العيشُ ماضٍ فأكرِمْ والديْك به *** والأمّ أولى بإكرامٍ وإحسانِ وحسبُها الحمل والإرضاع تُدمنه ** أمرانِ بالفضل نالا كلّ إنسان!
أبو العلاء المعرّي

لا تبدو مكانة الأمومة التي نافست مكانة الإله في بعض الثقافات والأديان القديمة مثيرة للدهشة نظرًا للدور المهم الذي تلعبه الأمومة في التكوين النفسي والعاطفي وحتى الاجتماعي للفرد، هذا ناهيك عن الأمومة البيولوجية التي هي سبب وجود هذا الفرد من الأساس، ورغم هذا الدور المحوري الذي تلعبه الأم إلا أنه دور محيطي على هامش الصراع الإنساني على عكس الإله الذي احتل مكانه دائمًا في قلب هذا الصراع آمرًا وناهيًا، محبًا وناقمًا متصرفًا وشاهدًا.


الأم في الثقافات القديمة!

ربما بسبب هذا التباين احتلت «إيزيس» مكانها في الميثولوجيا المصرية كمثال للأم والزوجة وربة للطبيعة والسحر. كانت «إيزيس» زوجة «أوزيريس» وأخته في نفس الوقت، وحين قام الأخ الغيور «سِت» بقتل «أوزيريس» جمعت «إيزيس» أجزاءه المتناثرة في كل أرجاء مصر واستخدمتها في إخصاب نفسها وأنجبت «حورس» الذي انتقم لأبيه من عمه وأصبح أول حاكم لمصر، وبهذا تكون «إيزيس» أمًّا لجميع فراعنة مصر. وقد احتفل المصريون بعد ذلك بشكل سنوي بإيزيس رمز الأمومة وشهدت أسطورتها تحورًا مع الزمن لتمثّل كذلك التجدد والحماية التي أنعمت بهما على ربوع مصر.

ارتبطت الأم في المخيال الشعبي بالتأسيس للوجود وتغذيته بالقيم دون أن تكون طرفًا في الصراعات الدائرة فيه، وارتبط الاحتفاء بالأم بميثولوجيا ورؤية للكون والخلق وبعملية الولادة والتجدد.

انتقلت أسطورة «إيزيس» إلى الثقافة الرومانية- اليونانية عبر الحاكم بطليموس الذي رأى في ذلك توحيدًا للشعوب اليونانية والمصرية تحت حكمه، وتمت المقابلة بين «إيزيس» وآلهات اليونان «ديميتر» و«أفروديت» و«عشتروت» تعزيزًا لدورها كمثال للخصوبة والأنوثة. وفي الميثولوجيا اليونانية احتلت «ريا» إلهة الأمومة مكان «إيزيس» فكانت تقام الاحتفالات على شرفها في كل ربيع. كانت «ريا» أمًا لـ«زيوس» وآلهة الأوليمب، ولكنها لم تدخل في زمرتهم. وكان لدى الرومان أيضاً احتفالهم الربيعي بـ«ماجنا ماتر» أي الأم الكبرى، وانتقل هذا التقليد إلى الكنيسة الكاثوليكية المبكرة التي احتفت بمريم العذراء أم المسيح في الأحد الرابع بعد الصوم الكبير.

تحتفي العقيدة الهندوسية كذلك بيوم للأم يسمى (Mata Tirtha Aushi) الذي أعيد إحياؤه في النيبال كيوم قومي للأم، وخلف هذا الاحتفال قصة فتى كان يرعى بقرته بالقرب من بركة ماء ثم في أحد الأيام شاهد أمّه المتوفاة في البركة وأراد منها العودة معه إلى المنزل، ولكنها أخبرته أنه لا يمكنها العودة، ولكن إذا أراد رؤيتها فعليه العودة في اليوم الذي لا قمر له من شهر باشاك كل عام. انتظم الفتى في الذهاب إلى البركة في نفس هذا اليوم من كل عام، وانضم إليه أقوام كثر يذهبون لمشاهدة أمهاتهم. وفي التعاليم الهندوسية فإن من يغتسل في نهر (Mata Tirtha) في هذا اليوم من كل عام ليس عليه أن يوجد في رحم امرأة في حياته المقبلة، وسيتحرر من الحياة الإنسانية، ويحقق الموكشا أو التحرر الكامل.

ارتبطت الأم إذن في المخيال الشعبي في معظم الثقافات بالتأسيس للوجود وتغذيته بالقيم دون أن تكون طرفًا في الصراعات الدائرة فيه، وارتبط الاحتفاء بالأم دائمًا بميثولوجيا ورؤية للكون والخلق وبعملية الولادة والتجدد. بمعنى آخر فإن هذا الاحتفاء كان مثله مثل الأعياد والاحتفالات ما قبل الحداثية يسعى للتأسيس للجماعة الإنسانية ويحدد قيمها وأهداف وجودها ولم يكن يهدف للتذكير برابطة الأمومة في حد ذاتها.


