لم تنشأ أية إمبراطورية عبر التاريخ إلا برواية ميثولوجيّة فسَّرت قيامها وأعطت لوجودها معنى ارتكزت عليه قوتها ونهضتها وسياستها وغزواتها وتوسعها، وما إن تسقط الإمبراطورية بحُكم قانون التاريخ، حتى تسقط أفكارها التي قامت عليها، أو تتعرض لصدمة كبيرة فيلجأ تابعوها إلى حيل وتفسيرات أخرى لتلك الأفكار لمساعدة أنفسهم على تقبل الهزيمة.

إن كل ثقافة تمتلك قصة أصل فريدة يُمكن لشعبها أن يفخر بها، يُمكن أن تكون هذه القصص دنيوية أحيانًا أو تحمل تفسريًّا منطقيًّا للبدايات، وغالبًا ما تكون مليئة بالعناصر غير الواقعية لإثارة إعجاب المستمع بحسب ما ذكرت الباحثة لورا هاسكل في بحثها تحت عنوان «تطور أسطورة.. رومولوس وريموس»، المنشور في عدد ربيع 2022 من مجلة التاريخ الجامعية بجامعة ماساتشوستس.

مشرق الشمس والإمبراطور الإله

يُمكننا البداية من مشرق الشمس، حيث ساد في اليابان الاعتقاد طوال تاريخ البلد البعيد شبه المعزول لقرون بأن السلالة الإمبراطورية من نسل الآلهة، وأن الإمبراطور ما هو إلا نصف إله يمشي على الأرض.

الأمر يتعدى مجرد تأليه الإمبراطور، فقصة الخلق وبداية الكون والحياة عند اليابانيين مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بفكرة الإمبراطور نصف الإله، ففي كتاب «كوجيكي»، الذي يُعد المصدر الأول للميثولوجيا اليابانية، بدأ العالم مُقسمًا إلى الـ«تاكاماغاهارا» أي «سهول السماء العليا» والـ«أشيهارا نو ناكاتسوكوني» أي «الأرض الوسطى»، كانت السماء مسقط رأس الآلهة التي كانت عزباء لم تتزوج وتحجب أجسادها عن الأنظار، أما الأرض فكانت كبقع زيت تطفو على سطح الماء، ومن هذه البقع ولدت آلهة أخرى على شكل حزم من القصب، كانت هي الأخرى لا تتزوج، ما عدا الإلهين إزانامي وإيزيناجي، ومعنى اسميهما «اللذان يتبادلان الغواية».

أوكلت الآلهة السماوية وبقية الآلهة الأرضية مهمة خلق الأرض لهذين الإلهين، وقدموا لهما رمحًا سماويًّا ألقياه في المحيط من الجسر الأسطوري العائم الذي يربط السماء بالأرض، وبعد أن حركا الرمح في المحيط ثم رفعاه إلى السماء، تقطَّرت من المرح مئات القطرات التي أعطت الجزر المقدسة التي شكَّلت اليابان الحالية.

تعلَّم الإلهان إيزانامي وإيزاناجي التزواج من الضفادع المائية. أثمر ذلك الاقتران إنجاب المزيد من الجزر والآلهة مثل آماتيراسو التي ولدت من عين إيزاناجي اليُسرى وعبر حفيدها نشأت السلالة المقدسة لأباطرة اليابان التي ما زالت تحكم اليابان حتى الآن، وهكذا أضفيت الصبغة الإلهية على الإمبراطور، وأصبح نصف إله.

لكن هذا النصف الإله اضطر تحت وقع القنابل الذرية إلى التجرُّد من صفته الإلهية التي كان يتمتع بها، بل حُرم من سلطاته السياسية أيضًا، وأبقى الأمريكيون المنتصرون على الإمبراطور كرمز لوحدة البلاد التي عاشت بعد ذلك تحت الحماية الأمريكية.

