هذه مقالة نادرة طريفة نشرها علامة الشام الأستاذ محمد كرد علي في العدد الثاني من مجلة المقتبس بتاريخ ٢٦/ ٣/ ١٩٠٦م، وقد اختصرها من كتاب أجنبي اطلع عليه فأعجبه أحد فصوله عن أحوال الأوروبيين في عشق الكتب الذي وصل لدى بعضهم إلى حد الجنون. ومن المهم أن ننوه بأن في العرب عشاق للكتب أيضًا يفوقون كل من ذكرهم الأستاذ محمد كرد علي، وقد جمع أخبارهم الأستاذ عبد الرحمن يوسف الفرحان في كتابه «عشاق الكتب».


الجنون بالكتب

الغالب أن عشّاق الكتب كعشاق الجمال أو هم أضل سبيلا، فتراهم هائمين خاملين لا يعون على شيء في الأرض ولا يحفلون بعظائم الأمور فضلا عن صغارها، يجعلون الكتب رٙوْحهم وراحهم وريحانهم، بل فروضهم ونوافلهم وأحاديثهم وأشغالهم. وكل شيء إذا جاوز الحد انقلب إلى الضد، وكذلك الحال بعاشق الأسفار فربما جوَّز لنفسه السرقة ولكن سرقة الكتب، بل ربما أفتى بحِلِّ ذلك لمن يستفتيه.

ولقد قرأتُ فصلا لأحد كتاب الفرنجة فآثرت تلخيصه كما يلي: أقرّٙ أحد عشاق الكتب يومًا في إنكلترا عن نفسه واسمه ديبدن (١٧٧٦_١٨٤٧) أنه همّ يوما أن يسرق، وحمد الله على أن خلا بنفسه في خزانة كتب ستراسبورغ ولم تحدثه نفسه بسرقة كتاب منها. وكان خطر على بال رجلين في إنكلترا أن يطبعا لأنفسهما خاصة كتابًا يكون آية في طبعه ووضعه وصوره وورقه وتجليده ولم يطبعا منه غير نسختين، حتى حدَّثت أحدهما نفسه بأن يذهب إلى دار صاحبه ويستأثر دونه بالنسخة فيسرق بعض صورها حتى تكون نسخته هي التي يرجع إليها فراح في غياب صاحبه إلى زوجه وطلب إليها أن تريه النسخة لغرض بدا له فدفعتها إليه وجعل يقلِّبها مهتمًا بأمرها ثم استغفلها فمزق بعض صور الكتاب وجعلها في جيبه وانصرف فلما عاد صاحبُه ارتاب في مجيء صاحبه، وقلّٙب أوراق الكتاب فرأى ما فعله، فرفع عليه قضية حكمت له فيها جمعية الكتب بألفٙيْ جنيه تعويضًا. وقد راودت أحد هؤلاء الغلاة يومًا نفسه أن يحرق مكتبته بعد أن زار مكتبة الدوك دومال ابن لويز فيليب أحد ملوك فرنسا المتوفى سنة ١٨٩٧م؛ إذ مزّٙق الحسد والطمع والغيرة أحشاءٙ ذاك الرجل. بيد أن العريق في محبة الكتب الحقيقي هو محب الآداب أيضًا وعضد المعارف فيغتبط إذا ظفِر غيرُه بكتبٍ لم يسعدْه الحظُّ بمثلها، ويأمل أن يكون من ورائها مغنم كبير للمطالعين والدارسين.


أمثلة لا تصدق في عشق الكُتب!

ومن غرائب هؤلاء العشاق غليوم بودي (١٤٦٧ – ١٥٤٠) قال إنه اغتنم الفرصة يوم عُرسه فمرّٙ بكتبه قبل أن يبني بعروسه، ومع هذا رزق بنين وبناتا. وهو الذي يُروى عنه أن خادمه جاءه يومًا وهو يلهث فقال: إن لسان اللهيب أخذ يندلع على البيت، وكان أمام كتبه بالطبع، فأجابه: قل لزوجي! وهلا تعرف أنني لا أتداخل في أمور المنزل!

