على مدار سنوات طوال جنبًا إلى جنب مع كل من قاوموا بالأموال والاتفاقات والمناورات السياسية والسفر والترحال الاحتلال البريطاني لمصر، كان محمد فريد حاضرًا طوال الوقت، في داخل مصر وخارجها، في سبيل أن تحصل الأراضي المصرية على الجلاء من الاحتلال البريطاني، لكنه وعلى الرغم من ذلك كله، لم يكن يدري كيف ستكون النهاية غريبة، وكم ستكون الصورة خفية على البعض.

من هو محمد فريد؟

قدم لنا كتاب «محمد فريد ذكريات ومذكرات» الكثير والكثير من التفاصيل الهامة من حياة الزعيم الراحل محمد فريد، بدأت منذ ميلاده ونشأته وتعلمه في المدارس الحكومية المصرية، تدرجًا بانضمامه لجنبات العمل العام ودخوله حقل العمل السياسي والحزبي.

ولد محمد فريد عام 1866 لأبوين مصريين من أصول تركية، وتدرج في مراحل التعليم حتى التحق بمدرسة الحقوق، ثم عمل محاميًا بجانب دوره كمؤرخ حيث صدرت له مجموعة من المؤلفات غلب عليها الجانب التاريخي الذي اختاره فريد في مشواره ليكون رفيقه مع المحاماة.

كان فريد ينتمي لأسرة ثرية، حصل منها على ثروة ليست بالقليلة، كان قرار فريد بمجرد أن انضم للحراك السياسي للتحرر الوطني، ألا يتأخر في إنفاق هذه الثروة على حراك الوفود المصرية في المؤتمرات الدولية للمطالبة بحق مصر في الاستقلال، وقد كان لتلك المساهمات الثرية أثر كبير في استقرار الحراك بشكل عام، ونجاحه في التغلب على مصاعب الأزمات المالية والتضييق السياسي الذي واجهته الوفود المصرية.

نجح فريد في أن يُحدث طفرات هامة في الحراك السياسي والمجتمعي في مصر، خلال فترة مشاركته في العمل العام، حيث كان فريد أول من أنشأ نقابة للعمال في مصر عام 1909، وكما جاء في كتاب «مذكرات محمد فريد- المجلد الأول رؤوف عباس» الصادر عام 1975 أسس فريد أول نقابة للعمال في ذلك العام، وأنشأ معها أول اتحاد تجاري، ودعا لوضع مجموعة من القواعد القانونية لحقوق العمال، وقد كانت «نقابة عمال الصنائع اليدوية» هي النواة التي بدأ منها التاريخ النقابي في مصر وكان مقرها بولاق، وبلغ عدد أعضائها 800 عضو، لتكون تلك باكورة العمل النقابي المطالب بحقوق العمال في تاريخ مصر الحديث، وفي السياق نفسه كان فريد مهتمًا بالجانب المجتمعي من الأزمة المصرية إبان الاحتلال الإنجليزي، وهي أزمة التعليم، فعمل على إنشاء مدارس تعليم ليلية في مختلف الأقاليم المصرية وكذلك الأحياء الشعبية، وذلك لنشر العلم بين الفئات الأكثر فقرًا آنذاك بالمجان، وعلى نفقته الخاصة.

سافرت من باريس إلى لندن، وأقمت بها بضعة أيام وزرت المستر بلانت وقابلني روبرتسون من أعضاء مجلس النواب، والسيد بريلسفورد مدير جريدة الدايلي نيوز وتناولنا الغداء معًا فحدثوني عن السكوت على الاحتلال والتوقف عن المطالبة بالجلاء، في مقابل الإصلاح الداخلي والدستور، فرفضت بشدة لتأكدي من أن تلك كانت مجرد خدعة للإيقاع بالحزب وتحويله إلى أداة في يد الإنجليز كحزب الحكومة أو حزب الأمة.
محمد فريد، ذكريات ومذكرات

