في شارع الأشراف الممتد من ميدان مسجد السيدة نفيسة بنت الحسن، هناك عشرات المشاهد التي تنسب إلى آل بيت النبي.

وأغلب الظن أن هذه المشاهد أو جزءًا كبيرًا منها هي مشاهد رؤية لا تضم رفات الأسماء المكتوبة عليها؛ فالفرق بين الضريح والمشهد أن الأول يضم جثمان صاحب القبر، أما الثاني فهو رمزي يقام تكريمًا لاسم صاحبه فقط.

ويعتقد البعض أن السيدة نفيسة بنت زيد، التي تسمى «نفيسة الكبرى» جثمانها موجود بجوار مقام بنت أخيها صاحبة المقام والمسجد الشهير بالقاهرة، نفيسة بنت الحسن «السيدة نفيسة».

بل بعضهم قال إن السيدة نفيسة صاحبة المقام الكبير هي نفسها نفيسة بنت زيد، وليست نفيسة بنت الحسن كما هو شائع.

الملاحظ أن بعض المتصوفة وبعض الشيعة هم من يروجون لهذه المعلومة، لهدف يبدو وكأنه سياسي، يتعلق بالصراع بين آل البيت وبني أمية.

ماذا قيل عن دفن السيدة نفيسة بنت زيد حفيدة الإمام علي بن أبي طالب في القاهرة؟ وما البعد السياسي المحيط بالأمر؟ هذا ما نتناوله من خلال فحص مجموعة من المصادر التاريخية التي تناولت الأمر.

نفيسة الكبرى ونفيسة الصغرى

البعض يخلط بين نفيسة بنت زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب (نفيسة الكبرى) وبنت أخيها نفيسة بنت الحسن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب (نفيسة الصغرى)، وينسبون الضريح الشهير بمصر إلى نفيسة بنت زيد (الكبرى)، وليس إلى نفيسة بنت الحسن (الصغرى).

يقول ابن عنبة، جمال الدين أحمد بن علي الحسيني، المتوفى سنة 828هـ في كتابه “عمدة الطالب في أنساب آل أبي طالب”، إن زيد بن الحسن، الشهير بـ«زيد الأبلج»، كانت له ابنة اسمها نفيسة، تزوجت الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك بن مروان فولدت منه، وماتت بمصر، ولها هناك قبر يزار، وهي التي يسميها أهل مصر «الست نفيسة» ويعظمون شأنها ويقسمون بها.

ابن عنبة شيعي معروف ولد في العراق، ومات بكرمان في إيران، وهو متأخر لم يعاصر، أو لم يكن قريب العهد بالسيدة نفيسة، سواء الكبرى أو الصغرى.

من المصادر الشيعية أيضًا التي تحدثت عن أن السيدة نفيسة المعروفة بالقاهرة هي نفيسة بنت زيد، كان المرجع الشيعي محمد صادق بحر العلوم، المولود في النجف بالعراق، وذلك في تعليقه على ما ذكره الشيخ أبي نصر سهل بن عبد الله بن داود البخاري، في كتابه “سر السلسلة العلوية”.

حيث تحدث البخاري عن أن نفيسة بنت زيد تزوجت من الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك بن مروان، وأنجبت منه، فعلَّق بحر العلوم وقال: ماتت نفيسة بمصر ولها هناك قبر يزار حتى اليوم، وهي التي يسميها أهل مصر «الست نفيسة» ويعظمون شأنها ويقسمون بها.

وهناك من يرى أن النفيستين موجودتان بالقاهرة، كالأزهري الصوفي الشاذلي، محمد زكي إبراهيم.

حيث يقول في كتابه “مراقد أهل البيت في القاهرة” إن نفيسة الكبرى زوجة الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك بن مروان، كانت قد جاءت مصر معه حين كان واليًا عليها، قبل توليه الخلافة.

ولما تولى الخلافة اختلفت نفيسة معه على حقوق الله عليه لعباده فطَلَّقَهَا؛ فرحلت إلى مصر عند ابنة عمها السيدة سكينة بنت الحسين بن علي، وذلك قبل مجيء بنت أخيها السيدة نفيسة بنت الحسن (الصغرى) بوقت طويل، واستفاضت شهرة صلاحها وتقواها وعلمها وعبادتها وبركاتها، فأمَّهَا أهل مصر، وتبركوا بها كعادتهم مع جميع آل البيت.

