كل الآباء يريدون تعليم أطفالهم كل الأشياء في أسرع وقت ممكن، وغالبًا ما يفشلون ثم يتساءلون، لماذا لا يتعلم طفلي جيدًا وكيف أعلمه بطريقة مثالية؟

للأسباب التالية، العلم يقول لنا، لماذا يتعلم بعض الأبناء بسلاسة؟ ولماذا لا يتعلم الآخرون؟ لأن الذين يتعلمون، يفعلونها في (الوقت المناسب) بالطريقة المناسبة، وقبل أن نتساءل كآباءٍ عن الطريقة المناسبة، علينا أن نعرف أولاً ما هو (الوقت المناسب) لتعليم مهارات كاللغة والقراءة والكتابة والعمليات الحسابية والمعادلات والعلوم واللغات المختلفة.

وفقًا لنظرية النمو العقلي و النمو المرحلي، قدم لنا علماء النفس (بياجيه و ابستين و وايتهيد و فايجوسكي) عبر عشرات الأعوام من العمل والتجارب الشاقة، تسلسلاً زمنيًا -بات حقيقة علمية- للنمو العقلي للأطفال الذي يؤثر بشكل كامل على تطور الذكاء والقابلية لاكتساب المعرفة والتعلُّم والإدراك.

ففي هذه الفترات المُحددة التي سنعرفها الآن، تنمو الدماغ ويتطور العقل ويكتسب الطفل المقدرة العقلية التي تؤهله للانتقال من مستوى عقلي إلى مستوى أعلى يؤهله لتعلُّم مهارات بعينها دون مهارات أخرى، لذا تؤجل وتُهيئ كثيرٌ من الدول المتقدمة -مثل أمريكا وعديد من دول أوروبا وشرق آسيا- مناهجها لتُناسب المرحلة العقلية للأطفال المُتعلمين، فما الذي يحدث إن حاولنا تعليم الطفل مهارة مُعينة في وقت غير مناسب؟ لا يتعلّمها، ويُفسر الأبوان هذا بأن الطفل لا يتعلم، وهو تفسير خاطئ!

والعكس تمامًا يحدث، فإن قدمنا المعلومات للطفل في الوقت المناسب، أبدع في تحصيل كميات كبيرة منها في وقت قصير مما يُبهر الوالدين، فوقت تعلُّم اللغة مختلف عن تعلُّم الحساب، فإن حاولنا تعليمه الحساب في الوقت المناسب لتعليم اللغة، بددنا مجهودنا وخرجنا في النهاية بطفل لا يتعلم، رغم أننا أمام أنفسنا نبذل المجهود المطلوب في عملية التعليم، لكنه مجهود ضائع لأن الوقت غير مناسب.

فما هي مراحل تطور العقل؟ وما هي الفترات المثالية لتعلُّم اللغة والحساب والقراءة وباقي المعارف؟

أولاً تنقسم كل مرحلة إلى وجهين: فترة تنمو فيها الدماغ ويعزز العقل التوصيلات العصبية اللازمة التي تزيد من فاعلية الدماغ واستعدادها لاستقبال ومعالجة المعلومات والقيام بوظائف جديدة، وفترة تتبع هذا النمو يكون الطفل فيها -بما نما بالفعل من عقله- مستعدًا لتلقي المعرفة التي تناسب المرحلة.


المرحلة الأولى: منذ الولادة وحتى نهاية السنة الثانية (0-2)

وهي مرحلة بدء الإدراك والحركة، وفيها تحدث الطفرة العقلية بين الشهر الثالث والشهر العاشر (3-10)، ويصبح الطفل مؤهلاً منذ ذلك الحين وحتى نهاية عامه الثاني لإدراك الوجود والتطور الحركي فيبدأ عقله التنسيق مع مجموعاته العضلية لتنميه قدراته على تعلم أشياء جديدة كالحبو والمشي.

