اهتمَّ الأطباء المسلمون بدراسة النفس البشرية والأمراض التي تطرأ عليها، وتشخيصها، ووصف العلاج المناسب لها، وساعد في ذلك حركة الترجمات التي ظهرت مع بدايات الدولة الإسلامية، وتحديدًا على يد الأمير الأموي خالد بن يزيد بن معاوية، بحسب ما ذكر الدكتور أحمد إبراهيم الهواري في كتابه «من تاريخ الطب الإسلامي».

طفرة في الطب النفسي

أسهمت الكتب المترجمة مع الدراسة الدقيقة للمصابين بالأمراض العقلية والنفسية، في تغير الصورة النمطية التي كان ينظر بها المجتمع إليهم، فاستبدل الأطباء المسلمون أساليب التجويع والتعذيب وعزل المرضى _ التي استخدمت سابقًا_ بالأدوية والرياضة والموسيقى والغناء والوسائل الإنسانية الرحيمة، وبهذه الوسائل استطاعوا إنقاذ المصابين، ومعالجة العديد من الأمراض النفسية، كما أوضح الدكتور عبد الكريم شحادة في كتابه «التراث الطبي العربي الإسلامي».

ودعمت عناية الأطباء المسلمين بالأمراض النفسية وعلاجها، اهتمامَ الخلفاء ببناء المستشفيات أو ما عُرف قديمًا بالبيمارستانات، ففي عهد الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك تم بناء أول بيمارستان، أما في مصر وخلال عهد أحمد بن طولون فقد تم بناء أول بيمارستان، وفيها تم تخصيص قسم لعلاج الأمراض النفسية، ثم توالى بناء البيمارستانات في القاهرة عاصمة مصر خلال حكم العديد من السلاطين، وأشهرها بيمارستان المنصور قلاوون، وكذلك شهدت المدن الإسلامية الكبرى؛ مثل: بغداد، ودمشق، وحلب، ومكة، ومراكش، وغرناطة، وغيرها من المدن طفرة في بناء البيمارستانات سواء من الحكام الوزراء، بحسب ما يذكر الدكتور أحمد عيسى في كتابه «تاريخ البيمارستانات في الإسلام».

ويري خالد حربي في دراسته «ابداع الطب النفسي العربي الإسلامي»، أن الأطباء العرب استطاعوا ابتكار علاجات لمعالجة الأمراض النفسية، التي ما زال لها أثر في علم النفس الحديث.

العلاج من العنف والدجل للترفيه

استطاع الأطباء المسلمون أن يحرروا المرض النفسي من مفاهيم السحر والخرافات التي كانت سائدة، وإخضاعه للتجارب والمشاهدات، كما أوضح عيسى في كتابه، ويذكر الدكتور طارق بن علي الحبيب في كتابه «الطب النفسي في بلاد المسلمين»، أن نظرة العرب كانت أكثر إنسانية نحو المرضى النفسيين، ويؤكد ذلك أن الرحالة الأوروبيين الذين زاروا العواصم العربية خلال القرن الثاني عشر الميلادي وصفوا العلاج المستنير الذي يتلقاه المرضى النفسيون في المراكز العلاجية _البيمارستانات_ فيها، التي امتازت بوجود النوافير الساحرة والحدائق الغناء، كما ذكروا طرق العلاج في كتبهم، والتي أبدعها الأطباء المسلمون في العلاج، بهدف تعافي المرضى وعودتهم للحياة من جديدة.

الغناء: خير تمارين العافية

ازدهرت الموسيقى في ظل العصور الإسلامية، وكانت من مظاهر الترف والأبهة، التي انتشرت في قصور الخلفاء والأمراء، ونظرًا لما لها من أثر جيد على النفس، فقد أقبل عليها الأطباء، واستخدموها كوسيلة لتخفيف آلام المرضى، حيث وجدوا أن النغمات والألحان الموزونة لها أثر جيد على المرضى مثل تأثير الأدوية والأشربة من الأمراض، بحسب ما ذكر في «رسائل إخوان الصفا».

