أعلنت منظمة العفو الدولية عن فوز مركز النديم لتأهيل ضحايا العنف والتعذيب بجائزة حقوق الإنسان لعام 2018، بالرغم من تشميع السلطات له في فبراير/ شباط 2017، إلا أن فريق العمل بالمركز قرر تحدي الوضع القائم باستمراره في العمل بشكل غير رسمي، لتكون الجائزة بمثابة الصفعة على وجه الحكم الأمني الغاشم.


البداية كانت 1993

بدأ المركز عمله كشركة مدنية غير هادفة للربح في عام 1993 لتأهيل ضحايا العنف من خلال تقديم الدعم النفسي والقانوني من خلال التقارير الطبية التي يعدها للضحايا، هذا إلى جانب الحملات الإعلامية الموجهة لتحريك الرأي العام ضد كل ما يحد من حرية المجتمع المدني والديمقراطية في مصر، بما في ذلك التعذيب والعنف ضد المرأة بشتى أنواعه، من خلال مساهمة المركز في تأسيس أكثر من 10 مراكز في أنحاء مصر المختلفة للاستماع لضحايا العنف من النساء وتقديم المشورة لهن.

امتد أثر النديم إلى السودان، حيث ساعد المركز على تأسيس المجموعة السودانية لمناهضة التعذيب، كما أن المركز عضو مؤسس بشكبة «أمان» والتي تضم مختلف المراكز والمجموعات العاملة على مناهضة التعذيب في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، لتكون رسالة المركز غير محدودة بالإطار المكاني الذي نشأ فيه، ولكنها تمد لتشمل رسالة عالمية تسعى لمساندة ضحايا التعذيب والعنف وتقديم الدعم لهم دون مقابل، مما يزعج السلطات غير المعنية بقضايا حقوق الإنسان وتتخذ من «الاستثناء» حالة عامة لتبرر أفعالها السلطوية.

كما أن المركز يدرك جيدًا أهمية التوعية الاجتماعية بقضايا التعذيب والعنف ضد المرأة ولا يفصل نفسه عن المجتمع من خلال الاكتفاء بمخاطبة الإعلام الغربي والكيانات الحقوقية، بل يوجه قدرًا كبيرًا من طاقاته للعمل في محافظات مختلفة على التوعية المجتمعية ويصدر الكثير من المنشورات والمقالات والشهادات التي يوثقها في الإعلام المحلي، إذا ارتضى المتضررون ذلك.


شهادات على عصور مصر المظلمة

من خلال البحث عن الشهادات الموثقة بمركز النديم عبر موقعه الإلكتروني؛ نقدم 4 شهادات شاهدة على الظلم الواقع على مصر منذ زمن بعيد.

الشهادة الأولى: بعد مذبحة النجيلة

في الدور السابع بمستشفى قصر العيني الجامعي طفل سوداني فاقد للوعي لا يتجاوز عمره سبع سنوات.. يرقد على سريره ويداه مكبلتين بالكلبشات! في الوحدة بعد منتصف الليل توفي الطفل!

من الشهادات الموثقة بموقع النديم عما حدث للاجئين السودانيين في 29 من ديسمبر/كانون الأول 2005.

نشر الموقع في الثاني من يناير/كانون الثاني لعام 2006 شهادات توثيقية لعدد من اللاجئين السودانيين الذين تعرضوا للضرب أو الاعتقال بعد فض اعتصامهم بميدان مصطفى محمود، فيما عرف لاحقًا بـ«مجزرة اللاجئين السودانيين» في عهد الرئيس المخلوع محمد حسني مبارك، حيث نتج عن الفض مقتل وجرح العشرات من اللاجئين.

توثق الشهادات وضع اللاجئين في مصر في ذلك العهد، وكيفية تعامل الأمن مع الاعتصامات أو الاعتراضات السياسية أو الاجتماعية، حيث كانت القوة تسود أي منطق لحل الأزمات. لم يختلف المنطق كثيرًا على مدار السنوات المختلفة، وإن اختلفت الأعداد والشعارات السياسية، إلا أن النظم الحاكمة المتعاقبة على مصر ترفض دائمًا الاعتراض وتقابله بعنف.

الشهادة الثانية: الداخلية سيباكوا عندنا أمانة

في س 28 قالوا انتوا هتخشوا جوا، دخلونا سجن تحت الأرض، كنت جعان طلبت أكل، اتوضيت وصليت ورحت نايم. اتعرضنا تاني يوم على النيابة وكنا بنفكر إننا خلاص هنمشي دلوقت، لقيتهم بيقولوا 15 يوم .. طب 15 يوم ليه؟ مفيش أي إجابة.
شهادة أحد المعتقلين عن أحداث يوم 28 يونيو/حزيران 2011.

استمر توثيق المركز لحالات التعذيب أثناء وبعد الثورة المصرية، ليكشف عن ممارسات الشرطة وقوات الجيش غير المحترمة لأي حق من حقوق الإنسان. ومن ضمن الشهادات كانت شهادة طالب جامعي عن تظاهرات أهالي شهداء الثورة المصرية يومي 28 و29 يونيو/حزيران 2011 في شارع محمد محمود، والتي قابلها النظام بالعنف المفرط، في سلسلة من الأحداث المتكررة من انتهاك النظام لحق التظاهر.

