المشكلة في الاستيلاء على مصر ليس غزوها، وإنما الوصول إليها، لأنه متى تم هذا ووضع الغازي قدمه على موطئ ما منها، قادته الطبيعة بسهولة إلى بقية أجزائها.

وصف بديع ودقيق من المفكر جمال حمدان لمصر، فهي قد تصمد أمام الغزاة، ولكنها تسلم أمرها لمن يمسك بزمام حكمها، ولو كان خادمًا ككافور أو جارية كشجرة الدر، أو عبيدًا تم شراؤهم من الأسواق كالمماليك، أو جنديًا أجنبيًا غريبًا عنها لا يقرأ ولا يكتب كمحمد علي.

خبرة التاريخ تؤكد أن التغيرات الكبرى التي تشهدها المجتمعات تنجح إذا كان القائمون على التغيير يمسكون بالسلطة ويتحكمون في توزيع الثروة، فيتيح لهم ذلك إحداث تغيرات جذرية من خلال التحولات الطبقية، والتغيير في القيم الحاكمة للمجتمعات، فكل طبقة تصعد بقيمها للسلطة تزيح الطبقة السابقة وقيمها.

وفي تاريخ المصري الحديث والمعاصر فإن التغيرات الكبرى أحدثها محمد علي باشا وجمال عبدالناصر، فكلاهما أزاح طبقات حاكمة عن مواقعها في السلطة والمجتمع، وأتاح صعود طبقات جديدة بقيمها وعلاقاتها، وكان التحكم في السلطة وتوزيع الثروة كفيليْن بإحداث ذلك.

يأتي كتاب «التحول الكبير: إعادة تكوين الثروات وشبكات التحول الاجتماعي في عصر محمد علي» لباسكال غزالة، أستاذة التاريخ بالجامعة الأمريكية بالقاهرة، وترجمته التي أنجزتها راوية كمال وصدرت عن المركز القومي للترجمة بالقاهرة، ليناقش جانبًا من دور إعادة تكوين الثروات في إحداث التحول الاجتماعي. الكتاب يقع في جزأين فيما يقارب الستمائة صفحة. وبعيدًا عن إعادة سرد الحكاية التاريخية، نقف مع كيفية حدوث ذلك التحول في مجتمع يوصف بأنه «ليّن العريكة».

التحول الكبير, محمد علي, كتب, باسكال غزالة, قراءات كتب
كتاب «التحول الكبير: إعادة تكوين الثروات وشبكات التحول الاجتماعي في عصر محمد علي» — باسكال غزالة

في العام 1801، يرحل الفرنسيون عن مصر بعد ثلاث سنوات من الدماء والدمار، وتعود مصر إلى مكانها العثماني. يعمل العثمانيون على إحكام سيطرتهم عليها بعدما أضعف الفرنسيون بقايا المماليك. أمام هذا النهم العثماني، يظهر ضابط شاب هو محمد علي ينسج وشائج مع النخبة المصرية من العلماء والأعيان. بعد أربع سنوات، ينجح الضابط الصغير في أن يصبح واليًا من خلال الإرادة الشعبية، بالتحديد في 17 مايو/آيار 1805. بعد أسابيع قليلة، يصدر فرمان عثماني بمنحه ولاية مصر.

يتمتع محمد علي بشرعية كبيرة لكنه يقرر أن ينفرد بالسلطة. النخبة المصرية كانت أول ضحاياه إذ وجّه إليها ضربات موجعة سواء بنفي الشخصيات البارزة فيها مثل السيد عمر مكرم، أو استمالة العلماء، أو إضعاف الأسس التي يقوم عليها استقلال العلماء في الجانب الاقتصادي المتمثل في الأوقاف، وإضعاف طبقة الأعيان من خلال ضرب ركائزهم الاقتصادية التي تعتمد على التجارة.


بناء النخبة الجديدة

كان محمد علي يدرك أنه ليس نتاجًا للنخب المملوكية التي حكمت على مصر على مدار أكثر من خمسة قرون، وليس نتاجًا للنخب المحلية، ويرفض أن يكون دوره وسيطًا بين النخبتين السابقتين، ورأى أن تأسيسه سلطته الجديدة يجب أن يشكل انقطاعًا مع تلك النخب بما يتيح صعود نخبة جديدة لا يربطها ولاء إلا لشخصه، نخبة ليس لها أي جذور إلا بالقدر الذي يمنحه لها .