لهذا نجد، أن أبا بكر الرازي يحكي في كتابه «الحاوي»، أنه عندما كان يعزف يقصد التسلية في بيمارستان مدينة الري، وجد المرضى يلتفون حوله على الرغم من مرضهم، فبدأ يدرس تأثير الموسيقى في علاج الأمراض، وبعد عدة تجارب وصفها بأسلوب من أساليب العلاج الطبي، وفي هذا السياق، ذكر ابن سينا في كتابه «القانون في الطب»، أن الموسيقى والغناء من أفضل الوسائل التي تساعد على النوم، ومسكن جيد للآلام حيث ينشغل المريض بها عن مرضه.

ويذكر عيسى في كتابه، أن بيمارستان قلاوون في القاهرة، كان يخصص فيها لكل مريض نفقته وتقدر بدينار، وكان يخصص له شخصان يقومان بخدمته، وكان المؤرقون من المرضى يعزلون في قاعة منفردة يشفون فيها آذانهم بسماع ألحان الموسيقى.

الضحك شافٍ

في ذات السياق، يذكر عيسى، أن من الطرق التي لجأ إليها الأطباء لعلاج المرضى في ذلك العصر، قص الحكايات المسلية والمضحكة حتى يخففوا عنهم آلامهم، ويجعلوهم ينشغلون بها عما أصابهم، وقد عُرف من يقومون بتلك الخدمة بالقصاص، وكان لها أثر جيد على المرضى، وكان الأطباء عندما يلاحظون تجاوبًا وتحسنًا عند بعض المرضى يقومون بعزلهم عن الآخرين، وجعلهم يتمتعون بمشاهدة الرقص، وكانت تمثل أمامهم الروايات المضحكة، وكان يعطى لكل مريض حين خروجه من البيمارستان خمس قطع من الذهب، حتى لا يضطر إلى الالتجاء إلى العمل الشاق في الحال.

ويذكر أبو الصلت في كتابه «الرسالة المصرية»، أن البيمارستانات في مصر، كما كانت تعيّن الأطباء لعلاج المرضى، عيّنت أشخاصًا ظرفاء من أجل رواية الحكايات المضحكة، والخرافات المسلية، وأحيانًا كان يلجأ هؤلاء الظرفاء إلى استخدام الأقنعة المضحكة، لتشجيع المرضى على الضحك، ونسيان ما ألم بهم من مرض، فإذا تفاعل المريض مع المهرج، كان يذهب إليه أكثر من مرة حتى يبرأ مما أصابه، ويخرج للحياة من جديد.

تلهية النفس بالصيد واللعب

يذكر الرازي في كتابه، أن أفضل وسيلة لعلاج الأمراض النفسية، بخاصة الوساوس والماليخوليا، أن يشغل المريض وقته بما يسره، حتى يشفى مما أصابه، بداية من السفر والترحال عن المكان الذي يعيش فيه، فيرى أماكن جديدة، وأشخاصًا لم يرهم من قبل، حتى يكون له عالم جديد يخرجه مما هو فيه، فإذا لم يكن باستطاعة المريض السفر، فعليه أن يشارك وينافس في بعض الرياضات أو الصيد أو لعب الشطرنج، حتى يهرب من الأفكار السيئة التي تطارده، ويظل على ذلك حتى يقوى ويشفى مما أصابه.

ويري الرازي، أن من أفضل وسائل علاج الماليخوليا، ممارسة الرياضة أو المشي على أقل تقدير، وتناول الأغذية الجيدة، ويفضل الاستحمام قبل تناول الطعام.

الحيلة نافعة

من الوسائل التي لجأ إليها الأطباء في ذلك العصر، ووجدوا لها أثرًا طيبًا على المرضى، كانت الحيلة، يذكر شحادة، أن ابن سينا، جاءه أهل مريض يدّعي أنه بقرة، فذهب إليه ابن سينا لزيارته حاملًا في يده سكينة، فلما رأى المريض، ووجده نحيل الجسم، قال: إن هذه البقرة يجب تسمينها قبل الذبح، ففتح كلامه شهية المريض، وبدأ يُقبل على الأكل فقوي بدنه ورحل عنه الوهم.

