بعد تهجير وتشريد الفلسطينيين من أرضهم في أعقاب حرب 1948، وعدم قدرتهم على الوصول إليها، أصبحت المخيمات مسكنًا لهم، ومن هنا ظهرت الحاجة إلى عمليات تشتت صفوف الإسرائيليين وتعيقهم، فبدأت عمليات التسلل ليلًا بعبور خط الهدنة الذي تم التوقيع عليه بعد النكبة ويسمى (الخط الأخضر).

لاحقًا تطورت عمليات التسلل إلى عمليات منظمة، ثم أصبحت عمليات عسكرية بدعم ورعاية مصرية، وذلك عقب تولي حكومة ثورة 25 يوليو؛ فكان أول من تم تكليفه بقيادة الحركة الفدائية في قطاع غزة من فترة يناير 1954م حتى 1956م هو المقدم «مصطفى حافظ»، وكانت الكتيبة 141 سببًا لبث الرعب في أرجاء الكيان المحتل بأكمله.

قائد الكتيبة 141

وُلد مصطفى حافظ في 25 ديسمبر 1920م، في قرية كفر أبو النجا في مدينة طنطا بمحافظة الغربية، شارك في المظاهرات الحاشدة التي طالما نظمها طلبة مدرسة فؤاد بين سنتي 1932م – 1936م للمطالبة باستقلال البلاد من الحكم البريطاني، كما وضَّح الباحث «محمد كريم» في كتابه «مصطفى حافظ مؤسس الحركة الفدائية الفلسطينية».

عام 1938م  حصل على البكالوريا (شهادة الثانوية العامة)، قدَّم أوراقه إلى الكلية الحربية المصرية في القاهرة، وحصل على التقدير الأول، وتجلت هوايته في ركوب الخيل، مما أهله بعد ذلك في التفوق في سلاح الفرسان وتخرج من الكلية الحربية عام 1940م، كما وضح الباحث «حافظ أبو الحجاج» في كتابه «شهيد العروبة مصطفى حافظ».

عُين بعد ذلك في 7 سبتمبر 1941م ملازمًا ثانيًا في سلاح الفرسان، وحصل على العديد من الدورات التدريبية العسكرية ثم عام 1943م انضم إلى دورة في المخابرات، وذكر في تقريره الخاص به: «يصلح للقيام بأعمال ضابط في مخابرات لواء فرسان»، واجتاز العديد من الدورات التدريبية الناجحة، وفقًا لما ورد في بحث «مصطفى حافظ ودوره في تأسيس الكتيبة 141 فدائيون: آذار/ مارس 1955م – تموز / يوليو 1956م»، للباحث محمد زكريا العثامنة.

حاكم غزة

بدأت علاقته العملية بفلسطين في 2 يوليو 1948م، حين نقل الملازم الأول «مصطفى محمد حافظ» إلى إدارة الحاكم العام لقطاع غزة، وسرعان ما تم تعيينه حاكمًا إداريًّا لبلدتي «فالوجة» و«بيت جبرين» معًا، وفي 16 أكتوبر 1948 م نُقل حاكمًا إداريًّا لبلدة رفح، وفي 8 نوفمبر 1948م تم نقله من فلسطين إلى مصر مأمورًا لمركز القصير على البحر الأحمر حتى 19 فبراير 1949م.

ويسرد لنا الباحث «حافظ أبو حجاج» في بحثه «شهيد العروبة مصطفى حافظ»، أنه بعد أن أُعيد اللواء مصطفى حافظ إلى القاهرة ظل في سلاح الحدود حتى 13 أكتوبر 1951م، ثم صدر قرار بنقله إلى إدارة مخابرات فلسطين في 15 نوفمبر 1951م.

والجدير بالذكر أنه شُهد له بطيبة القلب والدماثة، والاستقامة والدقة، وأنه ثابت الجأش يتحكم في أعصابه، وجاءت التقارير من رؤسائه وهو مُلازم تصفه بأنه نشط وشديد الذكاء واسع الأفق وناجح جدًّا في معاملة الأفراد واكتساب ثقتهم[1].

