تخلت الصين عن الكثير من مقولات الاشتراكية والشيوعية التي سارت عليها سنوات منذ ثورة ماو تسي تونغ، إلا أن نظامها السياسي الحالي تحت قيادة الحزب الشيوعي ما زال متمسكًا بمقولاتها عن الدين، معتبرًا أن الديانات والكنائس أدوات للرجعية البورجوازية تستخدمها في الاستغلال وقمع الطبقات العاملة.

والنظام الحالي بقيادة شي جين بينج اتبع هذه السياسة بشكل خاص تجاه الأديان، وفي مقدمتها الإسلام والمسيحية، فالشريحة الأولى، قد تسعى إلى الانفصال عن الدولة، والثانية، قد تُستغل أداة في يد أعدائها الغربيين.


المسيحية في الصين: التأرجح بين الصعوط والهبوط

بدأت المسيحية ظهورها في الصين أواخر القرن الـ16 وأوائل القرن الـ17، حيث سافر أول مبشر بروتستانتي روبرت موريسون نيابة عن جمعية لندن التبشيرية. وبحلول منتصف القرن الـ19 أصبحت المسيحية قوة سياسية واجتماعية، لكن تطورها لم يسلك مسارًا واحدًا بل تراوح بين الصعود تارة والهبوط تارة أخرى.

ففي الفترة من 1899 إلى 1901 اندلعت في الصين ما عرفت بـ«ثورة الملاكمين»، وهي ثورة أطلق شرارتها غضب الصينيين من النفوذ الأجنبي الذي كان يتنامى في البلاد من جميع النواحي (التجارية والسياسية والدينية). أدى ذلك إلى هجمات عنيفة شنها الثوار ضد المبشرين والمسيحيين الصينيين الذين اعتبروهم مسئولين عن الهيمنة الأجنبية في البلاد.

ومع استمرار الانتفاضة قُتل عشرات الآلاف من المسيحيين الصينيين من مختلف الطوائف. وقفت الحكومة الصينية عاجزة أمام هذه الانتفاضة، وباستمرار الثوار بمحاصرة بكين وقتل الأجانب، تحالفت 8 دول وهي: النمسا، وفرنسا، وألمانيا، وإيطاليا، واليابان، وروسيا، وبريطانيا، والولايات المتحدة، وأرسلوا قواتهم لإنقاذ الرعايا الأجانب والبعثات الدبلوماسية والتبشيرية المسيحية، وأُجبرت الحكومة الصينية بعدها على تعويض الضحايا وتقديم تنازلات إضافية للدول الكبرى.

وفي 1949 وبعد أن أعلن ماو تسي تونغ جمهورية الصين الشعبية، عادت موجات التضييق والاضطهاد بحق المسيحيين مرة أخرى، إذ تم طرد المبشرين الكاثوليك والبروتستانت، ووضعت الكنائس تحت سيطرة الشيوعيين. كما تفاقم الوضع خلال الثورة الثقافية (1966-1976) حيث تم حظر الممارسات الدينية وهدم أماكن العبادة، واضطر علماء الدين إلى العودة إلى العلمانية. كان ذلك نتيجة نظرة ماو للكنسية كجزء من الإمبريالية الغربية، وتصوير الحزب الشيوعي لها على أنها من بين القوى المعادية المسئولة عن المعاناة والإذلال في البلاد.

في ظل هذه الأوضاع اتجه المسحيون إلى إقامة مئات الآلاف من الكنائس (السرية) غير الرسمية تحت الأرض وفي المنازل في جميع أنحاء البلاد. ولكن بعد وفاة ماو تسي تونغ وخليفته دنج شياو بينج، عادت الأمور إلى نصابها مرة أخرى.فتحت الصين أبوابها أمام العالم الخارجي، منحت المزيد من الحريات للمواطنين، ومع بداية الثمانينيات (1982) بدأت تُعطي مساحة للكنيسة للتنفس. فتبرعت بالأرض، وبنت الكنائس، وسمحت بإجراء أبحاث حول الإسهامات المسيحية الإيجابية في المجتمع، كما أعلن مسئولوها صراحة أن الدين يلعب دورًا مهمًا في تحقيق التنمية على عكس ما كان سائدًا في حكم ماو تسي تونغ.

والملاحظ في هذا الإطار أن مساحة التنفس هذه كانت في أحد أسبابها محاولة لتجنب الاستهجان الدولي، إذ كانت هناك تكلفة سياسية لمحاولات الاضطهاد هذه. ولكن اليوم تبدلت الأوضاع، فالعالم تراجع عن انتقاد الصين بشكل متزايد، خوفًا من تعريض العلاقات الاقتصادية مع ثاني أكبر اقتصاد في العالم للخطر.