ومع مريض آخر، أصابه العشق لجأ ابن سينا إلى قياس نبض المريض لمعرفة مدى استجابته أثناء ذكر بعض أسماء الفتيات، ومن خلال رصده لرد فعله عرف اسم الفتاة ومكانها، بحسب ما ذكر في كتابه «القانون في الطب».

ومن العلاجات النافعة للعشق، يرى ابن سينا، أن يحاط العاشق بمجموعة من الخصومات والمنازعات الكاذبة حتى ينشغل عن عشقه، أو يحتال عليه بمعشوقة أخرى حتى يبرأ من العشق، أو يدفع به للجلوس مع كبار السن الذين مروا بتجارب العشق، فيذموا فيه ويقبحوه له –العشق-حتى يكره العاشق حبيبه.

بينما يرى ابن القيم في كتابه «الطب النبوي»، أن العشق لا يمكن علاجه.

ومن حيل الرازي، أنه ذهب لعلاج أمير مدينة بخارى، الذي كان يعاني من آلام حادة في المفاصل، أعاقته عن الحركة، فبدأ معه الرازي بالأدوية والعقاقير المعتادة، فلم تنفع معه، فاستشعر أن سبب مرضه أمر نفسي،

فأخذه إلى أحد الحمامات، وأمره أن يجلس في مغطس الماء الساخن، ثم دخل عليه الرازي حاملًا في يده سكينًا مهددًا الأمير بها، فتحرك خوفًا على حياته، وقبل أن يأمر حراسه بالقبض على الرازي، كان فر هاربًا تاركًا رسالة شارحًا فيها حيلته لعلاجه، فلما قرأها الأمير، أرسل له الهدايا والأموال.

وفي هذا السياق، يذكر راغب السرجاني في كتابه «قصة العلوم الطبية في الحضارة الإسلامية»، أن الرازي أول من توصل إلى الأسباب النفسية لالتهاب المفاصل الروماتزمي، وقد فرق بينه وبين النقرس، وقرر أنه مرض جسدي في ظاهره، لكنه ناتج عن الاضطرابات النفسية.

ومن الحيل التي لجأ إليها الأطباء، يحكي ابن أبي أصيبعة في كتابه «عيون الأنباء في طبقات الأطباء»، أن هارون الرشيد شكا لوزيره جعفر البرمكي عن علة أصابت يد جارية، فأحضر له الطبيب جبرائيل بن بختيشوع، فلما سمع منه حالتها طلب منه أن تأتي إليه، فلما جاءته أمسك بذيل ثيابها، وكأنه يريد أن ينزعه، فانزعجت الجارية، فبدأت يديها تنقبض وتنبسط، ثم أمسكت بذيل ثوبها حتى لا تتكشف أمام الناس، فقال بختيشوع: قد برئت يا أمير المؤمنين، فتعجب مما رأى ومنحه خمسمائة درهم.

كما لجأ للحيلة طبيب بغداد أبو البركات هبة الله، عند معالجة مريض أصابته علة الماليخوليا، وكان يتوهم أن فوق رأسه وعاء ضخم، فكان يمشي ببطء منحنيًا في الطرقات، لذلك أمر أبو البركات أحد غلمانه أن يضرب المريض بعصا على رأسه، بينما يرمي غلام آخر وعاء من خلف المريض، فلما رأى المريض الوعاء المنكسر، زال عنه الوهم وبرأ، بحسب ما ذكر ابن أبي أصيبعة.

هذا بعض مما برع فيه الأطباء العرب في مداواة شذوذ النفس، بأساليب كانت جديدة ومبتكرة في عهدهم، مما يدل على أن الطب النفسي، صنعة، ومهارة، وفن، يكتسب عبر التجارب المتتابعة، التي أسست للعلاج النفسي في العصور اللاحقة.