وكان عبد الله بن عبد الملك بن مروان أخو مُطَلِّقها، هو والي مصر حينئذٍ، فوهبها دارًا في شمال مصر القديمة الشرقي، والمعروف أن هذه الدار التي وُهِبت لنفيسة الكبرى كانت مجاورة أو ملحقة بدار أم هانئ التي نزلت فيها نفيسة الصغرى فيما بعد، ثم اشتهرت بمعبد السيدة نفيسة.

وقد دفنت في هذه الدار (أو ذلك المعبد) السيدة نفيسة الكبرى، وهي التي يزورها الناس، إذ يزورون هذا المكان باسم المعبد، ولا يكاد جمهورهم يفرق بين النفيستين والمشهدين، بل لعل أغلب الناس لا يعرف أن بمصر نفيسة صغرى ونفيسة كبرى.

لم يوضح محمد زكي إبراهيم من أين حصَّل معلوماته، فلم يذكر مرجعًا تاريخيًّا واحدًا.

ادعاءات شيعية صوفية

ما سبق يبدو ادعاءً شيعيًّا صوفيًّا، ضعيف التوثيق التاريخي.. كيف بدأت الحكاية؟

ذكر المؤرخ المصري نور الدين السخاوي الحنفي، الذي عاش في النصف الأخير من القرن التاسع الهجري، في موسوعته «تحفة الطلاب» التي تضم خريطة بأسماء مشاهد وقبور آل البيت والصحابة الموجودة في مصر وقتها، أن البعض يعتقد أن نفيسة بنت زيد موجودة في المكان الذي كان يعرف بالمراغة، بالقرب من مسجد السيدة نفيسة المعروف حاليًّا.

هذا الاعتقاد جاء بسبب حادث بسيط وهو أن جماعة أرادوا دفن ميت لهم بهذا المكان الذي يحوي مقابر عديدة، وأثناء حفرهم وجدوا لوحًا رخاميًّا مكتوبًا عليه «هذا قبر السيدة نفيسة رضي الله عنها».

فاعتقد البعض أن اللوح كان على قبر السيدة نفيسة بنت الحسن المعروفة، بينما ظن آخرون أنه قبر عمتها السيدة نفيسة بنت زيد الأبلج، حفيدة الإمام الحسن بن علي بن أبي طالب.

ويعلق السخاوي على رواية قدوم نفيسة بنت زيد إلى مصر، ويوضح أن الأمر محل شك.

فيقول إنها كانت قد تزوجت الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك بن مروان، ويحتمل أنه حين طلقها قدمت إلى مصر وتوفيت بها، وقال بعضهم إنها ماتت في عصمته، ولم يثبت أين ماتت بمصر أو بالشام أو غيرهما، بحسب السخاوي.

أما المؤرخ المصري الأشهر تقي الدين المقريزي (توفي في 845هـ) فيقول في “الخطط” إن بمصر 4 مواضع يعتقد المصريون أن الدعاء مستجاب بها، أولها قبر السيدة نفيسة بنت الحسن، بجانب ثلاثة مواضع أخرى، وهي: «سجن النبي يوسف»، «مسجد موسى»، والمخدع الذي على يسار المصلى في قبلة «مسجد الأقدام» بالقرافة. ولم يذكر المقريزي أن نفيسة بنت زيد موجودة، أو يعرفها الناس في مصر من الأساس.

والاعتقاد بأن السيدة نفيسة صاحبة المقام الشهير في القاهرة، هي نفيسة بنت الحسن قال به حشد من المؤرخين، بخلاف المقريزي، ومنهم ابن كثير في «البداية والنهاية»، والذهبي في «سير أعلام النبلاء»، والدمشقي في «شذرات الذهب»، وابن خلكان في «وفيات الأعيان»، وغيرهم، وهو ما عليه اعتقاد عوام الناس أيضًا.

والأهم من كل هؤلاء أن الواقدي، وهو أقدم المؤرخين، وأقربهم إلى زمن نفيسة بنت زيد، قال في «المغازي» إن نفيسة بنت زيد تزوجت الوليد بن عبد الملك و«ماتت عنده»!