خطة الدولة للسيطرة

كان من الطبيعي في هذا السياق أن تعود محاولات الاضطهاد مرة ثانية، والتي تفاقمت وتعددت أوجهها مع الإدارة الحالية للرئيس شي جين بينغ.فوفقًا لـمنظمة Open Doors (منظمة غير ربحية تتتبع اضطهاد المسيحيين حول العالم). فالإدارة الحالية تستخدم كافة الوسائل لإزالة أي تحديات للسلطة المطلقة للرئيس، حتى لو كانت تلك التحديات مرتبطة بالإيمان الشخصي بـ«إله آخر غير الدولة».

وفي سبيل ذلك عمدت الحكومة إلى تنفيذ خطة من ثلاث مراحل ولمدة 14 عامًا. حيث تضمنت المرحلة الأولى التي استمرت عامين (2012-2014)، العمل على التخفيف من اضطهاد الكنائس السرية، وتحفيز الكثير منها للظهور وتحديدها. وبالفعل تم التحري بشكل سري عن تلك الكنائس، وتبع هذا موجة من الاعتداءات عليها.

وشملت المرحلة الثانية (2014-2016) الضغط على تلك الكنائس للتسجيل لتصبح كنائس حكومية. وقد قامت بعض الكنائس بالتسجيل بشكل رسمي لتجنب الاعتقالات، إلاّ أنّ البعض الآخر رفض القيام بذلك لعدم موافقته على سياسة الحكومة ومبادئها.

أما المرحلة الثالثة، والتي تمتد لعشر سنوات، فتعمد خلالها الحكومة إلى إغلاق الكنائس السرية التي لا تستجيب لمطالبها، وتوظف آليات المراقبة الجماعية والذكاء الاصطناعي لإحكام السيطرة على الكنائس القائمة.


الاضطهاد المسيحي اليوم: أشكال عدة ووجوه كثيرة

عمدت الحكومة إلى اتخاذ عدد من الإجراءات التي تُمكنها من تنفيذ المرحلة الثالثة من خطتها، والتي دارت في مجملها حول السيطرة على الكنائس ومحاولة تطويعها؛ سواء كان ذلك بالتضييق عليها أو مراقبتها أو حتى الضغط على المسيحيين ذاتهم:

1. استهداف الكنائس

اعتقلت الحكومة قادة وأعضاء الكنائس في مصحات للأمراض العقلية، وألقت القبض على آلاف القساوسة متهمة إياهم بالتحريض ضد الدولة، وهي واحدة من أخطر الجرائم التي تُستخدم غالبًا لإسكات المنشقين. كما طلبت من الآخرين توقيع بيانات يتعهدون فيها بطاعة تعليمات الحكومة.

لجأت أيضًا إلى استهداف الكنائس بالهدم بحجة البناء دون ترخيص،وأغلقت المئات من الكنائس السرية، واستبدلت الصلبان بالعلم الصيني، مشيرة إلى أنها تشوه المنظر العام ولا تتوافق مع شروط البناء، كما قدمت الأغاني التي تشيد بالحزب الشيوعي على الترانيم.

وقامت السلطات المحلية بالضغط على ملاك الأراضي لإنهاء عقود الإيجار مع الكنائس عبر عدد من الآليات والحجج؛ كأن يتم تغريمهم مبالغ ضخمة على المخالفات البسيطة من أمثال عدم كفاية معدات السلامة من الحرائق. ووُضعت الكنائس أمام خيارين؛ إما الانضمام إلى الكنيسة الرسمية أو الإغلاق القسري.

في هذا السياق،أقرّ مجلس الدولة قوانين تفيد بأن أي شخص يوفر مكانًا لقيام حدث ديني غير قانوني سيواجه غرامة تتراوح بين 20 ألف يوان (2900 دولار) و200 ألف يوان (29000 دولار). كما أعلنت الحكومة في سبتمبر/أيلول 2017 أن كل من ينظم حدثاً دينياً غير مُوافَق عليه سيتم تغريمه من 100 ألف إلى 300 ألف يوان (14500 دولار إلى 43500 دولار).

عملت الحكومة كذلك على تطويع المسيحية بما يتوافق مع أهداف الحزب الشيوعي، ويزيد من ولاء الرئيس شي جين بينغ، وذلك عبر إعادة كتابة لاهوت الكنسية، لإيجاد قواسم مشتركة مع الأيديولوجية الشيوعية، وخلق فكر جديد يقوم على حب الحزب والبلاد. ولم تكتف بهذا القدر، بل وظفت التكنولوجيا في خدمة أهدافها عبر نظام مراقبة جماعية داخل الصين عامة والكنائس خاصة. إذ أشارت تقارير عدة إلى أنه بحلول عام 2020، سيقوم الحزب الشيوعي بمراقبة المواطنين من خلال نظام مراقبة ضخم يسمى China Skynet، حيث ستغطي 600 مليون كاميرا الصين بأكملها، وقد تم بالفعل تثبيت بعض الكاميرات داخل مباني الكنائس.