أيضًا في هذه المرحلة تتطور الرؤية الثنائية (بكلتا العينين) تطورًا يسمح للطفل برؤية أفضل، فتكون هذه الفترة مناسبة جدًا للتدريب على الحركة والتمييز بين الألوان والأشكال والأحجام، والتجاوب التدريجي مع مصطلحات اللغة التي تُكرر حوله بكثرة، لكن ليس بسهولة، فحاسة السمع وإن كانت عاملة بشكل عضوي إلا أن برمجتها في المخ تتطور بشكل أكبر في المرحلة القادمة؛ لذا لا يجب على الآباء أن يغضبوا من عدم إدراك صغارهم ما يقولونه من المرة الأولى، فهذه المهارة لها دور قادم.


المرحلة الثانية: منذ نهاية السنة الثانية حتى نهاية السنة السادسة (2-6)

أي محاولة مُبكرة لتعليم اللغة قبل عامين، يجب أن تكون زرعًا لا يُنتظر قطف ثماره في نفس اللحظة، بل بعد بلوغ الطفل عامين يمكننا جني الثمار

وفيها تحدث الطفرة العقلية بين العام الثاني والرابع (2-4)، وهي مرحلة اكتساب اللغة وتتصف هذه المرحلة بتصنيف الأفكار والإدراك القوي وتطور الرؤية بكلتا العينين بشكل كامل، ويُسيطر العقل على السمعَ المتصل باللغة، فيحدث التغيير الكبير فنشاهد هذا الطفل الذي كان بالأمس يتحدث بكلمات مبتورة وهمهمات متفرقة، يتحدث اليوم بطلاقة ونطق سليم ويبني جملاً معقدة.

ما الذي حدث في هذه الأيام القليلة جعل الطفل يتحدث بهذا الشكل المُتطور جدًا؟

طوّر عقله الامتدادات العصبية اللازمة التي تربط مراكز الكلام والسمع في الدماغ بعضها ببعض.

لذا نفهم أن أي محاولة مُبكرة لتعليم اللغة قبل عامين، يجب أن تكون زرعًا لا يُنتظر قطف ثماره في نفس اللحظة، بل بعد بلوغ الطفل عامين يمكننا جني الثمار، لذا لا داعٍ لتسرع الآباء في محاولاتهم فرض تعلم اللغة على الأطفال، بل يكفي مساعدة أطفالهم في اكتساب اللغة بتكرار كلمات محددة قصيرة تُتبع بالوصف الحركي البطيء للكلمة، ولتسعد بما ستحصل عليه من كلمات بسيطة ومخارج مبتورة وفهم بسيط.

أيضًا في نهاية السنة الخامسة تبدأ القراءة في الظهور، فتكون هذه الفترة هي السن المناسبة لتكثيف التعليم في اتجاه القراءة، وأي محاولات لدفع الطفل لتعلم القراءة قبل هذا الوقت (كما يحدث في آلاف الحضانات)، عن طريق تحفيظه المنطوق الصوتي لرسم كلمة (قطة) مثلاً، وتدريبه مرارًا وتكرارًا على نطقها، فهذه ليست قراءة حُرة في الواقع، والطفل لن يستطيع مثلاً قراءة لفظة (طقطقة) بمفرده للمرة الأولى برغم تعلمه قراءة (قطة) وهما ذات الحروف، وهو نفس رأي الأكاديمية الأمريكية لطب الأطفال وذات ما تنصح به بعدم تعليم الأطفال القراءة قبل انتهاء السنة الخامسة، وتؤكد أن أي محاولات لدفع الطفل لتعلم القراءة مُبكرًا لا تعني تميز هذا الطفل في المراحل الدراسية القادمة بل في النهاية سيتساوى مستواه تمامًا والطفل الذي تعلم في الوقت المناسب، بل إن المدفوع مُبكرًا للتعلُّم قد يكره التعليم فيصبح (الذي تعلم في الوقت المناسب) أكثر حبًا وتفوقًا منه.