أما على الجانب السياسي، فبجانب كونه الرجل الثاني في الحزب الوطني بعد الزعيم مصطفى كامل، إلا أنه لم يكتفِ بالحراك السياسي النظري، وإنما كانت له مشاركة هامة في تسيير المظاهرات المطالبة بالجلاء الإنجليزي عن مصر، لكنها كانت عن بُعد فتعرض محمد فريد للسجن بسبب ديوان الشعر وخروجه من مصر لم يمنعه من كتابة المقالات المطالبة بجلاء الإنجليز عن مصر، بجانب المؤتمرات التي عقدها في لندن وباريس، ومجادلاته المستمرة مع القيادات الحزبية والسياسية في أوروبا.

كما جزم الكثير من المحللين أن فريد لو كان في مصر بعد خروجه من السجن، لكانت الثورة قد انطلقت عام 1913 على أقصى تقدير، ولو أنها قامت قبل 1919 لكان محمد فريد هو قائدها الأول، لكن خروجه الاضطراري إلى أوروبا كان العائق في مسار تحركاته في العمل العام في مصر، رغم أن خروجه من مصر كان سببًا أساسيًا في نشوب الخلاف داخل قيادة الحزب الوطني وتحلل بعض القيادات الحزبية من مسئوليتها الوطنية.

كما أنه من أوائل من عملوا على وضع صيغة موحدة للدستور المصري، تخدم المصريين في المقام الأول وتنزع قدرة الامتيازات الأجنبية المسيطرة على الأوضاع في مصر، وجمع عليها آلاف التوقيعات، والتي وصلت إلى أكثر من 45 ألف توقيع، لترُسل بشكل رسمي إلى الخديوي، وقد كان الخديوي عباس حلمي الثاني هو من تسلم الصيغة وقتها.

بُعد فكري وعقائدي

كان البُعد القومي بالنسبة لمحمد فريد، متمثلاً في الانتماء لمصر، مرتبطًا بشكل كبير ببعد عقائدي لدى محمد فريد، باعتباره قائدًا سياسيًا ومحاميًا ومؤرخًا متشعبًا في أزقة التاريخ، فكان البعد العقائدي لدى محمد فريد قائمًا بشكل كبير على خلق حالة من الهوية الإسلامية لدى المنتمين لحراك التحرر من الاستعمار الإنجليزي، وقد ظهر ذلك في عدة ملامح، مثل محاولته العمل على إنشاء الجامعة الإسلامية، وذُكر في كتاب ذكريات ومذكرات كيف كان يشارك في المؤتمرات التي تنظمها الحركة الإسلامية في أوروبا، كما ظهر في كتابه «تاريخ الدولة العثمانية العلية» والذي اتخذ منه فريد مدخلاً هامًا لتقديم نموذج الحكم الإسلامي كنموذج بديل للحكم.

وعلى الرغم من أن البعض يرجع ذلك إلى الأصول التركية لعائلة محمد فريد، وتأثيرها الواضح في انتمائه، خاصة وأن تبعات سقوط الخلافة العثمانية كانت ما تزال وقتها في ذروة تأثيرها على كافة الدول التي كانت تحت عباءة الدولة العثمانية، إلا أن الزعيم مصطفى كامل والذي كان الرجل الأول في الحزب الوطني وصاحب الحراك الأكبر والأكثر تأثيرًا وقتها، كان يشاطر فريد التوجه الفكري نفسه، والرغبات ذاتها تقريبًا، وهو ما خلق حالة من التوافق بين قادة حراك التحرر من الاستعمار، مما رفع من حالة الوعي لدى الجماهير المصرية، وزاد من رغبتها في نيل الاستقلال عن الحكم الإنجليزي.

في الوقت نفسه كان الحزب الوطني بزعامة مصطفى كامل، بصفته الرجل الأول في الحزب، صاحب توجه خاص يختلف قليلاً عن حزب الوفد في الجانب الفكري، ويتفق معه في الهدف والمعتقد القومي، فالانتماء الفكري لمصطفى كامل ومن بعده محمد فريد اكتسب بعدًا مزدوجًا يجمع ما بين القومية المصرية والمرجعية الإسلامية التي وجد الزعيمان فيها بعدًا هامًا ومحوريًا في مسار المواجهة المصرية مع الاحتلال الإنجليزي.