2. الضغط الاجتماعي ومنع نمو المسيحية

من أجل وقف نمو جيل جديد من المسيحيين، أصدرت الحكومة لوائح جديدة تضمنت منع الأطفال دون سن 18 عامًا من الذهاب إلى الكنائس في بعض المناطق، وطلبت من أطفال آخرين ببعض المدارس التوقيع على استمارات تفيد أنهم لا يتبعون أي دين. ومن يمتنع عن التوقيع يتم تسجيل الأمر في ملفه الشخصي الذي تحتفظ به إدارات الحكومة المحلية مما قد يكون له عواقب مستقبلية عليه.

ولم يتوقف الأمر عند حد الأطفال فقط، إذ تعرّض مختلف فئات المواطنين المسحيين إلى الضغط بوسائل عدة، كأن يتم إخبارهم بأن معاشاتهم التقاعدية سيتم تخفيضها إذا لم يتخلوا عن دينهم المسيحي. أو يتم الزج بهم في السجون والخضوع لمحاكمات ظالمة دون الحق في اختيار محام شخصي، أو يتم ترهيب العائلات لعدم استئناف قضاياهم بالمحاكم، والتهمة التي يحاكمون عليها هي التجمّع من أجل العبادة!

3. الاتفاق مع الفاتيكان

لم يكن للفاتيكان والصين علاقات دبلوماسية رسمية منذ أن قطعهما ماو تس تونغ عام 1951. وقد تفاقم النزاع بينهما حول من لديه سلطة تعيين الأساقفة. حيث عادةً ما تكون سلطة تعيينهم مع البابا بعد مشاورات بين أعضاء آخرين رفيعي المستوى بالكنيسة. إلا أن الحكومة الصينية لم تكن تبالي أو تعترف بهذه السلطة وقامت بتعيين عدد من الأساقفة دون موافقة البابوية.

وقد أدى التصعيد في اضطهادها للمسحيين بهذا الشكل إلى استجابة الفاتيكان لمطالبها وتوقيعه اتفاق مع الحزب الشيوعي في سبتمبر/أيلول الماضي، يتضمن اعترافه بشرعية الأساقفة المعينين من قبل الحكومة. كان ذلك محاولة منه للتواصل مع ملايين المسيحيين الصينيين، إلا أنه كان بمثابة نزع للسلطة من البابا ومنحها الحكومة، والتي من المرجح أن تزيد من الضغط على المسيحيين.


ماذا تهدف الصين وراء الاضطهاد؟

المسيحية تُستخدم لتخريب الأمن القومي للبلاد، والقوى الغربية، تحاول استخدامها للتأثير على المجتمع، وتحاول استخدام المسيحيين من أجل قلب نظام الحكم.
«شو شياو هونغ»، عضو الهيئة الاستشارية في البرلمان

تمثل هذه الكلمات وما شابهها الدافع الرئيسي وراء هذا الاضطهاد الديني للمسيحية وغيرها من الأديان. فالحزب الشيوعي يرى الدين والجماعات الدينية تهديدات محتملة للأمن القومي والنظام السياسي. إذ يُمكن استغلالها أداة ضغط من قبل الدول الغربية لإجبار بكين على تقديم تنازلات كبرى كما حدث من قبل في ثورة الملاكمين.

ولعل ما يزيد هذه المخاوف أن العديد من محامي حقوق الإنسان الأكثر نشاطاً في الصين هم من المسيحيين، هذا فضلًا عن تفاقم أعدادهم بشكل عام. فعلى الرغم من التفاوت في الإحصائيات المتاحة بشأن عدد المسيحيين الصينيين (والمبالغة بوسائل الإعلام الغربية بصفة خاصة)، إلا أنه يمكن القول إن عددهم يتراوح بين 70 و100 مليون مسيحي. ومن المتوقع أن يزداد إلى أكثر من 400 مليون شخص بحلول عام 2040، حيث ترتفع أعدادهم بنسبة 7% كل عام، الأمر الذي سيجعل الصين أكبر دولة مسيحية على الأرض.

وبصفة عامة فالرؤية الصينية للمسيحية كتهديد للأمن القومي يجب قمعه والقضاء عليه، لا تقتصر عليها فقط، بل تنطبق على كافة الديانات. فقد سبق أن أعلنت الصين حربًا غير مسبوقة على مسلمي الإيغور، واعتقلتهم في معسكرات إعادة التأهيل، واستغلت ظروف ظهور داعش لتزيد من قبضتها على المسلمين هناك منعًا لأي انفصال فكري أو واقعي عن الصين، كما أرسلت قوات إلى سوريا لتعقب المسلمين الصينيين بها والذين انضموا للجماعات المسلحة لقتلهم هناك ومنع عودتهم ونقل تجربة قتالهم لمسلمي الصين.

ولم تسلم البوذية والطاوية من تلك الحملات، فأجبرت البوذيين على تقديم الولاء للحزب الشيوعي، ومنعت بناء أي تماثيل دينية كبيرة، وفرضت قيودًا على العمليات الدينية في التبت، وما زالت تراقب الأديرة وتعتقل الرهبان بتهم الإرهاب.

باختصار، فالصين دائمًا ما تسعى للسيطرة على الأديان ومحو هويتها، للقضاء على أي معارضة محتملة والحد من التدخلات الأجنبية.