المرحلة الثالثة: منذ السنة السابعة وحتى نهاية الحادية عشر (7-11)

وفيها تحدث الطفرة العقلية في العام السابع والثامن (7-8) وتتطور مهارات القراءة والتحدث والكتابة وحل المسائل والحساب اليدوي والهندسة وكل العمليات المادية، كما تنمو قوة الملاحظة لدى الأطفال بشكل قوي، فيستطيعون تحصيل كميات ضخمة من العلوم والمنطق والمعلومات العامة والتمييز بين الأشياء وبعضها بدقة.


المرحلة الرابعة: منذ بداية السنة الحادية عشرة حتى نهاية السنة الخامس عشرة (11-15)

وهي مرحلة العمليات العقلية المنطقية، وفيها تحدث الطفرة في الحادية عشر والثانية عشر (11-12) ويكون مناسبًا في هذه المرحلة وما بعدها التركيز على اكتساب اللغات المتعددة، فالقدرات اللغوية والحسابية تصل إلى ذورتها في السنة الحادية عشرة من العمر، فتزدهر مرحلة التفكير ووضع الفرضيات وحل المسائل والمقارنات ويجب أن نلاحظ أن منحنى البراعة في اللغة والعلوم ينتهي عند الخامسة عشرة لذا يجب تحصيل كل ما يمكن تحصيله من اللغات والنظريات الرياضية في هذه المرحلة.

وفي هذه المرحلة يكون النمو عند الإناث ثلاثة أضعافه عند الذكور، ومن هنا نشأ الخطأ الشائع أن البنات أكثر ذكاءً من الذكور، وهو أمر غير صحيح، لأن سرعان ما يُعوض الذكور هذه القفزة الأنثوية في سن السادسة عشرة، حيث يتطورون أضعاف ما فعل الإناث. فيتساوون.

نلاحظ عند الثالثة عشرة والنصف أن منحنى التطور يعود إلى أقل مستوياته، فالقدرات الثلاث السابقة: اللفظية والعددية والتفكير تكون في أدنى معدلاتها، فيفضل الالتفات قليلاً للرياضة والهوايات المُختلفة لبعض الوقت.


المرحلة الخامسة: منذ السنة التاسعة عشرة حتى الواحد والعشرين (19-21)

في هذه المرحلة يكون النمو عند الإناث ثلاثة أضعافه عند الذكور، ومن هنا نشأ الخطأ الشائع أن البنات أكثر ذكاءً من الذكور، وهو أمر غير صحيح

وهي المرحلة التي أضافتها آرلين وسمتها بمرحلة إيجاد المشكلة والوعي الذاتي، وهي فترة النظر للمستقبل والبحث في المشاكل والأسئلة الوجودية وإجاباتها.

وفي النهاية.. خلال أربعين سنة من العمل والجهد المتواصلين، يؤكد لنا (بياجيه) -أحد أكبر خمسة علماء نفس في التاريخ، ذلك الذي يقف في مكانة واحدة بين فرويد ويونج وإدلر- عبر هذه الفترات الزمنية، العلاقة بين (المعرفة والإدراك والمعلومات المُقدمة) و(مراحل تطور الدماغ) و(قابلية الطفل للاستيعاب)، قاطعًا هو ومجموعة ضخمة من العلماء، بأدلة وتجارب علمية كثيرة، أن المعرفة يجب أن تُناسب طور النمو، وأن القدرة على التعلم تتوقف على المرحلة العقلية للطفل. وأنه لا طائل وراء تعليم سابق لأوانه.

وهذا ما عَرِف العالَم المُتقدم، وهذا ما يتبعه الآن في فلسفته التعليمية ومناهجه الدراسية، وهو ما بات لزامًا على الأبوين إدراكه والامتثال له لتنشئه أطفالهم على أسس تربوية سليمة دون ممارسةٍ للضغوط المعتادة التي تُنهكهما مثلما تُنهك الصغير بالضبط، مما يجنبهم وأطفالهم مشاكلَ نفسية عديدة، ويضمن لهم (التعليم السليم في الوقت السليم).

المراجع
  1. مقالات د.سعادة خليل
  2. The Roles of Brain in Human Cognitive Development
  3. Phrenoblysis: special brain and mind growth periods. II. Human mental development.