محتوى مترجم
المصدر
بي بي سي
التاريخ
2016/03/21
الكاتب
فيليب بول

في الجزء السابق من المقال تحدثنا عن عدة نظريات وأطروحات تحاول تقديم حل لفرضية وجود أكوان متعددة، والآن سنتحدث عن الفرضية بين النظرية النسبية والكم.


الكون المتعدد الغشائي

عندما بدأت نظرية ألبرت آينشتاين في النسبية العامة تحظى باهتمام الرأي العام في العشرينيات، تكهن كثيرون حول «البعد الرابع» الذي يُزعم أن آينشتاين قد احتج عليه. ماذا قد يكون هناك؟، ربما كون خفي؟.

كان هذا هراءً، لم يكن آينشتاين يقترح بعدًا جديدًا. ما كان يقوله هو أن الزمن عبارة عن بعد، مشابه للأبعاد الثلاثة للفضاء. الأبعاد الأربعة كلها منسوجة ضمن نسيج واحد يسمى الزمكان، الذي تشوهه المادة لإنتاج الجاذبية. وحتى مع ذلك، كان الفيزيائيون قد بدأوا بالفعل التكهن حول أبعاد جديدة حقيقية في الفضاء. بدأ الإيحاء الأول عن الأبعاد الخفية مع عمل الفيزيائي النظري تيودور كالوزا. أظهر كالوزا في ورقة بحثية في عام 1921 أنه عن طريق إضافة بعد جديد لمعادلات نظرية آينشتاين في النسبية العامة، يمكننا الحصول على معادلة إضافية على ما يبدو أنها تتنبأ بوجود الضوء.

بدا ذلك واعدًا. ولكن أين هذا البعد الإضافي إذن؟

نظرية الأوتار تحتمل أن تكون نظرية لكل شيء (Credit: Harald Ritsch/Science Photo Library)
نظرية الأوتار تحتمل أن تكون نظرية لكل شيء (Credit: Harald Ritsch/Science Photo Library)

قام عالم الفيزياء السويدي أوسكار كلاين بتقديم جواب في عام 1926. ربما كان البعد الخامس معقوفًا في مسافة صغيرة لا يمكن تصورها: نحو مليار تريليون تريليون سنتيمتر.

في النسخة الحديثة من نظرية الأوتار، والمعروفة باسم نظرية-إم، هناك ما يصل إلى سبعة أبعاد خفية.

فكرة أن يكون البعد معقوفًا قد تبدو غريبة، ولكنها في الواقع ظاهرة مألوفة. خرطوم المياه هو جسم ثلاثي الأبعاد، ولكن عن بعد كافٍ فإنه يبدو وكأنه خط أحادي البعد، لأن اثنين من الأبعاد الأخرى صغيرة جدًا. وبالمثل، فإن الأمر يتطلب وقتًا قليلًا جدًا لعبور بُعد كلاين الإضافي لدرجة أننا لا نلاحظ ذلك. أخذ علماء الفيزياء أفكار كالوزا وكلاين بشكل أعمق نحو نظرية الأوتار. تسعى هذه النظرية لشرح الجسيمات الأساسية على أنها اهتزازات من كيانات أصغر تسمى الأوتار.

عندما وضعت نظرية الأوتار في الثمانينات، اتضح أنها لا يمكن أن تعمل إلا إذا كانت هناك أبعاد إضافية. وفي النسخة الحديثة من نظرية الأوتار، المعروفة باسم نظرية-إم، هناك ما يصل إلى سبعة أبعاد خفية.

الكون المتعدد الغشائي: كومة من اﻷكوان (Credit: Victor de Schwanberg/Science Photo Library)
علاوة على ذلك، هذه الأبعاد لا يلزم أن تكون مكدسة، بل يمكن أن تكون مناطق ممتدة تسمى بالأغشية، والتي قد تكون متعددة الأبعاد.

قد يكون الغشاء مكانًا مناسبًا للكون بأسره للاختباء تمامًا. وتفترض نظرية-إم أكوان متعددة من الأغشية ذات الأبعاد المختلفة، تتعايش مثل كومة من الأوراق. وإذا كان هذا صحيحًا، يجب أن تكون هناك فئة جديدة من الجسيمات تسمى جزيئات كالوزا-كلاين. من الناحية النظرية يمكننا أن نصنعها، ربما في معجل جسيمات مثل مصادم الهادرون الكبير. سيكون لديهم علامات مميزة، لأن بعضًا من زخمها مُحتوى في الأبعاد الخفية.

ينبغي أن تظل هذه العوالم الغشائية واضحة ومنفصلة عن بعضها البعض، لأن القوى مثل الجاذبية لا تمر بينها. و لكن إذا تصادمت الأغشية، قد تكون النتائج ضخمة. ونتصور أن مثل هذا التصادم ربما يكون مسببًا لانفجارنا الكبير.