الأوضاع في قطاع غزة 1948 – 1956م

ترتب على نكبة فلسطين 1948م تحطم البنية الاقتصادية والاجتماعية للشعب الفلسطيني، ففي المجال الاقتصادي فقد الفلسطينيون ممتلكهم وبيوتهم، فاضطروا للنزوح عن مدنهم وقُراهم، أما سياسيًّا فتم تغييب الهوية الذاتية للشعب الفلسطيني، وذلك إثر الإعلان قيام دولة الكيان الصهيوني 15 مايو 1948م، ولم يعد يربط أبناء الشعب الفلسطيني إلا الحنين المشترك إلى الوطن.

أما اجتماعيًّا فدمرت الحرب بنية الشعب الفلسطيني ومزقت أوصاله الأرض الفلسطينية وتدفقت أعداد كبيرة من اللاجئين إلى الوطن العربي وغيره، الأمر الذي ترك آثارًا سيئة على أبناء الشعب الفلسطيني، فبقي قسم منه داخل الأراضي المحتلة وقدر عدده بـ 156 ألف وبقى القسم الأكبر من الفلسطينيين داخل البقية الباقية من فلسطين، والتي بقيت تحت سيطرة الجيوش العربية في الضفة الغربية (الأردن)، وفي قطاع غزة (مصر)، وغادر القسم الثالث فلسطين نهائيًّا[2].

يقص علينا الباحث «عبد الرحمن أسعد» وضع قطاع غزة آنذاك في كتابه «النضال السياسي الفلسطيني في إطار منظمة التحرير الفلسطينية»، فكان قطاع غزة آنذاك هو الملجأ، وذلك لتواجد القوات المصرية فيه، وعدم وصول المعارك إليه، ووصلت أعداد اللاجئين المتدفقين إلى قطاع غزة أواخر 1948عام  إلى 184 ألف لاجئ، وبقي خط وقف إطلاق النار الذي اتفق عليه عقب اتفاقية الهدنة بين مصر وإسرائيل، والذي بات يفصل غزة عن بقية أرض فلسطين، مصدرًا دائمًا للتوتر فرغم اعترافات إسرائيل بهذا الخط إلا أنها قامت بعمليات عسكرية تحت ذريعة ملاحقة المتسللين[3].

أما الجانب العربي خاصة المصري، فوضحت لنا الباحثة «باميلا سميث» في كتابها «فلسطين والفلسطينيون» أن الجانب المصري اعترف بهذا الخط باعتباره حدودًا مؤقتة، كما نصت على ذلك بنود هُدنة «رودس[4]»، أما الفلسطينيون فلم يعترفوا بهذا الخط لا سياسيًّا ولا عمليًّا، ولم يمنع وجود القوات المصرية من قيامهم بعمليات تسلل متفرقة هنا وهناك وراء خطوط العدو نفذها بشكل رئيس مقاتلون نشطوا سابقًا في قوات الجهاد المقدس أو جيش الإنقاذ.

انقسمت عمليات التسلل إلى نمطين، الأول: عمليات منظمة ذات طابع عسكري: قام بها أفراد من مقاتلي الجهاد المقدس وعلى رأسهم جمال الحسيني، وزير دفاع حكومة عموم فلسطين (الذراع العسكرية للهيئة العربية العليا)، ونشطاء فلسطينيون عملوا في المنطقة إبان ثورة 1936 – 1939 م، وقد قوبلت هذه العمليات رغم محدوديتها بردة فعل قوية من الجانبين المصري الإسرائيلي الذي اعتبرها ذريعة لتنفيذ اعتداءاته الدموية الواسعة في قطاع غزة كما وضح «تسفي البليغ» في كتابه «المفتي الأكبر». كما وضح الباحث «محمد زكريا العثامنة»، في بحثه «مصطفى حافظ ودوره في تأسيس الكتيبة 141 فدائيون: آذار/ مارس 1955م – تموز / يوليو 1956م»، أن الجانب المصري عمل على تصفية هيكلية وإبعاد قادتها ونشطائها إلى خارج حدود قطاع غزة.

