تبدأ قصتنا في العام 1991 في الإمارات العربية المتحدة. في ظهيرةٍ تبدو عادية، كانت السيدة منيرة عبدالله، تجلس بجوار طفلها عمر ذي الأربعة أعوام في المقعد الخلفي للسيارة، بعد أن جلبته من المدرسة لتعود به إلى المنزل.

كل شيء كان يتنفس الروتين المعتاد، لا يحمل الجو أي إشارات على أن هذا اليوم سيغير حياتَها، وحياة أسرتها، للأبد، وأنه بعد ما يقارب ثلاثة عقود، سيجعل منها ومن قصتها، حديث الساعة في وكالات الأنباء حول العالم.

في تلك اللحظات الخاطفة، التي ينهتك فيها غشاء أمان الاعتياد شديد الغبظة، شديد الرقة، وينفتح ثقب أسود بين عالميْ الموت والحياة، يكون العقل البشري الواعي خارج الخدمة، وتنتقل الغريزة بكل تلقائيتها إلى موقع القيادة، في تلك الثواني التي يهوي فيها سيف القدر على الرقاب.

لا تعرف منيرة متى ظهرت تلك الحافلة، ولا متى أحاطت ذراعيْها بعمر، وهي تنادي صارخةً باسمه، قبل أن يسود ظلام حالكٌ ومقيم.


عام 2018، على بعد جيلٍ، وآلاف الكيلومترات من المشهد الأول، وفي أحد المشافي الألمانية، تحدث المعجزة. يقف عُمر شابًا ناضجًا، قد تجاوز عمره 32 عامًا، ليسمع نداءً باسمه لم يشنِّف أذنَه به منذ أكثر من 27 عامًا، كانت أمه قد هوت فيها في وادٍ سحيق من الغيبوبة.

حدثت تلك الواقعة بعد أيامٍ من مشادة كلامية حدثت في الغرفة بين عمر، والطاقم الطبي. أثناء المشادَّة، لاحظ عمر بعض علامات الاضطراب على أمه، ومحاولتها إصدار بعض الأصوات. تكاثفت علامات التحسن التدريجي في الوعي على مدار العام، وبدأت منيرة في التعرُّف على أقرب المحيطين بها، بل وبدأت أحيانًا تشترك في بعض الحوارات معهم.

هكذا استيقظت منيرة عبدالله وهي على مشارف الستين من العمر، بعد أن قضت نصف عمرها حرفيًا، تتعلق بالهدبِ الأخير الذي يربطها بالحياة، على أسرّة المشافي، على مقربة من أجهزة التنفس الصناعي، وحوامل المحاليل الوريدية. ولعلَّ عزاءَها الكبير عما فقدته، أن هذا الطفل لم يكن له أن يصبح شابًا ناضجًا معافًى، لولا حضنها الصادق الدافئ الذي انتزعه من تحت نصل القدر، ليخرج من الحادث بكدمات بسيطة.

قررت العائلة منذ أيامٍ أن تحكي للعالم تلك الواقعة المذهلة، في تصريحاتٍ خاصة أدلى بها ابنها عمر لجريدة إماراتية، ونقلتها عنها وسائل الإعلام العالمية.


العقل البشري بين الواقع والمعجزات

لم أسقط فريسةً لليأسِ أبدًا، لأنني كنت على قناعةٍ تامة أنها ستفيق يومًا ما.. لقد أصررتُ على أن أقص تلك الأحداث أمام الجميع، حتى لا يقنطَ أحد من الأمل في نجاة أحبائه الذين يعانون من مثل تلك الحالة

الإماراتي «عمر وبير» – بتصرف – متحدثًا لجريدة إماراتية عن أمه «منيرة عبد الله» التي أفاقت من الغيبوبة بعد 27 عامًا

كانت إصابة رأس منيرة بفعل الحادث، شديدة الخطورة، سببت ضررًا كبيرًا للقشرة المخية، فآلتْ حالتُها في نهاية المطاف إلى ما يسمى بالحالة النباتية vegetative state، وهي من أشد حالات انخفاض الوعي المزمن. في تلك الحالة، يفقد المريض الاستجابة تمامًا للمؤثرات المحيطة به، والتفاعل معها، ويعجز تمامًا عن النطق، والحركة، والمبادرة، لكنه يظل على قيد الحياة، نتيجة انتظام ضربات القلب وحركات التنفس وضغط الدم، لعدم تضرر مراكزها الموجودة في جذع المخ.