رغم حجم الهزيمة الفادحة التي تعرضت لها اليابان، فقد كان الإيمان بالرواية الإمبراطورية قويًّا لدرجة جعلت ضابطًا يابانيًّا يعيش 30 عامًا في أدغال الفلبين منتظرًا أوامر قائده الذي أمره بالانتظار حتى يعود إليه.

الإمبراطورية الرومانية: الذئبة الأم وتيمة الأخ القاتل

لم يصل المؤرخون إلى اتفاق تام حول نشأة الإمبراطورية الرومانية القديمة، وأقدم ما وصل إلينا عن الأمر كُتب بعد نشأة الإمبراطورية بمئات السنين، وهو محض أسطورة كاملة اتُّفق على هيكلها الأساسي واختُلف حول نهايتها.

أسطورة رومولوس وريموس، التي اعتمدت تيمة الأخ الذي يقتل أخاه، في الغالب بسبب الحقد أو الطمع أو غير ذلك.

تبدأ الأسطورة في منطقة ألبا لونجا في وسط شبه الجزيرة الإيطالية، وتبعد نحو 20 كم جنوب شرق روما، ويُفترض أن أحداث الأسطورة جرت قبل نحو 4 قرون من أول كتابة تتحدث عنها.

العام 794 قبل الميلاد، انتقل الحكم في مملكة ألبا لونجا النواة الأولى للإمبراطورية الرومانية فيما بعد، إلى نوميتور الابن الأكبر للملك بروكا، لكن شقيقه أموليوس انتهز فرصة الفترة الانتقالية ليستولي على الحكم لنفسه فقتل أخاه وجميع أبنائه، وألزم ابنة أخيه ريا سيلفيا بالعذرية الدائمة، ككاهنة في معبد الإله مارس، إله الحرب، الذي أقام علاقة معها، لتُنجب طفلين توأمين، هما رومولوس وريموس، اللذان أصبحا وريثين محتملين للعرش، ومنافسين للملك أموليوس.

ثار غضب الملك فسجن ريا سيلفيا عقابًا لها على إنجاب منافسين له، وأمر بإغراق الطفلين في نهر التيبر للتخلص من أي محاولة مستقبلية لمنافسته على العرش.

أخذ رجال الملك الرضيعين لإغراقهما في النهر، لكن الرعب دخل إلى قلوبهم عندما وجدوا النهر يرتفع فخشوا على أنفسهم الغرق، فتخلصوا من الطفلين عند ضفة النهر، فالتقطت المياه المرتفعة السلة التي كان الطفلان بداخلها وطفت بلطف في اتجاه مجرى النهر حتى توقفت تحت ظل شجرة تين رومانية كبيرة.

مصادفة كانت تبحث ذئبة برية عن المياه، فوجدت التوأمين واعتنت بهما كما لو كانا ابنيها، وبعد فترة وجيزة وجد راعي الذئبة والولدين، فأخذ الطفلين معه إلى زوجته لارنتيا التي عانت من فقدان طفلها، واتخذت قرارها برعاية الطفلين التوأمين، القرار الذي أدى إلى تأسيس روما.

توجد للأسطورة أكثر من رواية، ففي الرواية الأولى الحديث دار حول رعاية الذئبة للطفلين وإرضاعهما، دون الإشارة إلى الراعي وزوجته، ولعدم منطقية الرواية بدأ يُضاف إليها في عصور لاحقة ما يجعلها أكثر تماسكًا ومنطقية، فظهرت شخصيات مثل الراعي وزوجته.

تقول «لورا» إن كل كاتب جديد للأسطورة عبر العصور كان يضيف ويحذف بحسب استيعاب خيال جمهوره وقدرته على تجديد الاهتمام بالأيام الماضية، وتضرب مثالًا بالمخرج ماتيو روفيري الذي أعاد صياغة أسطورة رومولوس وريموس لتُناسب الجمهور العصري العام 2019، في فيلمه The First King: Birth of an Empire أو Romulus v Remus: The First King وتكتشف الباحثة عبر مقارنة الروايات المبكرة مثل تلك التي كتبها ليفيوس وبلوتارخ بطرق سرد القصص عبر الفيلم، كيف تطورت الأسطورة وتكيفت مع جماهير الماضي والحاضر.

