تتراكم المعرفة البشرية منذ الأزل بـ«التجربة والخطأ – Trial and Error». طور البشر قدرة مميزة على الصمود في وجه الإحباط؛ مع تطويرهم للمعرفة يدًا بيد حتى جنوا ثمار صبرهم تباعًا. ورغم المظهر العقلاني والعملي الرائع، فإن التجربة والخطأ طريقة ذات جانب مظلم له الكثير من الضحايا!.

ليس هناك ما يدلل على ذلك أكثر من الضحايا الذين لقوا مصيرهم حتى نتعلم نحن –ببطء- أن الدم ليس واحدًا. لن يكون إخبارك بأن للدم فصائل متعددة أمرًا جديدًا أو مثيرًا بأي حال. مع هذا فإن تلك لم تكن الحال في القرن التاسع عشر؛ عندما تساءل «لاندشتاينر» لم لا نستطيع نقل دم الحيوانات للبشر؟

من المهم الإشارة إلى أننا لسنا بصدد إعادة سرد نفس قضايا دروس الأحياء حول كيفية تكتل المستضدات والأجسام المضادة. سوف نطرح أسئلة مختلفة هذه المرة!.


ماهي فصيلة دمك.. الحقيقية؟

كارل,لاندشتاينر,فصائل,الدم,بيولوجي
كارل لاندشتاينر.

كان على الكثير من المرضى والمصابين مغادرة هذا العالم في ألم؛ ليكتشف الأطباء أن الفكرة البسيطة التي تفترض أن كل الدم سواء؛ لم تكن صحيحة. لم يتبين أحد السبب وراء المضاعفات الشديدة المفضية للموت التي يتعرض لها المرضى عند نقل الدم إلى أجسادهم من جسم آخر.

أليس الدم سائلًا بشريًا موحدًا؟ وما الفارق بين الدم البشري والدم الحيواني؟

حاول «كارل لاندشتاينر» اكتشاف الإجابة حتى تدانت له أخيرًا في عام 1901، ليتم الإعلان لأول مرة عن فصائل الدم، وبالطبع ليحصل على جائزة نوبل في الطب عام 1930. حينها بدأ تقسيم فصائل الدم بناء على «المستضدات Antigens» التي يشار إليها بالرموز، وبناء عليه فقد ولد أول نظام لتقسيم فصائل الدم، «نظام – ABO».

لم تغلق القضية حينها. قد تعتقد أن الإضافة الوحيدة على الأمر تمثلت في إضافة عامل «ريسوس – Rh» للمعادلة. في الواقع فإن هناك 35 تصنيفًا لفصائل الدم التي تتعدى الـ100.

كثير من هذه الفصائل قد تم تعيينها في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، ولم تتوقف المسيرة حتى الآن باكتشاف مجموعتين جديدتين هما «لانغريس -Langereis» و«فيل – Vel». يعني ذلك أنه في حين كونك تمتلك فصيلة الدم A، فإنه قد تكون فصيلة «لويس» سالبًا، أو «كيل – Kell» موجبًا، أو «لانغريس» سالبًا، على حسب البروتينات المتواجدة في دمك.

نقول بروتينات؟ هل كل الفصائل تعتمد على وجود أو غياب بروتينات؟


ما وراء A وB

الجزيئات المكونة للمستضدات المكونة لنظام (ABO).

إذا نظرنا لماهية المستضدات وتكوينها كجزيئات بيولوجية؛ فإن تعميم الطبيعية الروتينية سيكون خطأ منطقيًا. من حسن الحظ فإن أول المستضدات اكتشافًا كانت الاستثناء. لم تكن مستضدات A وB إلا جزيئات «سكرية – Oligosaccharide» تسكن سطح خلايا كريات الدم الحمراء.

ومع الاكتشاف المستمر للمستضدات المختلفة السابحة في الدم ممتطية كرياته الحمراء؛ فقد تبين أن المستضدات قد تكون كربوهيدرات، أو بروتينات، أو حتى جزيئات هجينة من النوعية تتمثل في جزيء كبير.

يقودنا ذلك لسؤال آخر؛ هل تتواجد المستضدات في الدم فقط؟ وهل تمثل مشكلة عند نقل الدم فقط؟

إذا نظرنا بعين فاحصة –ميكروسكوبية بالطبع- لجدران الشعيرات الدموية؛ سنتمكن من تمييز جزيئات المستضدات قابعة هناك في بطانتها. لم تكن تلك مصادفة، فالواقع أن المستضدات تسكن أسطح مختلف الخلايا في الجسم.

أثار هذا اهتمام المختصين بزراعة الأنسجة لأنه يقتضي ألا تكون فصائل الدم متلائمة بين المريض والمتبرع فقط، بل على الفصائل أن تتلاءم أيضًا عند التبرع بعضو أو نسيج. لا يتوقف الأمر هنا.

فمع تنامي القدرة على التفرقة بين عينتين من الدماء بناء على عدد أكبر من المستضدات –بدلًا من مستضد واحد سواء كان A أو B وعامل «ريسوس»-، أصبحت العلوم الجنائية أكثر ثقة في استخدام عينات الدم كقرائن أكيدة في مختلف القضايا.