وكذلك كان أمر فردريك مورل لجون من علماء فرنسا المشتغلين، وكان يبحث في أخبار ليبانيوس السفسطائي اليوناني، فجاءه رسول يقول له إن زوجته تريد أن تكلمه بضع كلمات وكان يحبها حبًّا جمًّا، فقال له: دعني الآن أنظر هاتين الكلمتين لكن المهلة التي طلبها طالت، فبعثت إليه برسول آخر قال له: إن زوجتك كادت تفارق الحياة، فحوقل وامتدح منها وردّٙد بعض مآثرها وسيرتها الصالحة وعاد يغوص في بحر كتبه.

ومات القس كوجي (١٦٩٧ – ١٧٦٧) حزنًا لأنه أُكرِه على بيع كتبه. ويروى مثل ذلك عن سكاليجر العالم الطُّلياني المتوفى سنة ١٥٥٨ وباترو الفقيه الفرنسي المتوفى سنة ١٦٨١. فقد قال الأولُ: إن رُمتٙ أن تُصابٙ بأعظم خطوب الأرض فبِعْ كتبٙك تلقٙ الشقاء. ومن رام أن يجمع على رأسه ضروب البلايا صفقة واحدة فما عليه إلا أن يبيع كتبه.

ورأى يعقوب غوبيل (١٥٦٤)، من مشاهير فرنسا، مكتبتٙه نهب أيدي الضياع والسلب في فتنة عصابات الكاثوليك، فمات يائسًا بائسًا. وحزن العالم الكتبي كولنه دورافل الفرنسي حزنًا ولا حزن يعقوب على يوسف لمّٙا رأى كتب الأبرشيّٙة تطفو على نهر السين، وكان يُقدِّر قيمتها حق قدرها لأنه رتبها وبوبها.

واضطرّٙت الحاجةُ اللغويَّ برونك من ستراسبورغ (١٧٢٩ – ١٨٠٣) أن يبيع جانبًا من مكتبته واشتدّٙ حزنُه عليها حتى كان إذا ذُكر أمامه مؤلّٙف اقتناه وباعه في جملة ما باعه تنحدر عبراته على خٙدّٙيْه طوعًا كرهًا. واضطُرّٙ الأمير كاميراتا في القرن التاسع عشر أن يبيع أسفاره في المزاد العلني ولم تكد توزع على مُبتاعيها حتى انتحر بيده، وقال: بيدي لا بيد عمرو. ويقرب من ذلك ما فعله الكونت لابيدويير؛ فإنه توهّٙم أن كتبه أتعبته فباعها، فما هو إلا يوم وليلة حتى عاد يشتريها ثانية بكل مرتخص وغالٍ فأشبه في حاله ولدًا مبذرًا غادر بيت أبيه.

وحدث أن أحد الأمريكيين، المستر بريان، وهبَ إحدى المكاتب مجاميع نفيسة من روايات نادرة فلم تمضِ أيامٌ حتى عاد إلى قيِّم المكتبة يطلب إليه أن يرى كتبه، فأخذ يحدِّق فيها ويصوِّب في جلودها ويُصعِّد، فظن القيِّم أن صاحبه ينوي أن يسترجع ما وهب، ولكن راح المسكين فانتحر بعد يومين وعزَّ عليه أن يفعل فعلته قبل أن يودِّعٙ محبوباتِه قديمًا ويرعى لهن ذمامهن. ومات المركيز شالابر في القرن التاسع عشر قانطًا مخفقًا لكونه لم يتمكن من ابتياع نسخة من التوراة ثمينة.