النمط الثاني وهى عمليات غير منظمة: فيذكر لنا الباحث «علي زين العابدين الحسيني» في كتابه «ملامح التجربة النضالية الفلسطينية (حرب العصابات في مدن ومخيمات قطاع غزة)» أن هذه العمليات بدأت في فترة مبكرة من نكبة 48، قامت على شكل غزوات فردية يقوم بها مقامرون، وذلك لافتقار قطاع غزة في فترة ما بعد النكبة إلى وجود قيادات دينية أو سياسية أو اقتصادية يكون لها تأثير قوي على الجماهير، لذلك فالعمليات قامت بشكل فردي بدون تخطيط أو تنظيم وتفتقر إلى رؤية[5].

بعد ثورة يوليو 1952م

استمر هذا الوضع حتى ثورة 23 يوليو 1952م، لتبدأ بعد ذلك نظرة جديدة للوضع على الحدود، فشددت مصر الإجراءات على الحدود خاصة ضد المتسللين، فكانت تحاول أن يكون الوضع على الحدود هادئًا؛ حتى يستقر الوضع داخليًّا بعد الثورة.

ولكن أتت الرياح بهجمة من قبل العدو في فبراير 1955م، جعلت وضع السلام الذي أخذته مصر قبل ذلك يتلاشى، فقبل شهر من هجوم فبراير 55، عُقدت جلسة عمل لتقييم الوضع الأمني في القطاع بمشاركة كافة الضباط في الأجهزة الأمنية المصرية العاملة في قطاع غزة، وقد اتخذ على إثر ذلك الاجتماع منع حركة السير في ساعات الليل على طريق (غزة – رفح) أو إطلاق النار على المتسللين، وتقديم من يضبط متسللًا إلى محاكمات عسكرية سريعة[6]، ومن ناحية أخرى بدأت أجهزة الأمن المصرية تستخدم بعض المتسللين في أعمال رصد ومراقبة وجمع المعلومات عن تحركات القوات الإسرائيلية العاملة في المناطق الحدودية[7].

صرح الرئيس الراحل «جمال عبد الناصر» عندما طُرح أمامه الحديث عن الفدائيين من قبل أمين عام الأمم المتحدة: «أن الفدائيين تنظيم قديم ولكنهم لم يكونوا فدائيين من قبل بل كانوا فلسطينيين نظموا للحصول على المعلومات وليس القتال وكانوا بأعداد قليلة»، كما عرض الباحث «ي.ل.م برنز» في كتابه «Between Arab and Israel».

أبرز الباحث «محمد خالد الأزعر» في كتابه «المقاومة الفلسطينية بين غزو لبنان والانتفاضة» أن هذه العمليات رغم الظروف الصعبة التي عمل فيها منفذوها أدت إلى تقويض الروح المعنوية لسكان المستوطنات اليهودية الحدودية، خاصة بعد الزيادة في الخسائر البشرية لدى الطرف الإسرائيلي، فيذكر كُل من «آرئيل شارون» في مذكراته، و«موشيه شاريت» في يومياته أن نحو 26 إسرائيليًّا تم قتلهم في عام 1953م، وارتفع إلى 50 قتيلًا في عام 1654م، نتيجة عمليات مسلحة قام بها فلسطينيون من قطاع غزة.

هجوم 25 فبراير

في ليلة 26 فبراير 1955م اجتازت قوة من الجيش الإسرائيلي تقدر بنحو كتيبتين، خط الهدنة شرق مدينة غزة، وتوغلت نحو ما يزيد عن ميلين داخل الأراضي الخاضعة للسيطرة المصرية، فهاجمت معسكرًا مصريًّا وبيت ناظر محطة السكة الحديد، وبناءً عسكريًّا حجريًّا، وأربعة أكواخ للمراقبة العسكرية، وأوقعت بشاحنة عسكرية كانت تقل ضابطًا مصريًّا وأربعة وثلاثين جنديًّا، أقبلوا من الجنوب لنصرة الحامية المصرية بعد سماعهم إطلاق النار.