كان محمد علي يدرك أنه لن يستطيع أن يحكم وحده البلاد، وأنه لا بد أن يستعين بأقربائه والمتصلين معه بالنسب والمصاهرة، فشغل ثلاثة من أزواج بنات الباشا المناصب العليا المدنية والعسكرية، وهم: محمد دفتر دار خزندار المالية، ومحرم بك حاكم الإسكندرية، ويوسف كميل رئيس ديوان الوالي، كذلك شغل أبناء وأحفاد شقيقات الباشا المناصب الإدارية العليا، كما أن حوالي مائة وظيفة عليا خُصصت للحاشية والمقربين، بل إن الزواج من موظفات قصر الباشا كان يكفل الدخول في تلك النخبة، فمثلًا «خير الدين» قائد شرطة القاهرة تزوج أربعًا من النساء الموظفات في القصر.

وقد تحولت تلك الشخصيات الهامشية لتكون هي النخبة الجديدة في مصر، وكان رصيدها الأساسي هو مصاهرتها للوالي، أو درجة قربها من خدمته، وأخذت تغيب وجوه الأعيان المصريين والمماليك عن المشهد النخبوي، وهو ما فرض على بعض الأعيان والتجار تجديد الأسس التي يستندون إليها للدخول إلى عالم النخبة الجديد من خلال مصاهرة النخبة الجديدة أو الدخول في شراكات مصلحية معها.

ويبدو أن كبار موظفي محمد علي جرى اختيارهم وفقًا لمعايير عرقية وطائفية، لذا اقترح بعض المؤرخين مفهوم «الشتات» لفهم كيفية صناعة النخبة الجديدة، فالشتات تربطه الغاية .

في عصر محمد علي، اهتزت طبقة الأعيان حتى بدا أن تلك الطبقة، التي كانت ممسكة بالحكم والثروة والتأثير في السابق قد اختفت تمامًا، فمحمد علي وجه ضربة عنيفة للطبقة العسكرية من أمراء المماليك، كما صادر ممتلكاتهم الضخمة، فكانت ضربة سياسة واقتصادية في آنٍ، ومن ناحية أخرى أنشأ طبقة عسكرية من الجند وفق تراتبية يجلس ابنه إبراهيم فوقها، وهؤلاء مرتبطون بالولاء له هو فقط.


الاقتصاد والنخبة

لعب العامل الاقتصادي دورًا مؤثرًا في القضاء على النخبة القديمة وبناء نخبة جديدة، ففرض محمد علي لنظام الاحتكار أضعف طوائف التجار، وصب المكاسب الاقتصادية في خزينة الباشا باعتباره التاجر الأوحد في البلاد.

تنوّعت رؤى المؤرخين في الحديث عن مدى حضور طبقة التجار المحليين بعد فرض نظام الاحتكار، لكن الواضح أن دورهم هُمّش بعدما حوّل الاحتكار كثيرين منهم إلى ما يشبه الموظفين أو الإداريين الخاضعين لإشراف الدولة الدقيق. وقد أعاق الاحتكار تراكم الثروات، وجعل الثروات عرضة دائمة للمصادرات من قبل السلطة، وهو ما انعكس تأثيره على الوضع الطبقي، فأصبح كبار الموظفين هم الأعلى عكبًا في المجتمع.

غيّر محمد علي أسلوب إدارة الدولة، فبعد أن كان نظام الالتزام حاكمًا لكثير من وظائف الدولة مثل جمع الضرائب، وفيه يتعهد شخص بدفع مبالغ للدولة ثم يقوم هو بتجميعها مما سمح للملتزمين بتكوين ثروات ضخمة، إذ كانت إدارة الدولة أشبه بالشركات الخاصة، ألغى محمد علي هذا النظام، وجعل الدولة هي التي تقوم بتلك المهام من خلال موظفين يتقاضون رواتبهم منها.