ربما وُلِدَ كوننا عندما تصادم غشاءان (Credit: Nicolle R. Fuller/Science Photo Library)
ربما وُلِدَ كوننا عندما تصادم غشاءان (Credit: Nicolle R. Fuller/Science Photo Library)

وقد اقتُرِح أن الجاذبية دونًا عن القوى الأساسية الأخرى، قد «تتسرب» بين الأغشية. هذا التسرب يمكن أن يفسر سبب ضعف الجاذبية بالمقارنة مع القوى الأساسية الأخرى.

إذا كانت فكرتهم صحيحة، فإنه يوجد مساحة هائلة من الفضاء للأكوان الأخرى.

كما قالت ليزا راندال من جامعة هارفارد: «إذا انتشرت الجاذبية عبر أبعاد إضافية كبيرة، سوف تضعف قوتها».

في عام 1999، اقترحت راندال وزميلها رامان ساندرم أن الأغشية لا تحمل مجرد الجاذبية، ولكنها تنتجها أيضًا عن طريق تقويس الفضاء، هذا يعني أن الغشاء «يركز» الجاذبية، بحيث تبدو ضعيفة في غشاء آخر قريب.

هذا قد يفسر أيضًا كيف يمكننا أن نعيش على غشاء بأبعاد إضافية لا نهائية دون أن نلاحظها. إذا كانت فكرتهم صحيحة، فإنه يوجد مساحة هائلة من الفضاء للأكوان الأخرى.

التراكب هو أن يكون جسم متواجد في حالتان في نفس الوقت، مثل قطة ميتة و حيّة في نفس الوقت. (Credit: Victor de Schwanberg/Science Photo Library)
التراكب هو أن يكون جسم متواجد في حالتان في نفس الوقت، مثل قطة ميتة و حيّة في نفس الوقت. (Credit: Victor de Schwanberg/Science Photo Library)

الكون المتعدد الكمومي

تعد نظرية ميكانيكا الكم واحدة من أنجح النظريات في جميع العلوم، وتفسر سلوك الأجسام الصغيرة جدًا، مثل الذرات والجزيئات الأساسية المكونة لها. ويمكنها التنبؤ بأنواع متعددة من الظواهر، كأشكال الجزيئات وطريقة تفاعل الضوء والمادة بدِقة هائلة. وميكانيكا الكم تتعامل مع الجزيئات كما لو كانت موجات، وتصفها بتعبير رياضي بالدالة الموجية.

ولعل أغرب ميزة للدالة الموجية هي أنها تتيح للجسيمات الكمومية أن تتواجد في عدة حالات في آن واحد، وهذا ما يسمى بالتراكب. ولكن التراكبات يتم تدميرها بشكل عام في لحظة قياسنا للشيء بأي شكل من الأشكال. فالملاحظة «تُجبِر» الشيء على «اختيار» حالة واحدة بعينها. ويسمى هذا التحول من التراكب لحالة واحدة، الناجم عن القياس، بـ«انهيار الدالة الموجية». المشكلة هي، أن الأمر غير موصوف في ميكانيكا الكم، لذلك لا أحد يعرف كيف أو لماذا يحدث ذلك.

في أطروحة الدكتوراه للفيزيائي الأمريكي هيو ايفرت في عام 1957، اقترح أن نتوقف عن القلق بشأن الطبيعة الغريبة لانهيار الدالة الموجية، وأن نتخلص منها.

ينقسم الكون إلى اثنين (Credit: Carol and Mike Werner/Science Photo Library)
ينقسم الكون إلى اثنين (Credit: Carol and Mike Werner/Science Photo Library)

اقترح ايفرت أن الأجسام لا تتبدل من حالات متعددة لحالة واحدة عندما يتم قياسها أو ملاحظتها. فبدلًا من ذلك، كل الاحتمالات المشفرة في الدالة الموجية حقيقية على حد سواء. وعندما نقيسها، لا نرى سوى واحدة من تلك الحقائق، ولكن الأخريات موجودات أيضًا، ويُعرف هذا باسم «تفسير العوالم العديدة» لميكانيكا الكم.

لتجنب انهيار الدالة الموجية، يجب أن تصنع كونًا آخر.

لم يكن ايفرت دقيقًا حول مكان تواجد هذه الحالات الأخرى. ولكن في السبعينيات، جادل عالم الفيزياء برايس ديويت بأن كل نتيجة بديلة يجب أن تكون موجودة في واقعٍ موازٍ: عالم آخر. افترض أنك أجريت تجربة تقيس فيها مسار إلكترون. في هذا العالم يذهب الإلكترون في اتجاه واحد، وفي عالم آخر يذهب في طريق آخر.

