في بوتقة واحدة، لم يتأثر مرة أخرى ببيع «كراسكو، كوندوبيا، كورزوا» ولكنه قرر أنها اللحظة المواتية لثورة موناكو الهجومية. انقلب التحفظ إلى شراسة بإدارة وإنهاء الهجمات، أضحى الاستحواذ والسرعة عامليْ تفوق الفريق الفرنسي الذي يهاجم بأكثر من 5 لاعبين، لم ينس أنه يقود فريقًا فرنسيًا فمنح الفرصة لأصحاب المواهب بالاستعراض والحرية ولم يكتفِ بالفاعلية فقط.

https://www.youtube.com/watch?v=LJ_n-9E6SGM

إحصائيات موناكو مرعبة للغاية، فقد سجل 76 هدفًا واستقبل 24 فقط بـ 26 مباراة محتلًا صدارة الترتيب الدوري، بل إنه لا يسجل أقل من ثلاثة أهداف بآخر 19 مباراة خاضها، ليصبح خط هجومه هو الأقوى على مستوى القارة العجوز، كيف ذلك؟.

يلعب جارديم بأسلوب لعب 4/4/2 أو مشتقاته، فالكاو عاد أفضل مما كان مسجلاً 23 هدفًا بـ 22 مباراة، معه يلعب تيري هنري الجديد صاحب الـ18 عامًا «مبابي» ذو الإمكانيات الواعدة، خلفهما «برناردو سيلفا» الذي تلاعب بدفاعات السيتي ويحظى بمتابعة الأندية، عمق الملعب به «بكايوكو» الذي يؤدي موسمًا أكثر من رائع، على الأطراف «جبريل سيدي بيه، بنيامين ميندي» صاحبا الإمكانيات البدنية القوية التي تؤهلهما للقيام بالأدوار الدفاعية والهجومية، في الخلف يلعب المدافع القوي «جليك» الذي سيؤثر غيابه على مباراة العودة.

جارديم لا يحتاج لأن يفاجئ العالم بمباراة العودة أمام السيتي لأنه واقعيًا فعل، قد يفوز بالدوري الفرنسي برقم مجنون غير مسبوق من الأهداف، ولن يمنح جوارديولا بطاقة دور الـ 8 على طبق من ذهب.


يوناي وأولويات العاصمة

حالة سان جيرمان لا تخفى على الجميع، القصة التي بدأت في أكتوبر 2011 واكتسحت الدوري المحلي منذ ذلك الحين باستقطاب نجوم صف أول كان لها أن تشهد تغييرًا يمس أولوية النادي بالتعاقد مع «يوناي إيمري». صحيح أن «لوران بلان» ليس مدربًا استثنائيًا لكنه كان يقدم مردودًا جيدًا بالدوري، غير أن طموح ناصر الخليفي الذي عبّر عنه بوضوح يمتد لأبعد من إمكانيات قائد الديوك السابق.

الخليفي أراد تأهلاً لأول مرة بتاريخ النادي العاصمي لنصف نهائي دوري أبطال العام الماضي، لكن «بيليجريني» كان يترك آخر علاماته الإيجابية مع السيتي ليصعد بهم لملاقاة الميرنيجي، من هنا لمعت فكرة التغيير برأس الخليفي. السؤال الأهم هنا كان: من البديل؟!.

http://gty.im/491353716

«باريس» مثلًا يمتلك علاقات جيدة بـأنشيلوتي لكن لا أحد يرفض كتيبة البايرن المتشوقة لبطولة يتخصص فيها «كارلو»، كذلك بيب ومورينهو كانا قد حسما قرار إعادة المواجهة من جديد في غير أسبانيا، الأسماء سالفة الذكر تمثل مركز ثقل النجاح الأوروبي، لكن « ناصر » انطلق خارج ذلك الإطار.

لو أن متخصصي المواجهات الأوروبية خارج الحسبة، فلماذا لا يتعاقد مع آخر متخصص بمواجهات أقل بريقًا كالدوري الأوروبي؟.

هذا ما تم بالضبط، إيمري الذي فاز مع إشبيلية بثلاثة كؤوس دوري أوروبي متتالية بارع للغاية في المواجهات الإقصائية، بل ربما يكون ذلك تخصصه الأول. قد يخسر إيمري من فرق أقوى بمواجهات الدوري دون صعوبة، لكنه أبدًا لن يكون خصمًا هينًا بالنهائيات أو بالأدوار الإقصائية، يشهد نهائي كأس كوبا دي راي 2015 بذلك على الأقل.