وقضى بيترارك (١٣٠٤_١٣٧٤) في مجلسه ولما استبطأه أصحابه أطلوا عليه فوجدوه ميتًا والكتاب في حجره. وكذلك مات الصحافي أرمندبرتين (١٨٠١_١٨٥٤) مدير جريدة الديبا، وكان له مجاميع من أجمل القُنْيات والكنوز، ذكروا أنه مات بين كتبه عقيب وفاة حليلته فوجدوه ماسكًا بكتاب كانت هي تحبُّه في حياتها فجاء الموت وهو على هذه الحال.

ومات المؤلف يعقوب برونه (١٧٨٠_١٨٦٧) وهو على كرسيِّه وبين كتبه بعد أن عُمِّر طويلاً ولا شغل له غير الدرس والتبحُّر. وقضى الجمّٙاعةُ موبللي منذ نحو نصف قرن وكانت مكتبته تساوي مائة ألف فرنك ولم يوجد عنده من الدراهم ما يكفي نفقات دفنه. ومن عشاق الكتب من سقطوا عن سلالم مكاتبهم فقضٙوْا نحبٙهم ومنهم اييرت (١٧٩١_١٨٣٤) من غلاة عشاق الكتب في درسد، والمركيز مورانت (١٨٠٨_١٨٦٨) الإسباني، وروفر وغيرهم. والمؤرخ الكاتب تيودور مومسان الألماني (١٨١٧_١٩٠٣) ذهب إلى خزانة كتبه ذات يوم والشمعة بيده فسرى لهيبها إلى لحيته البيضاء وقضى بعد شهر متأثرًا.


الكتب ترفع أقومًا

وأعجوبة المولعين بالأسفار أنطون ماكليابيشي (١٦٣٣_١٧١٤) من مدينة فلورنسا، فقد خدم لأول أمره في دكان فاكِهانيّٙة وأخذ ينظر في الأوراق التي تُصٙرُّ بها الفاكهة، فوقع في نفسه أن يتعلم القراءة فاتصل بكُتْبِي ولم يعدم من يدرسه ويعلمه، وكان ذا ذاكرةٍ قويةٍ ما حفظ شيئًا ونسيه، وحفظ من أسماء الكتب ومظانِّها حتى أصبح عبارةً عن مكتبة سيّٙارة ثم اتصل بالغراندوق كوسم الثالث وجعله قيِّمًا على كتبه. ولم تكن هذه الكتب لتٙشفي مطامعه بل أخذ يطالع فهارس المكاتب الأوروبية مطبوعٙها ومخطوطٙها ويسأل كبار العلماء السُّيّٙاح عن نوادرها حتى صار يعرف كل دقيق وجليل من أحوال الكتب. وكانت له طريقة غريبة في المطالعة فإذا أخذ كتابًا لم يكن طالعه من قبل ينظر في اسمه وفهرسته ومقدِّمته وتٙقْدِمٙته، ويتصفح أوائل فصوله، وبعد دقائق يقول لك رأيه في موضوع الكتاب والمصادر التي أخذ منها مؤلفه ولا ينسى ذلك على الدهر.

ولم تكن له عناية بهندامه ونظام معيشته بل كان في ليلٙه ونهارٙه مستغرقًا في أسفاره لا يخرج إلا إلى مكتبته. وكان أعلى بيتِه وأسفلُه ومدخلُه وحُجٙرُه ونوافذُه كلُّها مٙلأى بالكتب. وهو غريب في خموله حتى كان يأكل في الغالب بيضًا وخبزًا وماء – والخبز والماء أكل العلماء كما قيل – ولطالما سرق خدامه وخدام جيرانه دراهم له من خزانة بقربه كان يضع فيها البيض والدراهم معًا، وقد أراده البابا والملك أن يتمثل بين أيديهما فتجاهل ما أمرا به، وعاش على كسله إحدى وثمانين سنة، وأوصى بمكتبته لبلده وكانت تبلغ ثلاثين ألف مجلد وجعل لها مورِدًا تعيش به وما زالت معروفة به إلى الآن!