شارك في العملية إلى جانب الكتيبتين اللتين اقتحمتا الحدود، قوة ضخمة، قُدر تعدادها بالمئات، وخطط للعملية بدقة، وكانت الخسائر الاسرائيلية ثمانية قتلى، وثمانية جرحى، وقُتل من الجانب العربي ثمانية وثلاثين قتيلًا بينهم طفل في السابعة[8].

أصدر مجلس الأمن الدولي بيانًا أدان فيه بشدة العملية، واعتبرها هجومًا مدبرًا من قبل إسرائيل، وانتهاكًا صارخًا لبنود اتفاقية الهدنة الموقعة بين الطرفين، وضح الكاتب «موردخاي بايرون» في كتابه «حرب سيناء 1957م تصورات إسرائيلية»، أن هذه العملية العسكرية تحولت لتصبح بمثابة زلزال سياسي في المنطقة.

فبالرغم من رفض حكومة الثورة في مصر إجراء مفاوضات مباشرة مع الجانب الاسرائيلي، فإنه لا يوجد دليل على اختيار حكومة الثورة للخيار العسكري في هذه الفترة لمهاجمة إسرائيل،رفعبد الناصر زار قطاع غزة، في ديسمبر 1954م، وخطب في جنوده قائلًا: «لا يوجد شيء تخشون منه في القطاع»، واعتبر تلك الغارة إهانة لشخصه، وخاصة أن غالبية القتلى من الجنود المصريين، فجاءت الغارة لتقضي تمامًا على أي أمل لخلق تفاهم ما بين الطرفين الإسرائيلي والمصري، تكون فلسطين وقضيتها ثمنًا له، وقد أكد صلاح جوهر ممثل مصر في لجنة الهدنة رغبة عبد الناصر في إيجاد قناة اتصال وتفاهم مع رئيس الحكومة الإسرائيلية، أما بعد الهجوم فقال جملته الشهيرة «It’s off [9]».

انتفض الشارع الفلسطيني في قطاع غزة مارس 1955 على إثر هذه الغارة وتقدم المتظاهرون بعدة مطالب، كان إحداها متعلقًا بتسليح الفلسطينيين في القطاع للدفاع عن أنفسهم، وكانت الإدارة المصرية قد وعدت بالاستجابة لهذا المطلب، خاصة أنها اختارت خيار التصعيد ضد إسرائيل، فالرئيس عبد الناصر لم يقنع بإدانة المجتمع الدولي لهذه العملية، وقال بصدد قرار مجلس الأمن الدولي: «إن مصر يجب أن تعتمد على نفسها، لا على قرارات مجلس الأمن»، وكان ذلك يعني اختيار عبد الناصر لخيار المواجهة، وشن حرب العصابات ضد إسرائيل، وبدا ذلك واضحًا في قوله: «لم يعد لدينا وسيلة لمواجهة إسرائيل، سوى اللغة التي تفهمها، وهي لغة القوة، وأحسن طريقة لمواجهتها هي شن حرب عصابات ضدها»[10].

بدأ التصور النظري للفكرة بأخذ طابعًا عمليًّا، فقامت الحكومة المصرية بتدعيم مكتب حامية غزة بعشر كتائب من الحرس الوطني، وإيكال أمر تشكيل قوات الفدائيين إلى ضابط شاب بُعثَ إلى قطاع غزة عام 1952م برتبة صاغ (رائد) وتولى قيادة مكتب مخابرات قطاع غزة، الصاغ لطفي متولي، واللواء «مصطفى حافظ» صاحب السمعة الطيبة بين زملائه، الذي طالما تناقلوا بكثير من الإعجاب قصة هروبه الجريء من أحد المعتقلات الصهيونية 1948م، كما وضح الباحث «محمد كريم» في كتابه «مصطفى حافظ مؤسس الحركة الفدائية».