عندما يمرُّ أكثر من شهر على المريض في تلك الحالة، يكون الاحتمال الأكبر أنه سيظل إلى آخر حياته رهنًّا للحالة النباتية المزمنة. يحتاج المريض إلى عناية كاملة، فهو كائن حي مع وقف التنفيذ، يتلقى الماء والطعام عبر الأنابيب المعدية، ويجب تقليب جسمه كل ساعة أو اثنتيْن لتجنُّب قرح الفراش، ويجب أيضًا تقديم جلساتٍ خاصة من العلاج الطبيعي للحفاظ على العضلات والمفاصل من التحلل والتيبُّس.

تُتَوفَّى معظم تلك الحالات خلال أشهر أو أعوام قليلة، وغالبًا ما يكون السبب التهابًا رئويًا شديدًا نتيجة غياب النشاط الطبيعي لعضلات التنفس، والقدرة الجيدة على السعال، أو تلوث بكتيري شديد في مجرى البول نتيجة تكرار احتباس البول، وتركيب القساطر البولية، أو فشل كلوي نتيجة الجفاف الشديد، أو تسممًا بالدم نتيجة قرح فراش متقدمة.. الخ.

تنقَّلت منيرة بين العديد من المشافي، ومراكز الرعاية الصحية، والتأهيل، في الإمارات ولندن، وفي عام 2017م تلقت أسرتها دعمًا ماليًا من الدولة لتنتقل إلى أحد المراكز المتخصصة في ألمانيا على نفقتها، وهناك أجرت عدة عمليات جراحية، وأجرَت علاجًا طبيعيًأ مكثَّفُا للتعامل مع التقصُّر الشديد الذي حدث لعضلات أطرافها، والذي يصعب تقليبها، وجلوسها على الكرسي المتحرك، كما تلقت العديد من الأدوية لتحسين درجة الوعي، ومنع حدوث التشنجات الصرعية.

يذكر الطبيب الألماني «فريدمان مولر» المسئول عن المركز الذي أشرف على علاج منيرة، مؤخرًا، أن علامات التحسن التدريجي بدأت تتواتر خلال العام الأخير، حيث بدأت المريضة تصدر المزيد من الأصوات، وبدا كأنها تنطق باسم ابنها، ثم تطور الأمر إلى ترديد بعض الآيات القرآنية التي حفظتها في الصغر، ثم نطقت باسم ابنها، وبعض أقرب المحيطين بها، ثم أصبحت تشترك في بعض الحوارات العائلية أحيانًا. يرجِّح مولر أن يكون لهذا التحسن علاقة بالأدوية المنشطة للمخ، والتي كانوا يضخونها مباشرة في السائل الشوكي في ظهرها، لتصل إلى المخ مباشرة.

ليس من المعلوم تمامًا ما حجم التحسن المتوقع لمنيرة في قابل الأيام، لكن الأكيد أنها قطعت شوطًا كبيرًا نحو العودة إلى الحياة، وأيضًا أن الطريق أمامها لا تزال طويلة، فهي تعاني من إعاقاتٍ جسدية كبيرة، تجعلها غير قادرة على التنقل إلا بالكرسي المتحرك، وما زالت لا تستطيع الاعتماد على نفسها في القيام بالوظائف الأساسية لها، وخدمة نفسها.