أمومة الإنسان الحديث

في عصر التقدّم والتأسيس العقلاني للمجتمع لم يعد الإنسان بحاجة للأمومة كسياق تأسيسي للوجود، بل انتقلت الأمومة إلى منزلة الرابطة التي تجمعُ بين فردين من المجتمع، بين الأم وابنها أو ابنتها أو الرابطة التي تؤمّن تماسك المؤسسة الأقل حجمًا والأكثر أهمية في المجتمع الحديث وهي الأسرة؛ لهذا جاء الاحتفال والاحتفاء بهذه الرابطة متناسبًا مع الدور الوظيفي الذي تلعبه الأعياد والمناسبات في المجتمع الحديث بحسب نظرية «دوركايم» التي تنصُّ بأن الأعياد والمناسبات تقوم بمهمة إعادة خلق المجتمع على الأسس والقيم التي نشأ عليها ضد قوى الفردية والتذري التي تعمل على إضعاف هذه القيم والأسس وإزاحتها على الدوام.

تقوم المناسبات والعطلات الشعائرية بهذا الدور عبر التذكير بالإله المشترك الذي يعبده المجتمع لتقوية العلاقات العاطفية والوجودية بين أفراده، أو بخلق القيمة على أشياء لا قيمة لها بالأساس للعمل على توحيد الحالة الشعورية لأفراد المجتمع ودفعهم نحو التكامل والتآخي. وتنقسم العطلات والأعياد الحديثة بحسب النظرية السوسيولوجية الحديثة إلى مناسباتٍ تقع ضمن سياق الدراما أو القصّة المؤسسة وهي التي تقوم بعملية إعادة التوحيد والربط ومناسبات تقع خارج القصة وتقوم بوظيفة تفريغ التوتر والضغط داخل المجتمع، قد تقوم مناسبة واحدة بالمتهمين معين إلا أن موضعها داخل أو خارج السياق يعزز مهمة في مقابل أخرى.

ربما باستخدام هذا الإطار يمكننا أن نحلل ونفهم الاحتفال بيوم الأم بشكله الحديث الذي بدأ كمحاولات متفرقة في بريطانيا والولايات المتحدة في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، منها محاولة الناشطة الاجتماعية «آنا جارفيس» التي عملت على قضايا السلم والحرب الأهلية في الولايات المتحدة وسعت لتسليط الضوء على معاناة الأمهات والأُسر التي فقدت أبناءها في الحرب الأهلية الأمريكية في كلا الجانبين، وأطلقت حملات لإعلان يوم موحّد كعُطلة قومية للاحتفال بالأم والأمومة، إلا أن جهودها لم تُكلل بالنجاح حتى وفاتها في مطلع القرن العشرين.

واصلت ابنتها آن التي كانت تُكن إعجابًا يصل إلى التقديس لأمّها وجهودها السعيَ للتأسيس ليوم قومي للاحتفال بالأم حتى تكلَّل سعيها بالنجاح بإعلان الرئيس «وودرو ويلسون» في عام 1914 يوم الأحد الثاني من شهر مايو كل عام يومًا للاحتفال بالأم، وتكريم أمهات الجنود الذين سقطوا في الحرب دفاعًا عن الوطن. انتقل هذا الاحتفال بعدها من الولايات المتحدة إلى جميع أرجاء العالم في أوقات متفرقة من العام، حيث قامت كثير من الدول باستدعاء مناسبات من تراثها الخاص وتخصيصها كيوم للاحتفال بالأم والأمومة، كجمهورية إيران الإسلامية التي تحتفل بيوم مولد فاطمة بنت النبي محمد – عليه الصلاة والسلام – كيوم للأمومة، ونيبال التي أعادت إحياء الاحتفال الهندوسي، وإسرائيل الذي تحتفلُ بالأمومة في 30 من شباط/ فبراير ضمن الاحتفال بيوم الأسرة، وبعض الدول المسيحية من بينها بريطانيا التي تحتفل بيوم الأم في الأحد الرابع بعد الصوم الكبير، بينما تحتفل به دول أخرى من بينها روسيا وأفغانستان ودول من شرق أوروبا بهذه المناسبة في اليوم العالمي للمرأة في الثامن من مارس كل عام.

وقد دخل الاحتفال بهذه المناسبة إلى العالم العربي من بوابة مصر حيث قام الأخوَان مصطفى وعلي أمين مؤسّسي دار «أخبار اليوم» الصحفية بالدعوة للاحتفال بيوم للأم بعد ورود العديد من قصص الأمهات إلى الجريدة تشتكي من نكران الأبناء لأمهاتهم على الرغم من تضحية الأمهات بحياتهن لأجل هؤلاء الأبناء. كان اقتراح يوم 21 مارس أول يوم من أيام الربيع للدلالة على التجدّد والعطاء من أفكار القراء الذين أُعجبوا بالفكرة واحتفلت مصر لأول مرة بيوم الأم في هذا اليوم من العام 1956 .


