سيدة عجوز فقيرة، ترتدي ملابس بسيطة، رأى ضباط الشرطة أنها خطر على القانون، وقرروا القبض عليها، والتهمة: بيع مناديل في محطات المترو.لم تتمالك السيدة نفسها، انهارت في البكاء، بدأت في تقبيل أيدي وأرجل ضباط وضابطات الشرطة الذين يحيطون بها، تستعطفهم لعل قلوبهم ترق لحالها، وفي النهاية سمحوا لها بالمغادرة بعد تحذيرها من مغبة العودة مرة أخرى لبيع المناديل وكسب قروش قليلة تعينها على متاعب الحياة.في مشهد آخر، سيدة أربعينية تقف بجرأة أمام أحد الضباط بمطار الغردقة، تكيل له السباب، وتبدأ في التعدي عليه، وسط حالة من الصمت والانكسار أصابت الضابط بمجرد أن قالت له السيدة “أنت متعرفش أنا مين؟”.تتواصل حلقات مسلسل “سيدة المطار” حتى كادت تبلغ حلقاتها مثيلاتها في المسلسلات المكسيكية التي كان يتابعها الجمهور العربي منذ سنوات، وحلت محلها المسلسلات التركية حاليا.استفاض الكثيرون في المقارنة بين رد فعل الضابط المستكين مع السيدة “ياسمين النرش” وبين ردود أفعال ضباط شرطة آخرين مع سيدات أخريات ليست لهن واسطة، ولا يتمتعن بما للأخيرة من نفوذ ومال.العديد من الملاحظات يمكن رصدها من خلال متابعة ما حدث، بالإضافة إلى استنتاجات يمكن استخلاصها من التعاطي الإعلامي مع القضية التي شغلت الرأي العام لأيام معدودة.الاستغلال السياسيمن البداية وضح حرص الإعلام على استغلال الحادث سياسيا لأقصى درجة ممكنة، واعتمد سريعا مصطلح “سيدة المطار” للحديث عن ياسمين النرش، وهو مصطلح أكد أكثر أننا بصدد فيلم سينمائي طويل على وزن أفلام “سيدة القطار” و”سيدة القصر” للفنانة الراحلة فاتن حمامة. وامتلأ الفضاء الإعلامي بالمئات من ساعات البث عن الواقعة وتفاصيلها وشهود العيان عليها وأقارب المتهمة، وضباط شرطة يتباكون على كرامتهم، ومسؤولين بوزارة الداخلية يقومون بغسل سمعتهم، ورد فعل المواطنين والمشاهير بكافة أنواعهم من فنانين ولاعبين.كما أورد موقع “البوابة نيوز” تمهيدا مضحكا للواقعة، إذ وصفها بأنها تعد “واقعة جديدة من وقائع التعدي بالسب والضرب على ضباط شرطة لاستفزازهم وتشويه صورتهم” لكنها لم تذكر وقائع أخرى للتدليل على هذا التأكيد الغريب الذي لم تجرؤ صحيفة أخرى مؤيدة للانقلاب وللسيسي مثل “الوطن” على قوله، إذ نجد أنها اعترفت بالحقيقة أثناء عرضها للواقعة قائلة إنها سابقة تعد الأولى من نوعها.الواقعة تم استغلالها أيضا من أجل تصفية الحسابات بين المتصارعين من مؤيدي النظام، بعدما ادعت الصحيفة التي يرأسها “عبد الرحيم علي” أن السيدة تعمل راقصة في إحدى الفنادق التي يمتلكها رجل الأعمال “نجيب ساويرس” وهو ما ثبت كذبه، لتتراجع الصحيفة وتدعي أنها سيدة أعمال لها شراكة مع ساويرس، في إطار الحرب بين الجانبين ورغبة “عبد الرحيم علي” في الثأر من رجل الأعمال صاحب قناة “أون تي في”، بعدما تسبب الأخير في طرده من قناة “القاهرة والناس” وإيقاف برنامجه “الصندوق الأسود”.وسارت صحيفة “الفجر” على نفس المنوال في ادعاء كون “ياسمين النرش” راقصة، وهو ما يتناغم أيضا مع العلاقة السيئة التي تربط بين الصحفي “عادل حمودة” رئيس مجلس تحرير الجريدة، و”ساويرس”. وكل طرف يستغل ما لديه ضد الطرف الآخر حتى لو كان الأمر على حساب المهنية.