منفى وموت في الغربة

مضى علي 6 أشهر في غيابات السجن، ولم أشعر بالضيق إلا بعد اقتراب خروجي، لعلمي أني خارج إلى سجن آخر، وهو سجن الأمة المصرية، الذي تحده سلطة الفرد ويحرسه الاحتلال، فأصبح مهددًا بقانون المطبوعات ومحكمة الجنايات، محرومًا من الضمانات التي منحها القانون للقتلة وقطاع الطرق.
محمد فريد في رسالة لابنته من السجن

تعرض محمد فريد للسجن بموجب قانون المطبوعات، حيث كتب مقدمة لديوان شعر بعنوان «أثر الشعر في تربية الأمم»، وقد كان وقت صدور الحكم في فرنسا، يساند الوفد المصري هناك، ويمول حركة الوفد المصري، فنصحه أعضاء الوفد بعدم العودة إلى مصر، خشية أن يسجنه الإنجليز، لكنه أصر على العودة، ودخل السجن لمدة 6 أشهر، خرج بعدها ولم يمر الكثير من الوقت، حتى تصاعدت الأمور من جديد بين مصر والحكومة البريطانية، فكان قرار سجن محمد فريد مجددًا قيد الإعداد، قبل أن يغادر سرًا إلى أوروبا، وتحديدًا ألمانيا.

وكما جاء في مذكرات محمد فريد المجلد الأول، كانت تلك الفترة من أشد الفترات صعوبة على فريد، فقد أصابه مرض في الكبد، وبدأت حالته تسوء، وذلك في وقت كان فيه في أشد حالات الفقر، بعدما أنفق الشطر الأكبر من ثروته على حراك التحرر من الاستعمار، وقد حاول حينها طبيبه المعالج استصدار موافقة من الحكومة البريطانية بالسماح بعودته إلى مصر مجددًا، لكنه لم يكن يشعر بالأمان حيال وجوده مجددًا تحت قبضة الاحتلال الإنجليزي، فرفض العودة وفي الوقت نفسه لم يجد مالاً يكفيه ليحصل على حياة جيدة في ألمانيا، فاشتدت عليه الأزمة بعدما كان أكثر من ينفق على حراك الوفود المصرية، حتى توفي في 16 نوفمبر/تشرين الثاني عام 1919، وهو العام نفسه الذي انطلق فيه حراك ثوري جديد، بأسماء جديدة لتحصيل حق مصر في الاستقلال.

الملفت للنظر في النهاية المأساوية لمحمد فريد في أوروبا هي الفقر الشديد، الذي لم يمكنه هو أو أي من أفراد أسرته من استقدام جثمانه بعد موته إلى مصر لدفنه بها، وحُفظ جثمانه في كنيسة في ألمانيا، حتى كان من نصيبه أن قرر أحد التجار المصريين الموجودين في ألمانيا، وهو الأستاذ خليل عفيفي القادم من محافظة الزقازيق أن يصطحب الجثمان على نفقته الخاصة، بعدما حصل على موافقة الحكومة المصرية وقتها.

وصل الجثمان بالفعل إلى الإسكندرية في يوليو 1920 بعد أشهر من وفاته، وقد كانت جنازته في الإسكندرية حاشدة، حضرها كبار الشخصيات والرموز المصرية، تقديرًا لرحيل واحد من أهم قادة التحرر الوطني في تاريخ مصر، والذي يصادف بشكل غريب ألا يكون مشهورًا في العصر الحديث بشكل كافٍ، كما هو الحال مع الكثير من رموز حركة التحرر الوطني، وها نحن الآن وفي بداية ذلك العام، نشهد تقريبًا مرور 100 عام على رحيل محمد فريد ووصول جثمانه إلى مصر، ليكون ملاذه في مقابر عائلته بالسيدة نفيسة.