الأفق التراثي وإشكالية التحديث

في عصر التقدّم والتأسيس العقلاني للمجتمع لم يعد الإنسان بحاجة للأمومة كسياق تأسيسي للوجود، بل انتقلت الأمومة إلى منزلة الرابطة التي تجمعُ بين فردين من المجتمع.

قد يصح الادعاء بأن الإسلام لم يجعل مكانة مركزية للأمومة في سياق تأسيس الوجود والخلق، لكنه في المقابل جعل لها دورًا مهمًا ولافتًا في التصور الإسلامي، فقد جعل رضا الله الخالق والمعبود الأوحد مرهونًا برضا الوالدين، هذا التفريق كان ضروريًا بالنسبة لرسالة الإسلام التوحيدية التي تُنزّه الخالق عن أي منافسة وتجعل له وحده قدرة الخلق والإيجاد وما سواه مجرد أسباب أو آليات يسير بها هذا الخلق.

في العصر الحديث لا تقوم المناسبات والعُطلات بنفس الدور التأسيسي للمنظومات الاعتقادية والإيمانية بقدر ما تقوم بدور الداعم أو اللاصق للروابط القومية والوطنية القائمة على متخيلات شديدة الهشاشة.

تجاوزًا لقضية مكانة الأم ووجوب برمها، يطرح التصور الإسلامي إشكالاً آخر وهو تصوّره للأعياد الذي يقتصر على عيدينِ فقط مرتبطين بشعيرتين أو ركنين من أركان الإسلام يتم التمركز فيهما على التوحيد الكامل للإله، ربما لا يمكن فهم هذا التصور الإسلامي دون اعتبار وظيفة الأعياد في سياق المجتمعات الدينية، التي قامت بمهمة التذكير والتأسيس لرؤية دينية عن الوجود والخلق؛ وقيامها بدور مركزي في التأسيس للإيمان الجماعي؛ لهذا كان الإسلامُ حريصًا على تنقية مجتمعه من أي شعائر أو احتفالات تقوم بالتشويش على رسالته المركزية، وتعيدُ إحياء رواسب لأي منظومة إيمانية تسبقه.

في العصر الحديث لا تقوم المناسبات والعُطلات بنفس الدور التأسيسي للمنظومات الاعتقادية والإيمانية بقدر ما تقوم بدور الداعم أو اللاصق للروابط القومية والوطنية القائمة على متخيلات شديدة الهشاشة، لا تعمل هذه المناسبات لصالح إطار الحفاظ على تماسك الأمم الجديدة المتخيلة متعددة الإثنيات والأديان فقط، إنما تعمل كذلك كقوة مضادة لليبرالية الفردية التي تفرضها أنماط الإنتاج والمجتمع المدني في العصر الحديث. يمكننا أن نستشهد بالقصة التي دعت مصطفى أمين للمطالبة بيوم للأم على سبيل المثال للدلالة؛ فالأم التي حكَت له قصتها في مكتبه كانت أرملة فضّلت عدم الزواج مجددًا والاعتناء بأطفالها وتربيتهم حتى شبّوا وانشغل كل واحد فيهم بعمله وزواجه وتركوها دون السؤال عنها وعن صحتها واحتياجاتها. هذه القصة التي تبدو معتادة ومتكررة إلى حد كبير في المجتمع الحديث، وتصبح أقل قابلية للتحقق في ظل وجود العائلة الممتدة والروابط القبلية والقروية في المجتمعات القديمة، وتمسي مهمة البر والرعاية أكثر صعوبة ضمن نمط الحياة والإنتاج والعمل المدني في العصر الحديث، حيث يتحول هذا البر وهذه الرعاية إلى التزام أخلاقي فردي دون رقيب اجتماعي أو نوع من الروابط التكاملية التي تضمن تحقق هذه القيمة.

في ظل هذا التحوّل تصبحُ قدرة الخطاب الوعظي الداعي إلى بر الوالدين كآلية وحيدة لحفظ هذه القيمة واستمرار وجودها في المجتمع موضع تساؤل، لكن على الجانب الآخر لا يفلت من هذا التساؤل أيضًا قدرة هذا النمط الحديث من الاحتفال بيوم واحد في العام على الاحتفاظ بهذه القيمة ودعمها. لا يكمن الإشكال إذن على دعوة دينية ببر الوالدين في كل أوقات العام مقابل احتفاء حداثي بهذه القيمة في يوم واحد من العام، إنما في الضرورة الأخلاقية لإبداع مؤسسات وخطابات قادرة على حفظ هذه القيمة، وإعادة بنائها.

المراجع
  1. History of Mother's Day: From Ancient Egypt to Modern Times
  2. Ancient Greek Roots of Mother’s Day
  3. Mata Tirtha Aushi
  4. عيد الأم من «ريا» الإغريقية لـ«فكرة» مصطفى أمين
  5. 275. "Toward a Theory of Public Ritual," Sociological Theory, Vol. 18, No. 1 (March 2000), pp. 40-59.