وحاولت وسائل إعلام إجراء ربط غير منطقي بين الحادث والأحوال في مصر، إذ حاولت تعميم صورة ضابط المطار، باعتبارها تمثل جميع ضباط الشرطة في مصر، وأن “سيدة المطار” تمثل جميع شرائح المواطنين، ليصبح ضباط الشرطة بكاملهم هم “الضحية” ويتحول المواطن إلى الجاني. وهي طريقة تستخدم بكثرة مع باقي مؤسسات الدولة، فإذا هوجم أحد القضاة على أحكام جائرة أصدرها، يكون الرد أن المنتقدين يهدفون إلى إسقاط هيبة “القضاء الشامخ”. وإذا تكشفت انتهاكات لحقوق الإنسان يقوم بها ضباط الشرطة والجيش، يتم الحديث بالمقابل عن تضحيات هؤلاء الضباط من أجل الوطن، وعن الجيش المصري خير أجناد الأرض وآخر عمود في الخيمة، إلخ. وأن هذه الانتهاكات مبررة وربما طبيعية كذلك.

النشر مع سبق الإصرارالملاحظة الأهم، أن الواقعة نفسها حدثت يوم 27 أبريل، بينما بدأ نشرها بعد ذلك بعدة أيام. ومع ذلك، فوجئنا بوسائل الإعلام (خاصة برنامج المخبر أحمد موسى) تقوم بعرض فيديوهات للسيدة بعد القبض عليها في سجن طرة، أي أن هناك من حرص على تصوير الموضوع بكامله، من بداية المشاجرة في مطار الغردقة، بأجزائها المتعددة، وحتى انتهائها في سجن طرة بالقاهرة، ثم قرر إذاعة الفيلم أو المسلسل على عدة حلقات بعد تسريبه للإعلام. (3 أجزاء من فيديو المشاجرة، ثم فيديو للسجن، وبعدها مداخلات ولقاءات مع شهود عيان وأقارب السيدة والضابط وكل من له علاقة بأي شيء قد يتصل بالموضوع، تدل على أننا أمام فيلم حرص مصوره على إنتاجه كاملا حتى يصل إلى الجمهور).انقلاب السحر

التركيز الإعلامي المبالغ فيه على الواقعة أتى بنتائج عكسية تماما، لأنه أصبح دليلا في حد ذاته على أن تطاول مواطن على ضابط شرطة هو أمر نادر الحدوث، وإلا لما تسابق الجميع في الحديث عنه لمدة طويلة. أما تطاول واعتداء ضباط الشرطة على المواطنين، وإذلالهم وانتهاك حقوقهم وتعذيبهم وقتلهم، فهو الأمر المعتاد والطبيعي ويحدث بصورة شبه يومية في مصر لدرجة أصبحت لا تثير الاهتمام الكافي.

نحيب في اليوم السابعلوحظ أن صحيفة “اليوم السابع” كانت الأكثر حماسا في إبراز الواقعة والتباكي على رجال الشرطة، لدرجة أنها وصفت في عنوانها فيديو الواقعة بـ “المقزز” وهي لغة غير معهودة صحفيا. كما حرصت على تقديم “الخبرات العالمية” فيما يتعلق بالتعامل مع الركاب المتطاولين على رجال الشرطة. ونشرت فيديو للشرطة الأمريكية وهي تقوم بسحل سيدة قيل إنها تعدت على ضباط مطار “كينيدي”. والرسالة الخفية التي يراد توصيلها من الفيديو هي: انظروا، حتى في الولايات المتحدة، قلعة الحرية والديموقراطية، تم التعامل بحسم وقسوة مع المتطاولين، بينما يتم لوم ضباط الشرطة في مصر إذا دافعوا عن أنفسهم، كم نحن قساة على رجال شرطتنا الأطهار، وكم هم طيبوا القلب إلى الدرجة التي تجعلهم يتسامحون ويتنازلون عن حقوقهم. حتى إن محرر الخبر لم يترك شيئا للصدفة، ووضع في ذهنه احتمال ألا يربط جزءًا من القراء بين الواقعتين، فقام بتوضيح ذلك في متن الخبر، مؤكدًا أن الشرطة المصرية تفوقت على نظيرتها الأمريكية في “ضبط النفس”.رغم أن هذا الكلام لا يستحق الالتفات إليه من فرط تفاهته وسطحيته، إلا أننا سنكتفي بمثال واحد فقط يوضح الفرق بين النسختين الأمريكية والمصرية من “ضبط النفس”.فبعد اندلاع مظاهرات مدينة “بالتيمور” احتجاجا على مقتل شاب أسود، لم تؤد الصدامات بين المتظاهرين والشرطة إلى وفاة أي شخص، بل بالعكس، أصيب العشرات من رجال الشرطة الأمريكية، وأصيب عدد أقل منهم من المتظاهرين. بينما لدينا في مصر لم يترك رجال الشرطة مناسبة إلا وكانت لهم بصمتهم الواضحة في “ضبط النفس” ما بين قتلي من المواطنين بالرصاص الحي والخرطوش والتعذيب. ويحتفظ الأرشيف بعشرات الحوادث التي مارس خلالها أفراد الشرطة “ضبط النفس” أثناء مشاجراتهم مع المواطنين، قتلوا خلالها العشرات منهم، رغم أن المواطنين الضحايا لم يخرجوا في مظاهرات أو يحملوا سلاحا، بل كان الأمر في معظمه عبارة عن مشاجرة على أولوية المرور أو ركن السيارة.حتى عندما نشر الشاب “شادي سرور” فيديو يسخر فيه من موقف رجل الشرطة وتناقض موقفه مع مواقف أخرى للداخلية، زورت الصحيفة مضمون الفيديو، وقالت في عنوانها إنه يسخر من “سيدة المطار” رغم أن العكس هو الصحيح.ولم تنس الصحيفة استغلال تنوع الآراء على مواقف التواصل الاجتماعي، وانتقت من المواقف ما يوافق هواها وأجندتها في استغلال الحادث للدفاع عن الداخلية، ونشرت تقريرًا أكدت فيه أن مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي “كلهم طبعا” غاضبون من الفيديو، وأنهم اعتذروا لضابط الشرطة (يصعب تصور أن رواد الفيس بوك وتويتر قرروا تقديم عريضة يعتذرون فيها للضابط وكأننا في مؤسسة حكومية تحشد موظفيها لاتخاذ موقف موحد). بينما قررت صحيفة “الوطن” أن نشطاء مواقع التواصل الاجتماعي رأوا في الحادث “إهانة للشعب” ولم تذكر الصحفيتين أي ردود أفعال أخرى مخالفة، كما أن تصوير التعدي على ضابط باعتباره “إهانة للشعب” هو أمر غير منطقي.شطحات الإعلاميين وخرافاتهم