الكتيبة 141

بدأ مصطفى حافظ نشاطه بانتقاء عناصر مجموعته الوليدة، فكانت الأولويات للشباب الأكثر كفاءة، ودراية بالمسالك والدروب إلى الأرض المحتلة، قام بزيارة سجن غزة المركزي، وتم استدعاء عدد من العناصر التي سبق لها أن اعتقلت بتهمة اجتياز الحدود، وانتقاء العناصر الجيدة القادرة على العمل ضمن هذه القوة المنوي تشكيلها، تم تدريب العناصر المقترحة للمشاركة في هذه القوة في معسكر قرب مخيم اللاجئين (الشاطئ) على شاطئ البحر، وكان عددهم بضع عشرات، وتم نقلهم في دورات عليا إلى معسكر الجيزة قرب القاهرة، بالتنسيق مع حاكم قطاع غزة عبد الله رفعت، وفي هذا المعسكر زُود الفدائيون بعدد من الأسلحة اللازمة وتم تدريبهم على أساليب قتالية رفيعة المستوى، وتحولت أعداد المقاتلين من حلقات صغيرة إلى فصائل، ومن ثم إلى كتيبة أطلق عليها الكتيبة 141، التحق بها ضابطان من سلاح الهندسة وضابط بحري؛ مما زاد من أساليب التدريب رقيًّا، وكانت متابعة مصطفى حافظ لأفراد الكتيبة وتدريبها اليومي أثر عميق في نفوسهم، فبث فيهم الحماسة وارتقى برجال الكتيبة إلى مستوى عالٍ من الكفاءة يؤهلهم للقيام بعمليات فدائية نوعية وشديدة [11].

ترك حافظ تأثيرًا قويًّا على أفراد الكتيبة الذين افتُتن أفرادها بقائدهم، نظم العديد العمليات التي أنهكت العدو المحتل، افتتح عدة معسكرات للفدائيين، فبعد معسكر الجيزة، افتتح حافظ معسكرين في كل من خان يونس ورفح، وقد بلغ عدد أعضاء كل معسكر 320 – 350 عضوًا؛ فوصل عدد الفدائيين إلى ألف فدائي مدربين ومزودين بأسلحة.

وهكذا لم تنقضِ الخمسة الأشهر الأولى على بدء التدريب، حتى بدأت كلمة «فدائي» تقتحم القاموس السياسي والاجتماعي للقطاع، وحتى بدأ اللاجئون المقاتلون يبلورون الرد ليأخذ شكلًا نضاليًّا فرديًّا إلى حد الخصوصية، فكل الشعوب المستعمرة تقاتل على أرضها ضد مستعمريها، ولكن وحده الفلسطيني يعبر الحدود مقررًا الموت على تراب الأرض المحتلة.

أعلنت الإدارة المصرية العمل على تشكيل كتائب من المتطوعين للعمل على مهمات خاصة، اشترطت بعض الصفات التي يجب أن يتحلى بها المتطوع:

1-أن يكون المرشح على دراية بالأراضي المحتلة، والمسالك الخاصة داخل فلسطين المحتلة.

2- أن يكون من أبناء المنطقة.

3- أن يكون من أصحاب الخبرة العسكرية ولائقًا صحيًّا.

4- أن يلمَّ بالقراءة والكتابة، ويفضل من يعرف اللغة العربية[12].

جاء إلى جانب هذا الإعلان إرشادات من الإدارة للسكان، ونشر تعاليم للجمهور تتعلق بجوانب الدفاع المدني، وتأمين المرافق، وتدريب السكان على عمليات الإنقاذ.

انطلاقة العمل الفدائي

بدأ العمل الفعلي لهذه المجموعات العسكرية في أغسطس 1955م، على رغم أن قرار مصر باللجوء إلى حرب العصابات قد اتخذ قبل ذلك، كما سرد «موشيه دايان» في كتابه «Diary of the Sinai Campaign»، فكانت الفترة الممتدة من مارس 1955م أغسطس 1955م فترة استعداد وتدريب وانتظار الفرصة والوقت المناسب للانطلاقة التي حددت بتاريخ 22 أغسطس1955م.

وقد قُسم قطاع غزة إلى ثلاث مناطق للنشاط الفدائي الفلسطيني: المنطقة الشمالية وضمت مدينة غزة والقرى المحيطة بها، والمنطقة الوسطى وشملت مدينة خان يونس ودير البلح، والمنطقة الجنوبية وشملت رفح وجنوبها.

