كتب عنه الكثيرون متعجبين من الطبيعة المزدوجة لإنجازات حياته. الرجل الذي أهدى البشرية الطريقة التي مكنتها من إطعام عدد أفرادها المتزايد، والقاتل ذو الدم البارد الذي وضع أساسات الحرب الكيميائية في مطلع الحرب العالمية الأولى وقتل بها المئات. ثم هاجر وهاجم سياسات الحزب النازي الصاعد. اليهودي الذي اعتبره أينشتاين مجرد روح تواقة للحب والقبول في جماعة ما، يهودي كان يحاول الاندماج في مجتمع معادٍ له. اليوم نتذكر – فالأمر قد يحتمل الاحتفال أو الندم – مولد الكيميائي الفذ رغم عواقب عبقريته، فريتز هابر.


ميلاد هابر وميلاد الوطن

ولد هابر في بريسلاو – التابعة لبروسيا آنذاك ثم ألمانيا الموحدة والآن بولندا – لأب عمل في تجارة الأصباغ والدهانات وأم توفيت بعد ثلاثة أسابيع من ولادته، ليحمله أبوه وزر الحادث المؤلم طوال حياته. كان فريتز الصغير شخصية مرحة متحدثة نشيطة لكنه لم يكن يظهر عبقرية استثنائية وقتها. بعد إنهائه لدراسته المعادِلة للشهادة الثانوية Gymnasium لم يكن أبوه متحمسًا لإرساله للجامعة. لم يكن الأمر بسبب فريتز ولكن بسبب خلفيته الاجتماعية.

كان فريتز وليد جيل جديد من اليهود الذين تعاملوا مع الدين على أنه «طقس» اجتماعي أكثر منه التزام حقيقي. مع ذلك، كانت قضية كونه يهوديا تشغل والده وتثبط عزيمته، فالكل يعلم أن البلد لن يسمح ليهودي بالترقي الوظيفي وأن الأساتذة سيصبون عليه عدوانهم واحتقارهم. رغم هذه القناعات المبررة تماما في هذا الوقت، تمكن شقيق أم فريتز من إقناع سيجفريد هابر – والد فريتز – بقضية أن ألمانيا تتغير.

كانت ألمانيا تشق طريقها بقوة نحو الدول المتقدمة بعد أن توحدت دويلاتها الصغيرة ومقاطعاتها العديدة وكثفت جهودها للحاق بركب الدول التي قادت العالم لزمن طويل مثل بريطانيا وفرنسا، أو الدول التي تحركت بسرعة صاروخية للحداثة والقوة مثل الولايات المتحدة. في خضم هذا التغيير ظهرت إمكانات جديدة في هيكل المجتمع الألماني سمحت للكفاءات اليهودية باجتياز العراقيل العرقية، ومهدت لدمجهم في السياق الإنتاجي الذي كانت تخوضه الدولة سواء إنتاج صناعي أو معرفي. كانت نافذة جديدة تمكن يهود ألمانيا من النظر من خلالها لسويعات قليلة قبل إغلاقها بعنف في وجوههم لاحقا.

تعود إخفاقات هابر إلى عدم قدرته على التأقلم مع العادي، لم يكن باستطاعة هابر الرضا بالمهام الصغيرة والأهداف البسيطة
ريتشارد فيلشتاتر. صديق مبكر ومقرب لهابر

هذا التوق إلى الاندماج والوحدة حدى بفريتز إلى اختيار الكيمياء لتصبح مهنته. كان من الجلي أن الكيمياء هي العلم الذي سيسير بالبلد اليافع نحو قيادة العالم، لتصبح ألمانيا نتاجًا للثورة الكيميائية كما كانت بريطانيا نتاجًا للثورة البخارية. كان من البديهي أن يريد فريتز الشاب أن يكون جزءًا من المسيرة ليبدأها بالكيمياء العضوية، ثم يزهدها ليتجه نحو الكيمياء الفيزيائية صاعدًا فيها سلم الأكاديميا. كل هذا دون أن يعتبره أحد عبقرية فذة من نوع خاص. كان الأمر لم يزل في حيز المعتاد والجيد والمتوسط. لا شيء يشي بنوبل الكيمياء بعد ولا إشارة للعقلية الثاقبة التي سيشار إليها بالبنان فيما بعد.