يتطلب هذا الأمر جهازًا موازيًا يمر به الإلكترون، كما يتطلب وجود موازٍ لك للقياس. في الواقع يجب بناء عالم موازٍ كامل حول هذا الإلكترون الواحد، متطابق في جميع النواحي باستثناء اتجاه ذهاب الإلكترون.

باختصار، لتجنب انهيار الدالة الموجية، يجب أن تصنع كونًا آخر.

كون متعدد من الأكوان الفُقاعية (Credit: Harald Ritsch/Science Photo Library)
كون متعدد من الأكوان الفُقاعية (Credit: Harald Ritsch/Science Photo Library)

تصبح هذه الصورة باهظة عندما نقدر ماهية القياس. ومن وجهة نظر ديويت، فإن أي تفاعل بين كيانين كموميين، مثل فوتون من الضوء يرتد من على ذرة، يمكن أن يفرز نتائج بديلة وبالتالي أكوانًا متوازية.

يجب أن يكون الكون المتعدد الكمومي حقيقيًّا بشكل ما؛ لأن نظرية الكم تتطلب ذلك ونظرية الكم صحيحة.

كما قال دويت، «كل انتقال كمّي يجري على كل نجمة في كل مجرة، في كل زاوية بعيدة من الكون، يقسم عالمنا المحلي على الأرض إلى ربوات من النسخ».

لا يتفق الجميع على تفسير عوالم ايفرت المتعددة بهذه الطريقة، يقول البعض إنه إلى حد كبير من أجل التيسير الرياضي، وأننا لا نستطيع أن نقول أي شيء ذي مغزى عن محتويات هذه الأكوان البديلة. ولكن البعض الآخر يأخذ فكرة أن هناك عددًا لا يحصى «مِنك» على محمل الجد ، التي تنشأ في كل مرة يتم فيها قياس كمومي. يقول البعض إنه يجب أن يكون الكون المتعدد الكمومي حقيقيًّا بشكل ما؛ لأن نظرية الكم تتطلب ذلك ونظرية الكم ناجحة.

يمكنك إما تصديق هذه الحجة أو لا. ولكن إذا تقبلتها، يجب عليك أيضًا أن تتقبل شيئًا مقلقًا إلى حد ما.

يبدو أن كوننا يمتد للأبد (Credit: NASA/ESA/G. Illingworth, D. Magee, P. Oesch, University of California Santa Cruz/R. Bouwens, Leiden University/HUDF09 team)
يبدو أن كوننا يمتد للأبد (Credit: NASA/ESA/G. Illingworth, D. Magee, P. Oesch, University of California Santa Cruz/R. Bouwens, Leiden University/HUDF09 team)

الأنواع الأخرى من الأكوان المتوازية، مثل تلك التي تم إنشاؤها من قبل التضخم الأبدي، هي حقًا «عوالم أخرى». هي موجودة في مكان آخر في المكان والزمان، أو في أبعاد أخرى. قد تحتوي على نسخ طبق الأصل منك، ولكن تلك النسخ منفصلة، مثل شخصية مزدوجة تعيش على قارتين مختلفتين.

في المقابل، فإن الأكوان الأخرى في تفسير العوالم المتعددة غير موجودة في أبعاد أخرى أو مناطق أخرى من الفضاء. بل، هي موجودة هنا، مُرَكَّبَة على كوننا ولكنها غير مرئية ولا يمكن الوصول إليها. الأشخاص الآخرون في هذه الأكوان هم فعلاً «أنت».

في الواقع، ليس هناك معنى لـ«أنت» على الإطلاق. «أنت» تصبح كائنات متميزة في كل ثانية لعدد رهيب من المرّات: قم بمجرد التفكير في كل الأحداث الكمومية التي تحدث عندما تسافر إشارة كهربائية واحدة على طول خلية عصبية واحدة في دماغك. «أنت» تتلاشى في الحشد. بعبارة أخرى، الفكرة التي بدأت كتيسير رياضي انتهت بافتراض أنه لا يوجد شيء يسمى بالفردية.

