محتوى مترجم
المصدر
London Review Of Books
التاريخ
2016/06/02
الكاتب
نعومي كلاين

الجزء الأولالجزء الثاني

(5)

ومثلما تتبع القنابل النفط، وتتبع الطائرات الموجهة عن بعد الجفاف، تتبع القوارب كليهما: قوارب مكدسة باللاجئين الذين يتركون بيوتهم الواقعة على خط الجفاف الذي دمرته الحرب والجفاف. لنجد أن أدوات نزع الإنسانية عن الآخر، تلك الأدوات التي تبرر القنابل والطائرات الموجهة عن بعد، يجري استعمالها مع هؤلاء المهاجرين، فيتم تصوير حاجتهم إلى الأمن على أنها تهديد لنا، ورحلتهم اليائسة على أنها نوع من الغزو العسكري.

إن التكتيكات التي تم صقلها في الضفة الغربية ومناطق الاستيطان الأخرى تشق طريقها إلى أمريكا الشمالية وأوروبا. وفي معرض الترويج لجداره الحدودي مع المكسيك، يطيب لدونالد ترامب استخدام هذه العبارة: «سلوا إسرائيل، إن الجدار يفي بالغرض». إن المخيمات تُزال بالجرارات في كاليه، ويغرق الآلاف في البحر المتوسط، وتحتجز الحكومة الأسترالية الناجين من الحروب والأنظمة الاستبدادية في معسكرات على جزر ناورو ومانوس النائية.

أما عن الظروف في «ناورو»، فهي محبطة إلى درجة توفي معها مهاجر إيراني بعد أن أضرم النيران في نفسه في محاولة لجذب انتباه العالم، ثم تبعته شابة صومالية تبلغ من العمر ٢١ بعد أيام معدودة بنفس الطريقة. لكن رئيس الوزراء الأسترالي مالكولم تورنبول خرج على العالم بتحذير وجهه إلى الأستراليين من خطورة ذرف الدموع أمام تلك الحوادث، وطالبهم بالتزام الوضوح والحزم فيما يتعلق بالمصالح الوطنية.

لذا، نجد أن جزيرة ناورو جديرة بالتذكر في المرة القادمة التي يعلن فيها كاتب عامود في مجلة مردوخ – كما فعلت كاتي هوبكينز العام الماضي – بأن الوقت قد حان لتسلك بريطانيا طريق أستراليا و«تستدعي البواخر الحربية، وتجبر المهاجرين على العودة إلى سواحلهم وحرق قواربهم».

كما أن لناورو قيمة رمزية أخرى، فهي إحدى جزر المحيط الهادئ المعرضة بشدة إلى خطر ارتفاع منسوب مياه البحر. إن سكانها الذين شهدوا بيوتهم تصير سجونًا للآخرين، ربما يضطرون إلى القيام بالهجرة. لقد تم استدعاء لاجئي مناخ الغد، لشغل وظيفة حراس سجن اليوم.

علينا استيعاب أن ما يحدث في «ناورو»، وما يحدث لها هي صور مختلفة من الشيء نفسه. فالثقافة التي لا ترى إلا قيمة ضئيلة لحياة الأسود أو البني حتى أنها مستعدة لإشاحة النظر بعيدًا بينما البشر يختفون تحت الأمواج، أو يضرمون النار في أنفسهم في معسكرات الاعتقال، ستكون مستعدة أيضًا لترك البلاد التي يعيش فيها ذوو البشرة السوداء والبنية تختفي أسفل المياه، أو تتصحر في القيظ الحارق.

عندما يحدث ذلك، سيتم تسخير نظريات التراتبية الإنسانية – عن ضرورة الاعتناء بأنفسنا أولا – لتسويغ تلك القرارات الوحشية. بل نحن نتولى التسويغ بالفعل، ولو بشكل ضمني. بالرغم من أن التغير المناخي سيصبح في النهاية خطرًا وجوديًا يهدد كل البشرية، فإننا ندرك أنه يهدد الفقراء على المدى القريب أولاً، سواء كانوا ملقَيْن فوق أسطح منازل نيو أورليانز خلال إعصار كاترينا، أو بين الـ ٣٦ مليون الذين يعانون من الجوع نتيجة للجفاف في جنوب وشرق أفريقيا، حسب إحصائيات الأمم المتحدة.


(6)

إن الثقافة التي لا ترى إلا قيمة ضئيلة لحياة الأسود أو البني، ستكون مستعدة أيضًا لترك البلاد التي يعيشون فيها، أو تتصحر في القيظ الحارق.

