تعددت القراءات التأويلية في العالم العربي منذ سقوط خطاب النهضة في ستينيات القرن الماضي، كتفاعل مع معطى حضاري جديد، يقرأ الواقع العربي بمقاربات أكثر حداثة وراهنية. ينتمي مشروع نصر حامد أبو زيد إلى هذا الأفق، وهو وإن كان ليس مشروعا واضح المعالم، لكن إعادة بنائه تسعفنا بـ «نظرية في التأويل».

تنتمي هذه الورقة إذن لسؤال التأويل في الدراسات العربية المعاصرة، متخذة من مشروع نصر حامد أبو زيد ميدانا لها، ومقتصرة في الوقت نفسه على سؤال المشروعية.

كيف رافع أبو زيد عن التأويل كممارسة مشروعة في الثقافة العربية المعاصرة؟ هذا السؤال المحوري الذي يضفي المعنى والراهنية على جهد أبي زيد، نحاول أن نجتلي أغواره عبر تخصيص الجزء الأول من هذا المقال لعرض المبحث الأول: في العلاقة بين مفهومي «التفسير والتأويل»، والمبحث الثاني: في «المقاربات التأويلية للمتقدمين»، بينما نخصص الجزء الثاني للجهود التأويلية المعاصرة، بدءا بـ «نظرية الهرمنيوطيقا المعاصرة»، مرورا بنقد أبي زيد لـ «المشاريع التأويلية العربية المعاصرة»، وانتهاء بعرض «نموذج تأويلي» لأبي زيد.

هي خارطة طريق إذن لتبيئة الممارسة التأويلية في الثقافة العربية وإعادة الاعتبار لها، فهل كان مشروع أبي زيد كـ «إحداث لغة مقررة بين أهلها»؟ أم أن للتأويل طاقة تسمح له بالانفتاح على كل الثقافات والتعايش معها؟


1. بين التفسير والتأويل: جدل المصطلح

يمثل اهتمام نصر بإعادة الاعتبار للتأويل نقطة الانطلاق في مقاربته التأويلية. فالتأويل كمقاربة لفهم النص الديني كان لها حضور متميز في أحضان الثقافة الإسلامية.

ويتحدد التأويل كمفهوم في التراث الإسلامي بمقابلة مفهوم التفسير. وهي مقابلة لا تخلو من حكم قيمي، فالتراث يعلي من شأن التفسير «الموضوعي» ويقلل من شأن التأويل «الذاتي». ما العلاقة إذن بين «التفسير» و«التأويل» التراثيين؟

تبرز إشكالية التأويل في التراث كمقابلة بين نوعين من التفسير، التفسير الموضوعي الذي يدعي أن بإمكان المفسر أن يتجاوز هموم واقعه للوصول إلى فهم النص كما فهمه المعاصرون لنزوله، من خلال الاكتفاء بالمعطيات اللغوية والتاريخية التي يتضمنها النص. في مقابل تفسير ذاتي يرى أن على المفسر أن ينطلق من أسئلة راهنة ليبحث في النص عما يسندها ويبررها. وهكذا، ينشأ لنا تفسيران، تفسير يلغي المفسِّر لصالح النص، وحقائقه اللغوية والتاريخية، وتفسير يقيم الوصل بينهما. تفسير يرافع لصالح المرويات التاريخية، للتفسير بالمأثور، واتجاه يستميت لصالح التفسير بالرأي، لصالح التأويل [إشكاليات القراءة وآليات التأويل، 15].

وعلى الرغم من صعوبة التفريق بين الاتجاهين من زاوية الممارسة العملية، فإن الاختلاف بينهما انتهى إلى فصل نظري، تبوأ فيه التفسير كممارسة موضوعية في فهم النص الديني، المكانة الأسمى في التراث.[1]

وأبو زيد في إطار تأسيس مشروعية للتأويل لم يكن ليرتضي هذه النتيجة، فراح يبحث في تطورها التاريخي، وعلاقتها بالسياسي والاجتماعي، تماشيا مع نظرته في أن القراءة الواعية للتراث لابد أن تهتم بالجوانب الثلاث: الشرط الاجتماعي، الممارسة السياسية، والتراث الفكري. [النص، السلطة، الحقيقة، 48]