التعاطي الإعلامي مع الواقعة تجاوز كالعادة كل الأعراف والقواعد المهنية، وهو أمر غير مستغرب مع هذا النوع من الإعلام التعبوي الهيستيري. بدءًا من تأكيد أن “سيدة المطار” كانت مخمورة ومتعاطية للمخدرات، مرورا بترويج رواية الداخلية عن ضبط مخدر “الحشيش” معها بغرض الإتجار، وهو ما يتناقض مع كونها سيدة غنية وزوجة رجل أعمال، وابنة لرجل أعمال آخر. بالإضافة إلى لهجة التشفي الواضحة في عرض فيديو للمتهمة وهي ترتدي “الكلابشات” في سجن طرة (انفرد بعرضه أحمد موسى على قناة صدى البلد، نفس القناة التي عرضت حصريا وقائع إعادة محاكمة مبارك ومهدت لبراءته) وتعامل موسى مع هذه اللقطات باعتبارها فتحا مبينا.

وجدنا كذلك صحيفة تقوم بنشر ما سمته “سجل سوابق عائلة ياسمين النرش”، وقامت صحيفة أخرى بتطبيق دراسة نفسية نظرية على شخصية ياسمين “بهذه السهولة وهذه السرعة” وتوصلت إلى أنها تعاني من جنون العظمة والاضطراب والهوس، ومصابة بمرض “الاضطراب الوجداني الثنائي القطب الهوس”! وقامت المذيعة هالة سرحان، صاحبة التاريخ العريق في التلفيق والكذب، بادعاء أنه سيتم وضع “سيدة المطار” بإحدى المستشفيات الخاصة لمدة شهرين، استنادًا على تلك الدراسة النفسية التي تؤكد أنها مريضة وغير مسؤولة عن تصرفاتها.

الفيلم يُرفع من دور العرض

وأخيرًا، فإنه ولسوء حظ مؤيدي السلطة في الإعلام، فإن هذا الفيلم أو المسلسل قد انتهي سريعا جدا، وعادت أخبار انتهاكات الشرطة سريعا إلى واجهة الأحداث، بعد ظهور فيديو لضابط يقوم بدهس مواطن بقدمه أثناء القبض عليه، وفيديو آخر لأمين شرطة يحصل على رشوة من مواطن نظير عدم تحريره مخالفة مرورية له، واعتداء رئيس مباحث المنيرة على صحفيي جريدة “التحرير” أثناء تأدية عملهم. وفضيحة أخرى مفادها قيام رئيس مباحث “النزهة” ومعاونه بتأجير مسجل خطر للاعتداء على ضابط (يعمل بالمطار أيضا) خدمة لأحد ملاك العقارات، أي أن ضحية الشرطة هذه المرة ينتمي إلى الشرطة أيضًا.وفي النهاية، جاءت مذبحة الشرطة في قرية “البصارطة” بدمياط، التي راح ضحيتها 6 من شباب القرية، بالإضافة إلى قرار التحفظ على أموال اللاعب محمد أبو تريكة، والغضب الكبير الذي أثاره على كافة المستويات لتدفن مسلسل سيدة المطار نهائيا، وتثبت أن غباء السلطة أكبر من أي محاولة إعلامية لاحتواء جرائمها وصرف النظر عنها. لكن ليس من المستبعد محاولة الإعلام إحياء الأمر مرة أخرى بعد مدة للتغطية على هذه الأخبار الكارثية.