الواقدي ولد في 130هـ توفي عام 207هـ، ونفيسة بنت زيد عاشت في النصف الثاني من القرن الهجري الأول، أي إنه كان أقرب المؤرخين عهدًا بها، من كل من تحدثوا بعد ذلك، وخلطوا بينها وبين نفيسة بنت الحسن.

ومن كلام الواقدي والمؤرخين المصريين وغير المصريين، يتبين أن الرأي القائل بوجود نفيسة بنت زيد في القاهرة ضعيف جدًّا، ويمكننا الشك في وجود شبهة سياسية وراء دسه على تاريخها.

ادعاء شيعي: محاولة لإنقاذ نقاء المظلومية

هناك محاولة لرسم بطولة للسيدة نفيسة بنت زيد، ونلمس ذلك في عبارة «اختلفت نفيسة معه على حقوق الله عليه لعباده فطَلَّقَهَا» التي قالها محمد زكي إبراهيم (توفي عام 1998م) دون أن يوضح أي مؤرخ قال ذلك، وأي حقوق تلك التي اختلفت عليها السيدة نفيسة مع الوليد؟

الصراع معروف تاريخيًّا بين آل البيت النبوي، ولا سيما الفرع العلوي (أبناء وأحفاد علي بن أبي طالب)، وبين بني أمية، وهناك مذابح ارتكبت بحق آل البيت بسبب هذا الصراع.

ومن الشذوذ أن تتزوج نساء آل البيت من قادة أمويين نكلوا بإخوانهن، إذ كيف تتزوج الضحية من الجلاد وتنجب منه وتعيش معه حياة طبيعية؟ كيف تنسى دماء الحسين ومن ساروا على دربه؟ وبالتالي فإن زواج نفيسة بنت زيد من الوليد مسألة تلوِّث نقاء المظلومية التي يرفعها الشيعة.

هذا الشذوذ عن المظلومية يجعل حكاية نفيسة بنت زيد «اختلفت مع الوليد على حقوق الله فطلقها، ورحلت إلى مصر»، تلقى هوى لدى بعضهم، لتبدو نفيسة بطلة من أبطال آل البيت الثائرات ضد الأمويين.

ولكن كما نقلنا عن مؤرخين فإن هذا لم يحدث على الأرجح، بل بالرجوع للأحداث نلمس تناقضًا كبيرًا مع هذا الاتجاه.

فلم تكن نفيسة وحدها، بل سبقتها من آل البيت بنت عمها زينب بنت الحسن المثنى بن الحسن بن علي بن أبي طالب إلى الزواج من الوليد بن عبد الملك وطلقها، حسبما يذكر ابن طباطبا (توفي في 478هـ) في كتابه «أبناء الإمام في مصر والشام».

وقصة زواج نفيسة بنت زيد من الوليد تبدو وكأنها كانت ضمن صفقة بين والدها زيد بن الحسن وبين الوليد بن عبد الملك، حسبما نفهم من حكاية ذكرها ابن عدي الجرجاني (توفي في 365هـ) في «ضعفاء الرجال»، وكذلك الإمام ابن حجر العسقلاني في «تهذيب التهذيب»، و«تقريب التهذيب»، والصفدي في «الوافي بالوفيات».

الحكاية مفادها أن خصومة وقعت بين زيد بن الحسن بن علي، وبين ابن عمه أبي هاشم عبد الله بن محمد بن الحنفية بن علي بن أبي طالب، بسبب «صَدَقات الخُمْس» التي كان بيت المال الأموي يوزعها على أولاد وأحفاد علي بن أبي طالب.

وكان المسئول عن توزيع هذه العطايا في زمن الوليد بن عبد الملك هو زيد بن الحسن، فنازعه أبو هاشم وقال: أنت تعلم أني وإياك في النسب سواء إلى جدنا علي، وإن كانت فاطمة لم تلدني وولدتك، فإن هذه الصَدَقَة لعلي وليست لفاطمة، وأنا أفقه منك وأعلم بالكتاب والسنة.

طالت المنازعة بينهما فخرج زيد من المدينة المنورة إلى الوليد بدمشق، ووشى بأبي هاشم عنده، وقال للوليد إن لأبي هاشم شيعة بالعراق يتخذونه إمامًا وإنه يدعو لنفسه بالخلافة.