بالتأكيد كانت مقاربة مواجهاته بالدوري الأوروبي مع زينيت أو فيورنتينا بتلك المتوقعة مع عمالقة القارة مجازفة خطيرة، لكنها مجازفة تستحق، «بلان» لم ينجح سوى بتعكير صفو البلوز فقط.

http://gty.im/627112620

التقت حرفية المدرب الواعد الذي يفضل الطريقة الهجومية التي يحبها الباريسيون مع أولويات الخليفي، الأخير كان يدرك أن مشروعه قد يتعثر محليًا في البدايات مع «إيمري» لعدم درايته بالمنافسات الفرنسية إضافة إلى عوامل صعود «نيس وموناكو»، لكنه كان يعرف أن مشروعه على الطريق السليم مع المدرب الأسباني، لا ضير بالتأكيد إن حصل على بطاقة نصف النهائي بالتشامبيونز ليج نظير خسارة دوري هذا العام، لا ضير أبدًا لو فاز على أفضل فريق أوروبي بالسنوات الأخيرة محققًا تفوقًا لا يضاهى على المستوى النفسي بدوري سيحصل عليه مرة أخرى قريبًا!.


العد التنازلي

يوناي إيمري خلال فترة ولايته بإشبيلية.

قد تبدو مهمة «إيمري» بفرنسا أشبه بعد تنازلي بدأ منذ إعلان ولايته وسينتهي إذا لم يستطع إحداث تقدم أوروبي ملحوظ ليبحث الخليفي عن بارع آخر يوكل له مهمة، أفضل شيء يمكن لـ «إيمري» أن يفعله هو أن يدمر هذا العد التنازلي تمامًا ويعكس الأمر لمعادلة طويلة أو متوسطة الأمد.

لن يتم ذلك إلا حينما ينجح الإسباني بإقناع لاعبيه بأنه لا تعارض من اللعب لـلفريق الباريسي من أجل ضمان المقابل المادي وبين مناطحة الكبار بدلاً من مجرد نيل شرف المحاولة، بأن يقنع «فيراتي، رابيو، ماتويدي» بالبقاء لصناعة المجد هنا بدلاً من أن يكون أحدهم بديلاً لـ «بوجبا» باليوفي وآخر يحل مشكلة «بوسكيتس» وأخير لا يفكر بعد ثناء «مورينهو» عليه، بأن يواصل دفع «كافاني» للأمام بعد تعثره بداية الموسم ليحل مكان «زلاتان» بعمق منطقة الجزاء، بألا يسمح للأندية الأخرى بالاستفادة من المواهب الفرنسية الناشئة لأنه لا يهتم إلا بالميركاتو.

دخول العوامل النفسية لمعادلة «إيمري» كان ضروريًا بشدة لنجاح مشروعه، أولويته يجب أن تكون إقناع لاعبيه بقدرتهم على تحقيق المجد وألا يتحول باريس لفاترينة ممتازة للاعبين ينظرون لنادي العاصمة كمحطة العبور لأسبانيا أو إنجلترا.


العقلية تحكم

من كان يدري أني سألعب نهائي أوروبي جديد؟! الآن فقط نمتلك الفرص بعد أن بذلنا التضحيات دون علم لما ستئول إليه الأمور!.

ليس من المنطقي إرجاع تألق «موناكو وباريس» لتفوق فني فقط على الخصم وإهمال عناصر الحضور النفسي والذهني، فحتى لو كان الخصم بأسوء حالاته فإنه في النهاية «برشلونة»، حتى وإن كان «السيتي» يعاني بخط ظهره فإن المباراة كانت على ملعب الإمارات أمام «أجويرو، سيلفا، يايا توريه، دي بروين، ساني»، الأسماء الثلاثة الأولى تمتلك أضعاف خبرات لاعبي موناكو على الأقل.

فرنسا بدت جادة بمراهنتها على اللاعبين الشباب حتى أصبح منتخبها محل إعجاب. أن تمتلك «بوجبا، رابيو، باكايوكو، نزونزي، كانتي، ماتويدي، موسي سيسوكو» فقط بمراكز الارتكاز بوسط الملعب بتلك الأعمار المنخفضة والإمكانيات المرعبة فإنه أمر استثنائي بالتأكيد.

الأمر ذاته اتجه له الناديان الفرنسيان، بالتعاقد مع لاعبين واعدين بسن صغير وتصعيد آخرين من فرق الشباب وتعزيز شعور بأن الفارق بالخبرة يمكن تحصيله طالما أن الالتزام وإعلاء روح الفريق حاضران، علينا انتظار تقدم الفريقين الأوروبي خلال موسمين من الآن وبالتبعية متابعة فرنسا بالمونديال القادم.

المراجع
  1. مسيرة مالك نادي موناكو ديميتري ريبولوفليف
  2. ازدهار الكرة الفرنسية