معضلة النيتروجين: السهل الممتنع

كان خطر المجاعة يتهدد العقل الأوروبي باستمرار خاصة الألمان. لم تكن ألمانيا ضد ازدياد عدد سكانها لما كفله ذلك لها من قوة ويد عاملة فعالة، لكن كيفية إطعامهم ظلت مشكلة مؤرقة لباحثيها مع باحثي أوروبا وعلى رأسهم ويليام كروكس مكتشف عنصر الثاليوم، والذي نادى بضرورة إيجاد طريقة لتثبيت النيتروجين الجوي في التربة بطريقة ما. كان خطاب كروكس عام 1898 للجمعية الإنجليزية يحذر العرق الأبيض في مختلف بقاع العالم من خطر الجوع، ويخبرهم بأن حل العقدة يكمل في حل الرابطة الثلاثية في جزيء النيتروجين الذي يمثل الأغلبية الساحقة من غازات الهواء الجوي.

لم يكن هابر الوحيد في سباق الكيميائيين الفيزيائيين نحو تثبيت النيتروجين في صورة أكاسيد أو أمونيا، بل أنه بنى على أبحاث العديد منهم خاصة أوستفالد.

لاحظ أوستفالد أن واردات مركبات النترات nitrates الطبيعية الآتية من تشيلي على متن فخر الصناعة الألمانية آنذاك، السفينة بروسين، التي بقيت طوال قرن سفينة الشحن خماسية الشراع الوحيدة من نوعها حتى بعد غرقها بعد 8 سنوات من تمام بنائها، مهددة بالخطر في حالة اندلاع حرب. سيتخذ أوستفالد موقفًا سيصبح علامة ألمانية لحقبة الحربين العالميتين، موقف «إن لم تستطع أن تاتي بما تحتاج، اصنعه فورا».

كانت ألمانيا تحتاج النترات سواء للمخصبات المطلوبة بشكل حرج لزراعة أو للسلاح والمتفجرات وصناعة البارود والديناميت ومركباتهم، بينما كان أوستفالد متسرعًا. عندما أعلن أوستفالد تمكنه من تثبيت النيتروجين في صورة أمونيا – NH3 مركب يسهل استخدامه لصناعة مركبات النيتروجين كافة – أبدت شركة الصناعات الكيميائية BASF استعدادها لدعم تحويل هذا الاكتشاف إلى صناعة وتم انتداب كيميائي يدعي بوش Bosch لمراجعة النتائج.

لسوء الحظ، لاحظ بوش أن الكمية القليلة التي أنتجها أوستفالد من مفاعلته للهيدروجين النقي والنيتروجين النقي في وجود حرارة عالية وحديد كعامل حفاز وضغط جوي عادي، كانت مجرد كمية ناتجة من تحلل نيتريد الحديد وليس من اندماج العناصر المكونة للأمونيا كما أمل الجميع. قام أوستفالد بسحب طلب الحصول على براءة الاختراع للتقنية بعدما تبين الخطأ الحادث.

فيما بعد، سيصبح بوش مسئولًا عن التطبيق الصناعي الضخم لأفكار هابر في هذه النقطة تحديدًا لتصبح عملية تثبيت النيتروجين – عند ظهورها – تسمى عملية هابر بوش.

بدأ هابر من نفس النقطة التي بدا منها أوستفالد ولكن دون علمه بأي مما فعل الأخير ومع الاستفادة من أبحاث سابقة حول نقطة التوازن. هذه النقطة هي العلامة على ما إذا كان الهيدروجين والنيتروجين يميلان للاندماج فتصبح التقنية مفيدة، أم لا يحبذان الاندماج. كانت النتيجة أنهما يرفضان بقوة الارتباط معًا وتجاهل هابر القضية كلية وواصل أبحاثه الأخرى. حتى ظهر تحدى نيرنست في الأفق.