انطلقت الموجة الأولى بأول عملية عسكرية في 22 أغسطس 1955م، وتميزت بكونها عمليات محدودة لمجموعات صغيرة لا تتجاوز أربعة أشخاص، تقوم بتنفيذ عمليات معينة ثم تعود أدراجها إلى القطاع، وكانت هذه العمليات أقرب إلى استمرارية العمليات السابقة، ولكنها تميزت عنها بأن المجموعة تنطلق نحو هدف معين تنفده ثم تعود بعد قضاء نهار وليل على مسرح العمليات، الذي لم يكن بعيدًا عن خط الهدنة في العادة، وقد وصل عدد عمليات الموجة الأولى ما يزيد عن 180 عملية نفذت خلال الفترة الممتدة من ديسمبر 1955م حتى مارس 1956م، أي بمعدل عمليتين كل ليلة[13].

أما الموجة الثانية من العمليات فقد انطلقت في الفترة بين 8 إبريل 1956م وأغسطس 1956م، جاءت ردًّا على قصف إسرائيل لوسط مدينة غزة، وحدث تطور لنوعية العمليات العسكرية في هذه الموجة، من حيث طبيعتها والعمق الذي وصلت إليه، حيث إنها وصلت إلى مسافة تبعد 18 كم من مطار اللد[14].

أما الموجة الثالثة من العمليات جاءت على خلفية الهجوم الإسرائيلي على خان يونس ليلة 30 أغسطس 1956م، فاستشهد ستة وثلاثون فدائيًا وخمسون جريحًا، وكانت بمثابة تصعيدًا خطير من جانب إسرائيل، جاء رد فعل المقاومة عنيفًا، وكان أقرب ما يكون إلى حالة إعلان حرب، فقد أخذت شكل مجموعات كبيرة توغلت داخل الأرض المحتلة، ونفدت عمليات مختلفة، وقدر عدد الفدائيين الذين اجتازوا الحدود في ليلة واحدة بـ 200 فدائي.

تميزت هذه الموجة عن غيرها بشموليتها فضمت العديد من المقاتلين الذين تسللوا من الضفة الغربية ومن لبنان إلى داخل الأرض المحتلة، بعد تلقيهم أوامر من عسكريين مصريين هناك، وكان مركز القيادة هو غزة، ومنها صدرت الأوامر بأنه في حالة تعذر عودتهم إلى القطاع، فيمكنهم التوجه إلى الضفة الغربية ومنها إلى عمَّان حيث السفارة المصرية هناك، واتسع نطاق العمليات التي نفذتها قوات الفدائيين، فغطت جميع أرجاء فلسطين، وشملت أهدافًا عسكرية متعددة، من معسكرات التجنيد الإسرائيلية، إلى خطوط أنابيب، إلى خزانات مياه إلى مستوطنات.

شكلت تلك العمليات خطرًا مباشرًا على سياسة الاستيطان اليهودية في الجنوب، فنزح عدد كبير من المستوطنين شمالًا باتجاه القدس وتل أبيب؛ بحيث أصبحت هذه المستوطنات مهددة بالانهيار. عمَّ جو من الخوف وعدم الثقة وتراجع المعنويات بشكل كبير على الصعيد في الكيان المحتل، بسبب الخراب الذي حل بحياة البلاد الاقتصادية[15]، وتحولت طرق ومستوطنات جنوب إسرائيل إلى ما يشبه مدن الأشباح كما أصبحت هذه العمليات ونتائجها الشغل الشاغل للمواطن الإسرائيلي ولوسائل الإعلام في تلك الفترة، اعترفت إسرائيل مرارًا بحجم الهجمات ومداها وخطواتها، وتقدمت في كثير من الأحيان بشكاوى إلى مجلس الأمن الدولي، واعترف قادتها بأن المنطقة الجنوبية من فلسطين كاملة حتى القدس تحت رحمة الفدائيين.