ليست المرة الأولى، ولا الأكثر إثارة

حتى الآن، لا يزال من المستحيل بمكانٍ، التنبؤ بدقة بإمكانية تحسن حالات فقدان الوعي المزمن.

نقلًا عن الموقع الالكتروني للخدمة الصحية الوطنية في بريطانيا

أما ما هو أكثر إثارة من قصة السيدة منيرة ذات الـ 27 عامًا من الغيبوبة، هو أن تلك القصة ليست الأولى في هذا المضمار، ولا الأكثر خرقًأ للعادة، رغم ندرة تلك الحالات بالطبع. على سبيل المثال، استعاد رجل الإطفاء الأمريكي دونالد هربرت، كامل وعيه، بعد أكثر من 10 سنواتٍ من إصابة خطيرة تعرَّض لها أثناء العمل، تعرَّض خلالها للحرمان التام من الأكسجين لعدة دقائق قبل إنقاذ حياتِه.

أما تيري والاس، والذي تعرض لحادثٍ مروع على الطريق في ولاية ماساشوستيس الأمريكية عام 1984م، فقد بدأ عام 2003م في استعادة النطق تدريجيًا، والذين بدأ أولًا بكلمة ماما، ثم بيبسي، ثم خلال وقتٍ قصير كان ينطق العديد من الكلمات. في محاولةٍ للتفسير، ذكرَ الباحثون أن دماغ تيري بدأت تدريجيًا، وفي بطء شديد، بمحاولة حثيثة لاستعادة وظائفها، عبر تكوين روابط ومساراتٍ عصبية جديدة.

وهناك أيضًأ قصة البولندي يان جريزبسكي، والذي كان عاملًا بالسكك الحديدية، فقد أفاق عام 2007م من غيبوبةٍ استمرَّت أكثر من 19 عامًا، أعقبت تعرُّضه لحادث مروع، عندما صدمه أحد القطارات. صرَّح الرجل للتلفزيون المحلي آنذاك عن دهشته لما رآه من تغير كبيرٍ في بولندا في الأعوام التي كان فاقدًا فيها الوعي، فقد سقط الحكم الشيوعي، وامتلأت أرفف المحال التجارية بالبضائع، وتطورت وسائط التقنية، وسرعة الحياة … الخ. وأرجع الرجل الفضلَ الأكبر في تحسنه إلى زوجته الوفيَّة، والتي لم تتخلَّ عنه أبدًا، وقدمت له أفضل رعاية ممكنة في فترة الغيبوبة الطويلة.

ولا ننسى في هذا السياق أن نشير إلى حالة مايكل شوماخر، بطل سباقات سيارات الفورميلا وان الشهير، والذي تعرَّض لحادثٍ مروع، عندما كان يمارس الألعاب المائية مع طفلتيْه في ديسمبر/ كانون الأول 2013، حيث سقط، فاصطدمت رأسُهُ بصخرة، مما سبَّب ضررًا كبيرًا للدماغ.

ظلَّ شوماخر في غيبوبة تامة لمدة أكثر من 6 أشهر، ولم يحاول الأطباء خلالها إيقاظه، لاعتقادهم أن تلك الغيبوبة ستساعد الدماغ على استعادة بعض نشاطه تدريجيًا.

في الشهور والسنوات التالية تحسَّن شوماخر تدريجيًا، إلا أن مقدار التحسن غير معلوم، حيث تحيط أسرته أخبارَ صحته بجدار ضخم من الخصوصية والسرّية، رغم فضول الملايين حولَ العالم لمعرفة حالته الآن. يقيم شوماخر الآن في منزل العائلة في سويسرا، حيث يحيط به الحلقة الأقرب من الأقارب والمعارف، ويتلقى الرعاية الطبية اللازمة.

أما الدرس الختاميّ المُستفاد، فهو أن تحاول أن تتجنَّب إصابات الرأس القوية ما استطعتَ إلى ذلك سبيلًا.