ويروي الشاهد ما رآه من استخدام للقوة المفرطة من خلال قنابل الغاز والخرطوش ووجود بلطجية بأسلحة بيضاء تهاجم المتظاهرين، ثم واقعة القبض عليه وتهديد أحد الضباط للمعتقلين أثناء ترحيلهم بقوله: «كلكوا هتروحوا ورا الشمس». ثم وصوله إلى س 28 وعرضه على النيابة وحبسه بالسجن الحربي وما رآه من ضرب وإهانة وظروف قاسية، وتعامل العاملون بالسجن الحربي معهم كأمانة من الداخلية.

وانتهت شهادة الطالب قائلاً: «حاسس إن في بيني وبين الداخلية تار بايت»، ليعبر عن شعور جيل بأكمله ذاق مرارة الهزيمة بعد أمل الحرية.

الشهادة الثالثة: التعذيب الجنسي في ميدان التحرير ومحيطه

ياريتهم كانوا قتلونى..اعيش ازاي بعد كده..ما عدش ينفع اعيش تانى بعد اللي حصل..

شهادة أحد النساء المتعرضات للتحرش الجنسي يوم 25 يناير/كانون الثاني 2013.

في العاشر من فبراير/شباط لعام 2013 نشر مركز النديم شهادات حية عن التعذيب الجنسي في ميدان التحرير بداية من يوليو/تموز 2012، ليفتح ملفًا شائكًا لطالما تجاهله العديد من المهتمين بالشأن العام المصري، إلى جانب تصريحات بعض أعضاء حزب الحرية والعدالة التي كانت توجه اللوم للفتيات المعرضات للتعذيب الجنسي في ذلك الوقت.

كانت وقائع التعذيب الجنسي وسيلة مباركية عرفتها المناضلات في عام 2005، بعدما سمحت قوات الداخلية للبلطجية بالتعرض للمتظاهرات أمام نقابة الصحفيين وانتهاك حرمة أجسادهن، موثقين قول أحد الضباط حينها: «علشان تبطلوا تنزلوا مظاهرات تاني». واستمرت تلك الوسيلة لحجب المرأة المصرية عن المجال العام بعد ثورة 25 يناير، حيث أباحت النظم الاستبدادية المتعاقبة على مصر انتهاك أجساد النساء حتى تنأى بنفسها من المعارضة.

الشهادة الرابعة: رسالة .. ربما تكون أخيرة

يسيطر على مشاعري إحساس الظلم والقهر وضعف القوة وقلة الحيلة، ورغم كل ذلك يتغلغل في نفسي يقين بأن الله لن يضيعني، لست أول المظلومين ولن أكون آخرهم. أعلم ذلك جيدًا. وأعلم جيدًا أنني لا أمثل إلا عددًا قليلًا في صف هؤلاء المظاليم، ولكن قررت كتابة هذه الكلمات محاولة مني لإزاحة الكتل الصخرية الضخمة التي تطبق على صدري وتكاد تغتال أنفاسي.

شهادة المعتقل أحمد إسماعيل ثابت كما وثقها مركز النديم في سبتمبر/أيلول 2017.

تلك الرسالة هي آخر شهادة منشورة على موقع النديم في سبتمبر 2017، لمعيد بكلية العلوم الطبية التطبيقية، أحمد إسماعيل ثابت أعتقل في التاسع والعشرين من مارس لعام 2013 بتهمة التخابر، وسط سلسلة من الاعتقالات والاتهامات الملفقة التي نالت من كل من اعترض على ممارسات النظام الممنهجة لإعادة القبضة الأمنية على المجال العام ومواجهة التظاهرات المختلفة بالرصاص الحي والاعتقالات العشوائية.

تحمل رسالة ثابت رسائل مختلفة لكل من المظلومين مثله والظالمين لهم، لا يستجدي فيها المساعدة من أحد، ولكن يشكو حاله بنفس منكسرة ومواقف ثابتة، فيقول: «ستظل لعنة هذا الظلم والقهر تقود هذا البلد من خراب إلى خراب أشد، ومن دمار إلى دمار أشد إلى أن ترد الحقوق إلى أصحابها ويعم العدل سائر الأرجاء».


انتصارات صغيرة وسط أجواء اليأس

في حوار سابق لإضاءات مع الدكتورة عايدة سيف الدولة، أحد مؤسسي مركز النديم، عن سبب غلق السلطات لمركز النديم، قالت: «من المحتمل أن أرشيف 2016 يكون قد ضايق السلطات، بما يحتويه من كم جرائم تم فضحها في هذا التقرير إلى جانب التقارير اللاحقة للمركز»، وأضافت: «إن النظام سيعاقب كل من يحاول لمجرد المحاولة كشف جرائمه والقمع الرهيب الذي تعيشه البلاد، وبالتالي المؤسسات الحقوقية تعد عدوًا لدودًا لدورها في رفع الظلم ومناهضة السلطة».

وسط أجواء اليأس المخيمة على الشأن العام المصري؛ يعتبر خبر فوز مركز النديم بجائزة حقوق الانسان انتصارًا لكل من آمن بالثورة المصرية وشارك في محاربة الظلم الواقع على المجتمع المصري، بكل أشكاله وأنظمته ذات الخلفيات الدينية أو العسكرية.

وبالرغم من غضب السلطة المنصب على المركز فإنه عمل بشكل دؤوب على مدار 25 عامًا لتوثيق حالات التعذيب التي يتعرض لها ضحايا الأنظمة السلطوية، كما اهتم بقضايا العنف ضد المرأة والعنف الأسري، وانتشر في المحافظات وأخذ من التوعية مسارًا لأعماله المختلفة، لتكون جائزة العفو الدولية أبسط تقدير لمجهودات العاملين بالمركز وتنير قدرًا من الظلمة التي يتعرض لها المجتمع في مصر اليوم.