إنها ضرورة ملحة، ضرورة حالية، لا مستقبلية، لكننا لا نتصرف وفق ذلك. ينص اتفاق باريس على إبقاء الاحتباس الحراري تحت °٢ سيليزيوس، وهو قرار شديد الطيش والتهور. لقد دعته الوفود الأفريقية بـ«حكم الإعدام»، جرى ذلك في كوبنهاجن عندما تم الإعلان عنه عام ٢٠٠٩، فمطلب عديد من الدول الجزرية المنخفضة كان °١.٥، وهو الحد الأدنى اللازم لاستمرار الحياة.

لا مجال لمواجهة مشكلة المناخ على أنها مشكلة تكنوقراطية منعزلة، بل يجب تصورها في سياق التقشف والخصخصة، والكولونيالية والعسكرية، وأنظمة الآخروية المختلفة.

أسفر ذلك عن إضافة فقرة إلى اتفاق باريس في الدقيقة الأخيرة، تقول إن الدول ستواصل بذل الجهد لقصر ارتفاع درجة الحرارة على °١.٥ سيليزيوس. لكن الأمر لا يقتصر على كونها فقرة غير ملزمة، بل يتعدى إلى كونها كذبة: نحن لا نبذل هذه الجهود إطلاقًا. تضغط الحكومات التي وقعت هذا الاتفاق نحو مزيد من عمليات التصديع والاستثمار في الرمال النفطية، وهو ما يتعارض تمامًا مع حاجز الـ °٢، ناهيك عن الـ °١.٥. وذلك يجري لأن أغنى البشر في أغنى بلاد العالم يظنون أن الأمور ستكون على ما يرام، وأن شخصًا آخر سيسيطر على أشد المخاطر، فحتى إذا وصل التغير المناخي إلى أبواب منازلهم، سيتولى أحدهم الاهتمام بهم.

لكن إن كانوا مخطئين فستسوء الأمور جدًا. لقد حظينا بإطلالة خاطفة على المستقبل عندما اكتسحت الفيضانات إنجلترا خلال ديسمبر/كانون الأول ويناير/كانون الثاني الماضي، مغرقة ١٦٠٠٠ منزل. لم تتعرض تلك الأحياء إلى أشد شهور ديسمبر رطوبة في تاريخها فقط، بل كانت تواجه واقع شنت فيه الحكومة هجومًا ضاريًا على الهيئات العامة والمجالس المحلية التي تقع على الخطوط الأمامية لمواجهة الفيضانات.

هكذا نتفهم رغبة الكثيرين في الكف عن مناقشة ذلك الفشل، والانتقال إلى موضوع آخر. فهم يسألون: لماذا تنفق بريطانيا الأموال الطائلة على اللاجئين والمساعدات الخارجية بينما يتوجب عليها الاهتمام بمشاكلها الخاصة؟، فنقرأ في الديلي ميل «دعك من المساعدات الأجنبية، ماذا عن المعونات الوطنية؟»، وتطالب افتتاحية التيليجراف «لماذا يتوجب على دافعي الضرائب البريطانيين مواصلة الإسهام في أنظمة السيطرة على الفيضانات بالخارج بينما هناك حاجة إلى المال هنا؟».

لا أدري، ربما لأن بريطانيا هي من اخترع المحرك البخاري المعتمد على الفحم، وقامت بحرق الوقود الحفري على نطاق صناعي لمدة أطول من أي أمة أخرى في الكوكب؟. لكني أختلف مع ذلك، فالمقصود هو أن هذه كانت لحظة مناسبة لنتفهم فيها أننا جميعًا معرضون لآثار التغير المناخي، وعلينا جميعًا بذل الجهود والتكاتف معًا. لكن ذلك لم يحدث؛ لأن التغير المناخي لا يتعلق فقط بدرجات أعلى من حرارة ومزيد من البلل: بل يتعلق أيضًا – فيما وراء نموذجنا الاقتصادي والسياسي – بدرجات أعلى من الحقارة ومزيد من القبح.

إن أهم درس نتعلمه من كل ذلك؛ أنه لا مجال لمواجهة مشكلة المناخ على أنها مشكلة تكنوقراطية منعزلة، بل يجب تصورها في سياق التقشف والخصخصة، والكولونيالية والعسكرية، وأنظمة الآخروية المختلفة اللازمة لتعزيز كل ذلك. إن العلاقات والتقاطعات بينها جلية، ومع ذلك فغالبًا ما تواجه بتشتت.