اغتيال مصطفى حافظ

جاءت ردود الفعل الإسرائيلية على هذه العمليات في الغالب تصعيدية، واشتملت على قصف لتجمعات سكنية مدنية، كما حدث في قصفها لوسط غزة، والتصعيد السياسي عبر احتجاجاتها المتكررة للأمم المتحدة أو شن حملات إعلامية ضد الفدائيين، ووصفتهم بشتى الأوصاف كالقتلة والإرهابيين، وإلى جانب ذلك لجأت إسرائيل إلى أسلوب التصفية الجسدية لمن وصفتهم بالمحركين لهذه العمليات ويقودون الفدائيون ويوجهونهم، حيث أرسلت إلى المقدم مصطفى حافظ في 20 يوليو 1956م طردًا عبر أحد العاملين معه انفجر بين يديه بعد محاولته لفتحه في مقر قيادته في مبنى سرايا غزة[16]، كما ذكرت الباحثة «خيرية قاسمية، في كتابها «القضية الفلسطينية والصراع العربي الصهيوني»، وأيضًا في مذكرات موشيه دايان.

وجاءت هذه العملية الناجحة بعد سلسلة من العمليات الفاشلة التي قامت بها إسرائيل لاغتيال مصطفى حافظ، وفي اليوم التالي لاغتيال «مصطفى حافظ» وبنفس الطريقة تم اغتيال «صلاح مصطفى» الملحق العسكري للسفارة المصرية في عمَّان في 21 يوليو 1956م، وقع حادث استشهاد مصطفى حافظ على أفراد كتيبته وقْع الصاعقة وتأثروا كثيرًا به، فقد كان بمثابة الأب الروحي لهم، ولم يستطع أي شخص أتى بعده أن يملأ الفراغ الذي تركه «مصطفى حافظ»[17].

ومن الجدير بالذكر أن استشهاد حافظ تسبب في إيقاف عمليات الفدائيين الفلسطينيين التي كانت بداية مرحلة جديدة من الصراع العربي الإسرائيلي، إضافة إلى كونه منعطفًا جديدًا في تاريخ المقاومة الفلسطينية المسلحة بعد حرب 1948م، وفيها تكبدت إسرائيل خسائر عسكرية واقتصادية، تسببت في إرعابهم على مدى طويل.

المراجع
  1. شهداء خالدون، من أرشيف وزارة الحربية المصرية، دائرة الارشاد القومي، سنة 1961م. (وهو غير متاح حاليًا للاطلاع).
  2. كامل علي أحمد، مشكلة اللاجئون العرب داخل أروقة الأمم المتحدة
  3. حسين أبو النمل، قطاع غزة تطورات اقتصادية واجتماعية وسياسية 1948 / 1967م، محمد نصر مهما، مشكلة فلسطين والصراع الدولي (الوضع القانوني لقطاع غزة تحت الإدارة المصرية) شؤون فلسطينية.
  4. جاء في البند 2 من المادة 29 من اتفاقية الهدنة بين مصر وإسرائيل «… لا يجوز أن يفسد خط الهدنة بأي شكل. معنى من المعاني بأنه حد سياسي أو إقليمي، وقد جرى تحديده دون مساس بحقوق أي من فريقي الهدنة أو مطالبة أو موافقة، فيما يتعلق بالتسوية النهائية لقضية فلسطين»، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، «اتفاقيات الهدنة العربية الاسرائيلية وملحقاتها»
  5. صبحي ياسين، حرب العصابات في فلسطين.
  6. «ايهود يعاري» «المصريين والفدائيون».
  7. فرايم تلمي، حروب إسرائيل.
  8.  محمد زكريا العثامنة، مصطفى حافظ ودوره في تأسيس الكتيبة 141 فدائيون: آذار/ مارس 1955م – تموز / يوليو 1956م.
  9. شاريت، يوميات شخصية.
  10. محمد زكريا، مصطفى حافظ ودوره في تأسيس الكتيبة 141.
  11. الكثري، حلقة مفقودة من نضال الشعب الفلسطيني
  12. المرجع السابق.
  13. ياسين، حرب العصابات.
  14. Daian, Saini.
  15. شارون، مذكرات آرئيل.
  16. نفذ الإسرائيليون عن ما يزيد عن 10 عملية انتقامية ضد الفلسطينية ردًا على هذه العمليات في الفترة 1955 – 1956م.
  17. الكثري، حلقة مفقودة من نضال الشعب الفلسطيني