بينما كان الوالي العثماني يجلس على عرشه فرحًا بمنصبه في مصر، يصور له عقله كيف يجمع المال ويحكم السلطة على الشعب، أتته جموع العلماء والأعيان والقضاة لتقف أمامه تنهره لفعلته ويمسك الشيخ بطرف سجادة العرش هاتفًا بالكلمة التي ظل الوالي تلو الوالي يرتعد منها خوفًا: «انزل يا باشا»، ليحمل الباشا على سفينة إلى الأسيتانة ومعه رسالة إلى السلطان فحواها أن «هذا الوالي ظالم فخلعناه ولترسل غيره».

وبينما كان قاضٍ عالم ينظر في مصالح الخلق وتطبيق الحق في المدرسة الصالحية (دار القضاء بمصر آنذاك)، أتته الأوامر من (قاضي عسكر) بأن يتوقف عن عمله ويلزم بيته فقد تم عزله وكل قضاة المذاهب.

بين المشهدين، تبدو العلاقة بين السلطة والمجتمع في مصر العثمانية ملتبسة، خاصة أن الصورة المأخوذة عن ذلك العصر قاتمة جدًّا، وبحاجة إلى أن ترسم من جديد بشكل أكثر دقة.


السلطة الحاكمة

هي طبقة الأعيان والحكام الذين حكموا البلاد وتمتعوا بمزيد امتيازات وحياة رفاهة غير تلك التي عاشها المصريون، فقد حرصت طبقة الحكام على التمايز عن الشعب، وبخاصة سكان القاهرة الذين بدورهم أيضًا اختلفوا اختلافًا تامٍّا في مستوى رفاهتهم وجودة حياتهم عن سكان الريف، وعلى رأس هذه الفئة يأتي الوالي العثماني، الذي يرسله السلطان بنفسه ليكون عينه ويده في مصر، يدير أمرها وينفذ فيها قراراته وأحكامه، غير أن هذا الوالي سرعان ما فقد سلطته ومكانته مع بداية تعافي المماليك من كبوتهم.

ولأن الحكم العثماني درج على عدم تغيير قوام السلطة الفعلية في البلاد المفتوحة ونظمها، واكتفي بفرض عصا الطاعة والسيطرة على هذه السلطة، فقد احتفظ العثمانيون بالمماليك في مصر، واكتفوا بترويضهم، لكن المماليك سرعان ماعادت قواهم وتجمعوا وبدأوا يعاودون ممارسة سلطتهم حتى صار لهم ما يسمى (الجمعية)، وهو مجلس يعقده المماليك للتشاور في الأمور المهمة ويتخيرون قراراً ويفرض هذا القرار حتى على الوالي نفسه، وكثيرًا ما قتل المماليك الوالي أو عزلوه، حتى صار منصبه في أواخر العصر العثماني منصبًا صوريًّا لا طائل منه، واستكملت هذه السلطة العليا مكانتها بوجود هيئات ومناصب مهمة كـ «وجاق الإنكشارية»، وهم من قاموا بأدوار الشرطة، ووالي القاهرة (الصوباش) الذي يهتم بحراسة القاهرة ونظافتها ومحتسب السوق والقضاء.


القضاء في العصر العثماني

د. عبد الرحيم عبد الرحمن

كان من الطبيعي لسلطة كهذه أن يوليها العثمانيون مكانة خاصة في تخطيطهم وتعاملهم مع البلاد، وبالفعل كان قدر الاهتمام الذي أولاه العثمانيون للقضاء كبيراً جداً حتى سميت عملية سيطرة العثمانيين على القضاء بعملية «العثمنة»، وجرت هذه العملية على مراحل متتالية، فأول الأمر لم يمس سليم الأول القضاء في مصر بشىء وأبقاه على حاله، فكان هناك قضاة أربعة على المذاهب الأربع، وكان المذهب الرئيسي للبلاد هو المذهب الشافعي، والقضاة يمارسون عملهم في المدرسة الصالحية، ولهم عدد من النواب ليس بالقليل، ولهم من السلطة على الشعب الكثير، ولأحكامهم سلطان نافذ، حتى أُرسل خاير باشا بقرار منع وجود وكلاء للقضاة، ثم عَيّن «الُمحضر»، وهو شخص يمثل سلطة قضائية عليا، فلا يسمح لقاضٍ بالبت في قضية إلا بعد عرضها عليه وله شيء من السلطة التنفيذية في تفعيل الأحكام.

وفي 1532 تمت إقالة قضاة مصر الأربعة وتعيين القاضي العثماني سيدي جلبي، وجعل المدرسة الصالحية مقرًّا له وسمي بـ «قاضي القضاة» أو «قاضي عسكر أفندي»، وفي هذه اللحظة صار القضاء المصري تابعًا للقضاء التركي وألغي العمل بالمذاهب الأربعة، وصار المذهب الحنفي هو مذهب القضاء والدولة، وأما المذاهب الأخرى فيمثلها نواب ومساعدون للقاضي يسترشد برأيهم، ووضع للقضاء العثماني في مصر سلم تراتبي تختلف فيه درجات القضاة بين أقاليم وأخرى حتى يكون أعلاهم قضاة القاهرة، على رأسهم قاضي عسكر وجعل للقاضي حق في محاكمة أبناء العربان وعزل صاحب بيت المال والتدخل في قيمة العملة والسلع الأساسية.

غير أن نظام القضاء في العصر العثماني شهد تدهورًا غير معهود، فقد كان للقاضي موارد دخل كبيرة جعلت التنافس على منصبه تنافسًا شديدًا حتى كان من الممكن أن يتم شراء المنصب، ثم ما أن يحوز عليه المشتري حتى يبدأ بجمع الأموال وإهمال العمل بقواعد (قانون نامة) تلك الصحيفة التي أرسلها السلطان سليمان ليقرر فيها كيف تسير الأمور القضائية.