اقرأ أيضًا: حوار مع قطرة دم: سائل الحياة شاهد على الجريمة

قد يتصادف تطابق فصيلة مشتبه فيه مع فصيلة مجرم في مجتمعات تسود فيها فصيلة معينة B في آسيا، ولكن من الصعب أن تتطابق كل البروتينات والسكريات الأخرى. يعضد الأمر كثيرًا من موقف الأدلة الجنائية من حمض نووي وسوائل جسدية أخرى.

وهنا يأتي السؤال الأصعب. يمكننا التأكد من أن التطور لم يسع خصيصًا ليمنحنا أدلة جنائية دامغة لتبرئة المظلومين أو إدانة المجرمين؟ ما عساه يكون الهدف التطوري وراء ظهور أنواع وفصائل مختلفة من الدم دون أن يكون لأي منها وظيفة واضحة؟


سر يخفيه التطور

فصائل,الدم,مستضدات,سكريات,جزئيات,بيولوجي
فصائل,الدم,مستضدات,سكريات,جزئيات,بيولوجي
فصائل.الدم,الملاريا,طفيليات
بلازموديوم فيفاكس، أحد الطفيليات المسببة للملاريا.

يسهل الحديث عن فائدة معرفة الفصائل دموية المختلفة، أما عند الحديث عن فائدة لتنوعها من الأساس فإن النقاش لم يزل عالقًا في منطقة ضبابية. بالأخذ في الاعتبار مدى انتشار فصيلة O في البشر؛ فإن أي احتمالية لوظيفة فعلية لهذه الجزيئات تصبح محل شك. لم يسجل التاريخ الطبي مرض أحدهم بسبب افتقار دمه للمستضدات.

لا يخلو الأمر من وقائع ساعدت فيها فصائل دموية معينة في حماية البشر من مرض ما. أحد الطفيليات المسببة للملاريا –المعروف باسم «بلازموديوم فيفاكس – Plasmodium Vivax»- يجد في مستضد «دافي – Duffy» –وهو أحد المستضدات المكتشفة لاحقًا والتي يمثل وجودها أو غيابها فصيلة دم– منزلًا مفضلًا.

بالتالي فإن هؤلاء الذي يحملون دماء من فصيلة «دافي سالب» يصبحون منيعين نسبيًا من الإصابة بهذا النوع من الملاريا. تظل تلك نتيجة لتنوع الفصائل لا مسبب لها. حتى إذا فكرنا في قضية أن بعض الفصائل منيعة لبعض الأمراض عن غيرها، وبالتالي فإن أصحابها أقل عرضة للموت وأكثر قدرة على تمرير جيناتهم، فإن حديثنا يظل محصورًا في منطقة النتائج.

نعلم الآن أن مستضدات A وB قد تطورت منذ 20 مليون سنة، لكن المحرك المسبب يظل مجهولًا حتى الآن. هل كانت طفرة في ترجمة الحمض النووي؟ إن كان الأمر كذلك فإن خطأ بهذا القدر يتطلب تفسيرًا بحد ذاته لفهمه.

حاول الكثيرون تفسير الأمر في بدايته –عندما كانت الفصائل (A وB وO) فقط هي المعروفة -كترجمة الأمر على أنه تقسيم طبيعي للأعراق. تم جمع بيانات حول الفصائل السائدة مع مختلف المجتمعات المغلقة؛ ثم الوصول لنتيجة عامة تشهد بأن فصيلة A هي فصيلة العرق الأوروبي، وB هي فصيلة العرق الاّسيوي، بينما تتمركز فصيلة O التي تفتقد للمستضدات في أمريكا الجنوبية.

كانت القرائن تعتمد على النسب الضخمة لإحدى الفصائل في السكان الأصليين لبعض الدول. بالطبع أتت الإحصائيات تلو الأخرى مثبتة أن الفكرة لم تتعد كونها محض مبالغة. صحيح أن كل مكان في العالم يحمل سكانه نسبة معينة من إحدى الفصائل أكثر من الأخرى، لكن هذه النسب الكبيرة لا تتعدى 25 بالمائة ولا تتعدى الخمسين بالمائة في حالة النظر للمجتمعات الصغيرة كبريطانيا (بالمقارنة مع أوروبا).

لا يمكن إنكار أن بعض القبائل الأمريكية تمتلك نسبًا تصل لـ100% فيما يخص حملها لفصيلة معينة، إلا أن القياس على مستوى القبيلة محكوم عليه بالقصور الإحصائي ليظل التفسير الفعلي لعملية التنوع مراوغًا.

ما هي فصيلتك الحقيقية إذن؟ هل يحمل دمك خطًا دفاعيًا إضافيًا منحته إياك الجزيئات الصغيرة التي لا ندري لم أصبحت بحوزتنا؟ كم فصيلة إضافية تعيش في خلايانا ولم نتعرف عليها حتى الآن؟ هل بالإمكان ربط فصائل الدم بأمراض غير طفيلية؟ ربما السرطان؟ أسئلة كثيرة ما زالت قيد النقاش في موضوع يظنه الكثير قد قتل بحثًا. ربما نواجه مرة أخرى حقيقة أننا لا نمتلك في العلم رفاهية الحكم النهائي.