نادرًا ما يتحدث المناهضون للتقشف عن تغير المناخ، كذلك يندر أن يتحدث المهتمون بالتغير المناخي عن الحرب والاستيطان. نحن لا نربط بين الأسلحة التي تزهق أرواح السود في شوارع الولايات المتحدة وأقسام الشرطة، والقوى الأشد فتكًا التي تبيد أعدادًا هائلة من السود في الأراضي القاحلة والقوارب الهشة حول العالم.

وأنا أزعم أن التغلب على هذا الانفصال – المغذي للخيوط التي تربط بين مختلف قضايانا وحركاتنا وبعضها – هو المهمة الأكثر إلحاحًا بالنسبة لأي مهتم بالعدالة الاجتماعية والاقتصادية، فهو السبيل الوحيد لتكوين قوى مضادة قوية كفاية للانتصار على القوى التي تحفظ بقاء الوضع الحالي، شديد الربحية وغير المحتمل في الوقت ذاته. يعمل التغير المناخي كمحفز لكثير من أمراضنا الاجتماعية – عدم المساواة، والحروب، والعنصرية – إلا أنه قد يكون محفزًا لما هو عكس ذلك؛ أي القوى الساعية نحو العدالة الاجتماعية والاقتصادية، والقوى المناهضة للعسكرية.

لا شك أن الأزمة المناخية – بتعريضها الجنس البشري إلى خطر وجودي ووضعنا في مواجهة حد زمني صارم وقاسٍ مبني على أسس علمية – قد تكون المحفز الضروري لتوحيد الكثير من حركاتنا القوية، يجمعها إيمان بالقيمة والأهمية المتأصلة في جميع البشر، ويوحدها رفض عقلية مناطق التضحية سواء البشرية منها أو الجغرافية. نحن نواجه العديد من الأزمات المتداخلة والمتقاطعة التي لا يسعنا إصلاحها كل واحدة على حدة. نحن نحتاج إلى حلول متكاملة، حلول تقلل من الانبعاثات بصورة جذرية، بينما تخلق عددًا ضخمًا من الوظائف النقابية الجيدة، وتوفر عدالة حقيقية للأكثر تضررًا وإقصاءً من قبل الاقتصاد الاستخراجي (extractive economy) الحالي.

توفي إدوارد سعيد في سنة غزو العراق، ورأى مكتباتها ومتاحفها تنهب، بينما وزارة البترول العراقية تؤمن بحراسة صارمة. ووسط هذه الاعتداءات، وجد الأمل في الحركات العالمية المناهضة للحرب، كذا الأشكال الجديدة للتواصل الشعبي التي أتاحتها التكنولوجيا. لقد لاحظ إدوارد سعيد «وجود مجتمعات بديلة حول العالم، تتولى إعلامها مصادر أخبار بديلة، واعية تمامًا بالدوافع البيئية، والحقوقية، والتحررية التي تربط بيننا في هذا الكوكب الصغير». كانت رؤيته تتضمن مساحة حتى لمعانقي الأشجار.

ولقد تذكرت هذه الكلمات مؤخرًا في أثناء قراءتي عن فيضانات إنجلترا. فوسط كل محاولات التضحية بكباش الفداء، وأصابع الاتهام الموجهة في كل اتجاه، صادفتُ منشورًا لرجل يدعى ليام كوكس، كان منزعجًا من الطريقة التي يوظف بها الإعلام الكارثة من أجل تأجيج المشاعر المعادية للأجانب، وقد قال:

أنا أعيش في مدينة هيبدين بريدج في يوركشاير، إحدى أكثر الأماكن تضررًا من الفيضانات. الأمور مأساوية، لقد غرق كل شيء. إلا أني مازلت حيًا. أنا في مأمن، وأسرتي سالمة، نحن لا نحيا في رعب، كما أنني حر، ولا تتطاير حولنا طلقات نارية، ولا تنفجر قنابل، ولست مجبرًا على هجر منزلي، أما أغنى الدول فلا تغض بصرها عني، ولا ينتقدني سكانها. عليكم جميعًا أيها الأغبياء الذين تعانون من رهاب الأجانب، وتثرثرون حول الأموال التي يجدر بنا إنفاقها على احتياجاتنا، عليكم أن تتأملوا أنفسكم عن قرب في المرأة، وأطلب منكم طرح سؤال واحد هام على أنفسكم: هل أنا إنسان شريف ومحترم؟؛ لأن الوطن ليس بريطانيا وحدها، بل الوطن هو كل بقعة من هذا الكوكب.
أعتقد أن هذه جملة ختامية لائقة وكافية.