هذا التحول جعل الموارد المالية التى كان يحصل عليها الملتزمون تصب في خزائن محمد علي، وانعكس ذلك في نتيجتين، الأولى أنه حرم النخب القديمة من مواردها المالية الضخمة ومكانتها الاجتماعية، فأخذت تضمحل وتتلاشى. ثانيًا، إن بناء نظام إداري بيروقرطي ينتظر رواتبه من الباشا حوّل الوظيفة إلى سلم للحصول على الثروة، ولا يتحصل الشخص على الوظيفة إلا إذا أثبت ولاءه للحاكم الجديد، وهكذا أصبح محمد علي متحكمًا في الدولة بأقل كلفة وجهد، وأصبح كبار الأصهار الذين جندهم في نظامه الجديد هم قادة المؤسسات الجديدة خاصة في الجانب المالي والضرائب والعقارات، وتحولت الوظيفة العامة إلى وسيلة للحراك الاجتماعي.

حطّم محمد علي ثروة العلماء، بل وأثار التنافس فيما بينهم، فكبير الأعيان عمر مكرم الذي ساند محمد علي عام 1805 وعبّأ ما يقرب من أربعين ألفًا من المصريين لمساندته، كان من أوائل من تلقى الخسف، وفي 1809 تم وضع نهاية له بعد إبعاده عن القاهرة إلى دمياط. وحتى يضمن صمت العلماء، قام بتوزيع مناصب عمر مكرم عليهم، وكان بعضها يدر أموالًا جيدة. كذلك جرى تغيير في تعيين شيخ الأزهر فصار إلى الأحناف بعدما كان شافعيًا يختاره العلماء، وخضعت أوقاف الحرمين لرقابة صارمة عام 1813، وأصبح الموظفون القائمون على الأوقاف لا تأتي مرتباتهم من الأوقاف ولكن من خزانة محمد علي، وأحدث ذلك تغيرًا في الولاءات.

كذلك قام محمد على بتفكيك النخبة العسكرية القديمة التي كانت تتكون من أمراء المماليك والجند العثماني، واستبدلهم بوحدات جديدة لا ترتبط إلا به، ويقودهم أحد رجال الباشا. حتى المماليك الذين عملوا معه، أضعف قوتهم الاقتصادية ورفض منحهم أي ممتلكات أو إقطاعات، وبقوا ينتظرون رواتبهم من الدولة، فتآكلت الطبقة المملوكية سريعًا.

أضف إلى ذلك عمليات المصادرة المستمرة لثرواتهم التي كانت تذهب إلى محمد علي حتى وإن كانت منهوبة، وهو ما راكم ثروة الباشا، كما تغيرت طرق الوصول إلى الجندية التي لم تعد من خلال الشراء أو الولاء لأمير معين، ولكن أصبحت سلطة محمد علي تشرف ابتداء على اختيار الجند وفق معايير محددة ووفق تراتبية محددة وأسس لا تخلق الانتماء إلا إلى سلطة الباشا فقط.

ونلاحظ هنا أن محمد علي أخضع الضرائب والجيش والتوظيف والتعليم لسلطته بعيدًا عن السلطان العثماني، وجرى تحويل العاملين فيها إلى موظفي دولة بعد أن كانوا يتقاضون أموال الإدارة مما يحصلونه مباشرة بعد دفع الحصة المقررة على تلك الأنشطة، وهو ما يعني أن الثروة أصبحت الوظيفة أحد أبوابها، وليس الفارق بين ما يحصّله الشخص وما يدفعه لعاصمة الخلافة، ومع ذلك كان محمد علي لا يكف عن مصادرة ثروات هؤلاء الموظفين.

وقد زادات إيرادات الدولة المصرية في السنوات الأولى لحكم محمد على سبع عشرة مرة عما كانت قبل ذلك. وفي ظل نظام الاحتكار، كانت ثروة الباشا تتراكم، وأخذت العلاقة بين السلطة والمال يُعاد تأسيسها لصالح السلطة، فصعدت طبقة الموظفين القريبين من السلطة على حساب طبقة التجار وبقية الطبقات بعدما أصبح الباشا هو الحائز لكل الالتزمات باسم الدولة، وتحول التجار إلى وكلاء من الباطن.

ويلاحظ الكتاب أن التجار والأعيان سعوا إلى أن يكونوا وسطاء بين الدولة ومنتجي المواد الأولية، أو بين الدولة والمستهلكين، وهو ما حسن قدراتهم الاقتصادية، دون أن يسمح بنشوء مراكز قوى اقتصادية منافسة، غير أن محمد علي كان يكره ثراء التجار فكانت تُفرض قوانين تعرضهم لخسائر، خاصة المتعاملين معه.