الطبقات الاجتماعية

أما المجتمع المصري، وخاصة مجتمع القاهرة، فقد عاش حياة منفصلة تمامًا عن تلك الصراعات التي تتقد بين قوى السلطة والحكم، فقسم المجتمع إلى «طوائف حرفية» لكل طائفة شيخ يختار بالانتخاب على شرط «ألا يحدث مظالم على أهل الطائفة ولا يرفع الضرائب عليهم»، وكان هذه الشيخ يدير شئون الطائفة ويحل المنازعات بين أهلها ويمنع دخول غيرها فيها، وهناك «نقيب الطائفة» وهو شيخ لطريقة صوفية ينتسب جميع أهل الطائفة إليها وله عليهم السلطة الروحية والدينية.

من بين هذه الطوائف كانت طائفة التجار التي كان لرئيسها اسم خاص، وهو «شاه بندر التجار»، وكان يختار من بين أبناء الطائفة بالانتخاب، على أن يراعى مصالحها ويحل الأزمات بين أبنائها، غير أن التجار قد علا ذكرهم في العصر العثماني مع بداية عودة الرواج التجاري لمصر، فتكونت لدينا أسر تجارية كبرى تملك أصول تجارة بعينها ووكالات ولها حقوق التزام أيضًا، كأسرة الرويعي.

أما علماء الأزهر فلهم شأن آخر، فهم خوف الحكام الدائم وأمان الشعب والعامة، لهم مكانتهم الدينية والعلمية الجليلة، وأيضاً لهم السلطان النافذ على الأمراء قبل العامة، ويكفي أن نذكر أن الشيخ الدردير قاد ثورة شعبية عام 1786، أغلق فيها أبواب الأزهر وحمل الجميع على الدق بالطبول حتى باب الوالي لمّا رُفعت إليه شكوى بالمظالم التي يحدثها المملوك حسين بك. وفي عام 1703 لما شكى العامة للشيخ محمد النشرتى غش العملة، قام على رأسهم إلى الديوان وهدده أن عليه ألا ينحلّ مجلسه إلا وقد رفع المظلمة عن الشعب، وظل التجمهر إلى أن خرج قرار لحل الأزمة، وكان مصدر قوة هؤلاء العلماء استقلالهم المادي الكامل، فهم لهم رواتبهم من الأوقاف وليس لمملوك أو والٍ حينها التدخل في أمورهم.

ثم كانت طائفة أهل الذمة من اليهود والنصارى. فبخلاف النصارى الذين عاشوا مندمجين مع المصريين، كان اليهود يعيشون في حارات وتجمعات منفصلة ويسيطرون على تجارات وأعمال بعينها، خاصة المتعلقة بالمال، فقد سيطروا على صك العملات والصرافة، ولم يتوانوا في إحداث مشكلات كغش العلمة.

أما الرقيق فهم فئة رئيسة في تكوين المجتمع المصري آنذاك، فالرقيق الأبيض المجلوب من كردستان وجورجيا سيتحول إلى مماليك للخدمة بالجيش وجوارٍ سرعان ما سيتم تحريرهن وزواج سادتهن بهن، والرقيق الأسود وهم المجلوبون من السودان فسيكونون للخدمة مدة قليلة ثم يعتقون ويصيرون تبعًا لسيدهم، حتى يصير للسيد الواحد عدد من الأتباع، فجرت عادة عتق الرقيق بشكل كبير في المجتمع حتى كان ثري مثل عبد العزيز السيد حسن الفاسي، يعتق 3 عبيد في اليوم، وسمي تجار الرقيق بأسماء خاصة، فـ «السرجية» هم تجار الرقيق الأبيض، و«الجلّابة» تجار الرقيق الأسود.


الأزمات في العهد العثماني

كان القضاء في ذلك الوقت يقوم بما تقوم به وزارات العدل والداخلية والأوقاف وبعض اختصاصات الوزارات الأخرى في وقتنا الحالي.

وهذا المجتمع لم يسلم طوال العصر العثماني من أزمات متتالية أنهكت قوى الشعب، فكان انخفاض مياه النيل الأزمة الرئيسة المتكررة ومعها يحدث غلاء للأسعار ويستغل التجار الأزمة ويرفعون أسعار الأقوات الأساسية كالقمح والأرز، ففي 10 أغسطس 1601م عهد الوالي علي باشا، حدثت ضائقة أدت بالناس إلى خطف العجين من الأفران وكان علي باشا ممن حاول الاستفادة ببيع القمح للإفرنج بسعر مرتفع، لولا أنه ومع تفاقم الأزمة تدخل العسكر لمنعه من هذا، وأيضًا كانت هناك مشكلة في التلاعب بالعملات وغشها وما سببه ذلك من تدهور للسوق وكساد للسلع.

وبالأخير كانت الصراعات بين البيوت المملوكية الأزمة الرئيسة التي عاشها المصريون، فكانت تنتقل هذه الصراعات إلى الشواع وأمام الحوانيت ويضيع معها آلاف من المصريين لا حول لهم ولا قوة.

وكما كنا قد أشرنا فهذه السمات منها ما كان مشتركًا بين الريف والمدينة، ومنها ما تفردت به المدينة، لكن الأكيد أن الريف في العصر العثماني عاصر أزمة كبيرة وتدهورت أحواله مع زيادة الالتزامات المالية المستحقة على الفلاح وكساد السوق.