الأمة التركية: الذئبة، الأم الباعثة

تتكرر تيمة الأم الذئبة في الميثولوجيا التركية، لكنها عند الأتراك لها أهمية كبيرة للغاية حتى الآن، حيث استوطنت الذئبة داخل العقل التركي عبر قرون طويلة.

عندما قرر الضابط البريطاني هـ. س. أرمسترونج كتابة كتاب عن مصطفى كمال أتاتورك، لم يجد اسمًا أفضل من «الذئب الأغبر» ليُلقبه به، متأثرًا بحضور الذئب في الذاكرة التركية خاصة فيما يتعلق بمحاولات بعث الأمة واستنهاضها، لافتًا إلى أن رأس الذئب الأغبر كانت شعار سليمان شاه زعيم الأتراك العثمانيين الذي جلبهم إلى أراضي آسيا الصغرى قادمين من قلب آسيا الوسطى غرب الصين، بعد أن أجدبت الأرض وأصاب القحط أغلب البلاد الممتدة بين سور الصين بحر قزوين.

تعددت القبائل التركية التي حكمت دولة الكوك تورك وهددت الصين مرارًا، حتى اجتازت جيوش قبائل الهون سور الصين العظيم، وورثتها قبائل الأوار وغيرها، تروي الأسطورة أن دولة عظيمة صاحبة جيش جرار أغارت على قبائل الترك مستهدفة القضاء على جميع الأتراك وعدم الإبقاء عليهم، حتى قتلتهم جميعًا، ولم يتبقَّ سوى ولد واحد فقط، أراد الجنود أن يذيقوه أبشع ألوان العذاب قبل الموت، فقطعوا أطرافه، ورموه في أحد المستنقعات ليلقى مصيره، لتجده ذئبة وتعتني به وتُضمد جراحه وترعاه بين الجبال الشاهقة في وسط آسيا، ليكبر الطفل ويتزوج بالذئبة ويُنجب منها 10 أبناء هم أجداد الأتراك الحاليين بحسب الأسطورة.

نجح أبناء الذئبة في الانتقام من الدولة الباغية التي أعملت في أجدادهم القتل، حتى كادوا يُبادوا لولا الذئبة الشجاعة التي حافظت على بقاء العرق التركي.

الذئب في الميثولوجيا التركية، ليس مجرد حيوان عادي، أو له أهمية خاصة، بل هو واحد من أفراد الشعب، كأنه عاش مع أجدادهم كان يحميهم ويقودهم نحو النصر فهو بمثابة رمز للنصر، وفقًا لما ذكره الدكتور البدري عباس أحمد، في بحثه تحت عنوان «دور الخرافة في أسطورة الملك التركي أوغوز قاغان» الذي نُشر في مجلة كلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة قناة السويس، العدد الثاني والثلاثين، الجزء الثاني.

ويوضح أن الذئب لعب دورًا محوريًّا في جميع انتصارات الأتراك عبر العصور، فكان أحد أجدادهم يتلبس صورته لنصرة أحد أحفاده الفاتحين.

ومن هنا جاء تأثر «أرمسترونج» بالذئب الأغبر عندما تحدث عن مصطفى كمال أتاتورك، ومن هنا ظهرت منظمة الذئاب الرمادية المصنفة إرهابية في عدد من دول العالم، والتي تُعد الذراع المسلحة غير الرسمية لحزب الحركة القومية التركي، وتتخذ من رأس الذئب شعارًا لها، وهكذا تحضر الذئبة في الحاضر كما حضرت في الماضي.