جزء من مصادم هادرون الكبير (Credit: Stefan A. Gärtner)


اختبار الكون المتعدد

جزء من مصادم هادرون الكبير (Credit: Stefan A. Gärtner)
جزء من مصادم هادرون الكبير (Credit: Stefan A. Gärtner)

نظرًا للآثار الغريبة المترتبة على الأكوان المتوازية، قد تغفر للبعض الشك حول ما إذا كانت موجودة. ولكن من نحن حتى نحكم بما هو غريب و ما هو ليس بغريب؟. الأفكار العلمية تَثبُت أو تُهمل، ليس بواسطة «شعورنا» اتجاهها، ولكن عن طريق الاختبار التجريبي، وهذه هي المشكلة. العالم البديل منفصل عن عالمنا، بحكم التعريف، لا يمكن الوصول إليه أو رؤيته. وعلى العموم، نظريات الكون المتعدد لا يمكن اختبارها من خلال البحث عن تلك العوالم الأخرى. ولكن حتى إذا كنّا غير قادرين على اختبار هذه الأكوان الأخرى مباشرة، فإنه قد يكون ممكنًا أن نعثر على أدلة لدعم المنطق وراءها.

عندما تتصادم الأكوان (Credit: Nicolle R. Fuller/Science Photo Library)
على سبيل المثال، يمكن أن نجد دليلًا قويًا للنظرية التضخمية في الانفجار الكبير، وهذا يعزز، ولكن لا يثبت، نظرية الأكوان متعددة التضخمية.

لقد أُثبت أنه من الصعب جدًا كتابة نظرية تُنتج الكون الذي نراه بالضبط وليس أكثر.

وقد اقترح بعض علماء الفلك أن الكون المتعدد التضخمي يمكن اختباره بشكل أكثر مباشرة. من المفترض أن يترك حادث تصادم بين كوننا الفقاعي المتوسع وكون آخر مماثل آثارًا يمكن اكتشافها في الخلفية الكونية الميكروية – إذا كنا قريبين بما يكفي لرؤيتها.

وبالمثل، فإن التجارب المُتَصوّرة لمصادم هادرون الكبير تستطيع أن تبحث عن أدلة على أبعاد وجزيئات إضافية مُتَضَمّنة في نظرية الكون الغشائي. ويرى البعض أن التحقق التجريبي مبالغ في أهميته على أي حال. حيث يقولون إنه يمكننا قياس صلاحية فكرة علمية بوسائل أخرى، مثل ما إذا كانت قائمة على منطق سليم مبني على أفكار لها دعم مُلاحَظ. وأخيرًا، يمكننا أن نقوم بتنبؤات إحصائية.

على سبيل المثال، يمكن أن نستخدم نظرية الكون المتعدد التضخمي للتنبؤ بأي قيم للثوابت الفيزيائية التي يفترض أن نتوقع وجودها في معظم الأكوان، ومن ثم معرفة ما إذا كانت هذه الثوابت قريبة لتلك التي نراها – على أساس أنه لا يوجد أي سبب لنتوقع أن نكون في أي مكان خاص في الكون المتعدد.

تليسكوب BICEP2 يستطيع أن يجد دليلًا على التضخم (Credit: NSF/Steffen Richter/Harvard University/Science Photo Library)
تليسكوب BICEP2 يستطيع أن يجد دليلًا على التضخم (Credit: NSF/Steffen Richter/Harvard University/Science Photo Library)

على أية حال، فإنه يبدو غريبًا أن الكون المتعدد يظهر أينما نظرنا. «لقد أُثبت أنه من الصعب جدًا كتابة نظرية تُنتج الكون الذي نراه بالضبط وليس أكثر»، مثلما يقول الفيزيائي ماكس تجمارك.

«لا يمكن اختبار نظريات الكون المتعدد من خلال البحث عن تلك العوالم الأخرى».

مع ذلك، فإنه ليس من الواضح ما إذا كانت ستعلن عناوين الصحف عن اكتشاف عالم آخر في أي وقت قريب. في الوقت الحالي، تقع هذه الأفكار على الحدود بين الفيزياء والميتافيزيقا. وفي غياب أي دليل، أُقدم لكم تصنيفًا تقريبيًّا – وصريحًا – للاحتمالات المختلفة لأنواع الأكوان المتعددة، بداية بالأكثر احتمالًا.

الكون المتعدد المُرقع من الصعب تجنبه – إذا كان كوننا لانهائيًّا وموحدًا بالفعل.

الكون المتعدد التضخمي من المرجح أن يكون صحيحًا إذا كانت النظرية التضخمية صحيحة، والتضخم هو أفضل تفسير لدينا للانفجار الكبير الآن.

الانتقاء الطبيعي الكوني هو فكرة بارعة ولكنها مرتبطة بالفيزياء المُضَارِبة، وبها الكثير من الأسئلة غير المُجابة.

العوالم الغشائية أكثر مضاربة؛ لأنها لا يمكنها التواجد إلا إن تواجدت الأبعاد الإضافية، وليس هناك دليل مباشر على ذلك.

الأكوان المتعددة الكمومية من أبسط التفاسير لنظرية الكم، ولكنها أيضًا مُعَرّفة بغموض وتقود إلى وجهة نظر أنانية غير متزنة.