نتيجة لهذه الشكوى تزوج الوليد من نفيسة بنت زيد، فصارت لزيد حماية من الخليفة ضد ابن عمه (ابن الحنفية)، وللوليد نفوذ ناعم داخل آل البيت العلوي المعادي له.

وفي المقابل أحضر الوليد أبا هاشم وسَجَنه، وظل حبيسًا إلى أن توسط في أمره علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، فقال: يا أمير المؤمنين، ما بال آل أبي بكر وعمر وآل عثمان يتقربون بآبائهم فيُكرَمون، وآل رسول الله يتقربون به فلا ينفعهم ذلك؟!

وأكمل علي: لمَ حبست ابن عمي عبد الله بن محمد طول هذه المدة؟ فرَدَّ الوليد: بقول ابن عمكما زيد بن الحسن!

فقال علي بن الحسين: أوما يمكن أن يكون بين ابني العم منازعة ووحشة كما يكون بين الأقارب، فيكذب أحدهما على الآخر، وهذا كان بينهما كذا وكذا؟! فاقتنع الوليد بأن زيدًا كان يشي بابن عمه وخلَّى سبيل أبي هاشم.

وكان لآل البيت صدقة توزع عليهم من بيت المال تسمى «الخُمْس»، منصوص عليها شرعًا بحكم آية الأنفال «وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ»، وآية الحشر: «مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ».

فذوو القربى المقصودون هم أقارب النبي (آل البيت)، وكان الأمويون والعباسيون يدفعون لهم تلك الصدقات.

ومسألة زواج الهاشميات من أمويين ما زالت تثير حساسية سنية شيعية، فهناك آراء شيعية تروج إلى أن زيجات الهاشميات من أمويين كانت تتم بالإكراه، ويستندون برأي نسبه ابن سعد إلى محمد بن الحنفية، حيث قال عن الأمويين: «يذبحون أبناءنا وينكحون نساءنا بغير أمرنا».

ولكن اللافت أن في رواية ابن سعد سند شيعي، إذ إنه نقل المقولة عن «الفضل بن دكين»، وهو شيعي معروف، إذ قال عنه الذهبي «يتشيع ولا يغلو».

وهذه الردود على مسألة زواج الهاشميات من أمويين تبين أن الأمر كان شائعًا، وعمومًا لم تكن العلاقة بين آل البيت وتحديدًا الفرع العلوي دائمًا سيئة مع الأمويين (يفترض أنهم ألد أعدائهم)، أو العباسيين الذين انتزعوا الحكم من بني أمية، رغم ما يعرف وما هو موثق عن المذابح التي ارتكبت ضد أبناء وأحفاد علي بن أبي طالب.

فبجانب ما ذكرناه عن نفيسة بنت زيد وأبيها، وبنت عمها زينب، نجد مصالح سياسية، فمثلًا كان الحسن بن زيد (شقيق نفيسة بنت زيد، ووالد السيدة نفيسة الصغرى صاحبة المقام الشهير بالقاهرة) واليًا على المدينة المنورة، بتكليف من الخليفة العباسي أبي جعفر المنصور، المؤسس الحقيقي للدولة العباسية، حسبما تتفق المصادر ومنها «الطبقات الكبرى» لابن سعد.

جاء ذلك بعد أن بايع الحسن العباسيين، خلافًا لما كان عليه رأي أغلب العلويين، الذين ثاروا على العباسيين أكثر من مرة، ومنها ما كان في حياة الحسن بن زيد، بزعامة محمد النفس الزكية، والذي قُتل بعد معركة بينه وأنصاره، وبين الجيش العباسي في المدينة المنورة، وانتهت بالتنكيل به وبمن معه عام 145هـ.

ويستفاد من ذلك أن العلويين لم يكونوا دائمًا، أو جميعهم، في حالة ثورة ضد الأمويين أو العباسيين من بعدهم، بل كان بعض آل البيت يتحالف معهم، ويصاهرهم، وهو أمر يبدو غير محبب لأنصار المظلومية على طول الخط، فكان دس حكاية طلاق نفيسة بنت زيد من الوليد بن عبد الملك، وقدومها لمصر، في محاولة لإنقاذ نقاء المظلومية.