الكبرياء يقود هابر للإنجاز

بنى هابر أبحاثه في سباق الكيمياء الفيزيائية نحو تثبيت النيتروجين على بعض أبحاث غيره من العلماء، وخاصة أوستفالد

لم يكن الوضع بين هابر ونيرنست سيئًا للغاية قبل الصدام الذي تسببت فيه نقطة توازن تفاعل تكوين الأمونيا. كان هابر قد قام بتحديد قيمة لنقطة التوازن تساوي 0.0125%، والتي لم تكن لتتوافق مع حسابات نيرنست القائمة على نسخته من نظرية الحرارة أو قانون الثيرموديناميكا الثالث والتي ساوت 0.0032% فقط. هذه النسب تعني أن الكمية المتولدة من تفاعل الهيدروجين والنيتروجين في حرارة وضغط عاليين لم تكن تتعدى هذه النسب من النواتج الواجب تكوينها إذا تفاعلت كل كميات الغاز معًا.

بعد أن وفر هابر لوطنه ألمانيا بإنجازه رغيف خبزها، قام بتركيز مجهوداته لدعمها عسكريا بتصنيع الغاز السام والأسلحة الكيميائية كغاز الكلور

أرسل نيرنست لهابر خطابًا يحوي هذه المشكلة، وانتقل السجال بينهما للمناقشة العلنية أمام جمعية الكيمياء الفيزياء التطبييقية، فأشعل هذا غرور هابر العتيد.

في خضم هوسه الجديد باكتشاف طريقة ما لإثبات صحة تجاربه، انخرط هابر في اتفاق مع أكبر شركات ألمانيا للكيماويات BASF والتي دعمته بالمال والأجهزة كما لم يفعل أحد، إلا أن الأمر لم يخلُ من معضلة. كانت BASF تدعم أبحاث هابر طالما استخدم القوس الكهربي، أي أنه ليس لديها اهتمام حقيقي بصناعة الأمونيا أو أي مركب آخر. هنا انهار الاتفاق بين الكيميائي والشركة الضخمة، لكنها استمرت في تزويد هابر بما احتاجه ليصل أخيرًا لمراده.

اعتمدت فكرة هابر على استخدام عامل حفاز معدني – كما فعل أوستفالد من قبل – ولكن ليس الحديد النقي. كانت ثمرة تجارب هابر العديدة هي استخدام الأوزميوم ثم اليورانيوم بل وسبائك محتوية على الحديد أيضا كعوامل حفازة للتفاعل في ضغط ما بين 150 و200 بار وحرارة تصل لخمسمائة درجة سليزية.

حتى الآن لم تكن تلك إضافة كبيرة. كانت الأزمة التي واجهها تفاعل تكوين الأمونيا هي عدم تحول كم كبير من المتفاعلات إلى نواتج -فقط 15% -، ولذا كانت إضافة هابر الذكية في التصميم تتمركز حول استخراج الأمونيا المكونة بصورة مُسالة بالتبريد، وإبقاء الغازات غير المتفاعلة في الجهاز وإعادة إدخالها في التفاعل مرة أخرى.

كان هابر بهذه الوسيلة قد أعطى ألمانيا رغيف خبزها بكل ما تحمل الكلمة من معنى. كان قد أعطاها غذاءها وجعل الضغط عليها بقطع وارداتها أمرًا من الماضي. من المحزن أن يبلغ به الانتماء لهذا الوطن إلى أن يكرس حياته بعد ذلك تمامًا للغاز السام والسلاح الكيميائي، بعد أن بدأت أفكاره تؤتي ثمارها على جبهة أبريس التي شهدت إطلاق 168 طن من غاز الكلور في أجوائها، ساحقة لرئات كل من قاده القدر للتواجد هناك. في النهاية، لم يتمكن الكيميائي العبقري من تجاهل مستقبل الحرب الكيميائية حتى في تسلمه لجائزة نوبل عن جهوده في إنقاذ البشرية من الجوع.

المراجع
  1. Master Mind :The Rise and Fall of Fritz Haber the Nobel Laureate Who Launched the Age of Chemical Warfare- Daniel Charles
  2. Enriching the earth- Vaclav smil
  3. Ammonia :principles and industrial practice – Max appl