يؤكد أبو زيد أن «التأويل» كان لفظا محايدا في النص القرآني وعصر التنزيل، وهو يدل في معناه اللغوي على التفسير، وتأويل القرآن: شرح معانيه، وتفسير ألفاظه. وورد في القرآن بهذا المعنى: «هذا تأويل رؤياي من قبل» [يوسف: 100]، «وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين» [يوسف: 44]. ومما يروى عن نشيد جيش علي في صفين: «بالأمس حاربناهم على تنزيله، واليوم نحاربهم على تأويله» [الخطاب والتأويل، 174] … فالتأويل في هذه الفترة لم يكن غير تفسير الكلام وبيان معانيه.

لكن الأمر تغير فيما بعد، حين تعددت مراجع القائلين في الدين، فظهر التأويل والتأويل المضاد، كممارسة معرفية في الأساس، ثم كموقف أيديولوجي يتحدد بالسياسة والتطور الاجتماعي. وهكذا فمنذ تأويلات الخوارج الأولى، مرورا بنظرية التأويل الاعتزالية، وانتهاء بالتأويل الشيعي والصوفي، استمر إلصاق صفات التحريف والضلالة بمفهوم «التأويل»، وكان لتوظيف آية آل عمران: «فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله» [آل عمران: 7] دور كبير في حسم الصراع لصالح التفسير، وتجريم التأويل ممارسة وأفقا. وأصبح شائعا أن التأويل جنوح عن المقاصد والدلالات الموضوعية في القرآن ودخول في إثبات عقائد وأفكار أو بالأحرى ضلالات من خلال تحريف عمدي لدلالات ومعاني المفردات والتراكيب القرآنية. [الخطاب والتأويل، 176]

ومنذ نهاية القرن الرابع الهجري، مع تسيد الرؤية الأشعرية للعالم الإسلامي، استقر الأمر على اعتبار «التفسير» ما يقدمه المذهب الرسمي من تأويلات للنص الديني، واعتبار «التأويل» ما يقدمه المخالفون من تأويلات «زائغة».

هذه النهاية لا ترفع الجدة عن إبداع العلماء المسلمين في ممارستهم التأويلية، ومحاولة معاصرة التأويل يمر عبر قراءته في سياق تكونه، عند السادة المعتزلة. فكيف قرأ نصر النماذج التأويلية التي يزخر بها التراث؟


2. المقاربات التأويلية للمتقدمين

لم يكن هَمُّ القراءة التفسيرية للنص غائبا عن مجتمع الصحابة [التجديد والتحريم والتأويل، 139]، رغم أنهم كانوا يشعرون بثقل المهمة ومشقتها، وقد عبر علي عن خوفه من تضاد تأويلات القرآن مع إقراره بمشروعيتها، حين أمر ابن عباس بترك محاجّة الخوارج بالقرآن: «القرآن حمال أوجه». ومنه فـ «التأويل لا مفر منه، ولكنه ليس أمرا سهلا، ويجب من ثم ألا يكون موضوعا للتلاعب السياسي» [التجديد والتحريم والتأويل، 140]. ونشوء التأويل في ساحة علم الكلام راجع إلى تجدد الحياة وثبات النص القرآني، فعند محاولة فهم العقيدة، بعد أن انفتح المسلمون على الثقافات المجاورة، كان على المعتزلة أن يطوروا منهجا غير نَصِّيٍّ للدفاع عن العقيدة الإسلامية، ولما وجدوا أن ثمة تعارضا بين النص وقوانين العقل رافعوا لصالح العقل، واختاروا مقولة المجاز اللغوية آلية للتأويل [2]، وحَلِّ إشكال التعارض.

ارتبط التأويل إذن بمحاولة صياغة منهج يبني المعرفة العقدية على أساس عقلي. استفاد المعتزلة في التأسيس لمشروعية التأويل من آية آل عمران: «منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات» [آل عمران: 7]، واعتبروا فهم المتشابه لا يكون إلا برده للمحكم، ولأن العقل النعمة الإلهية المقسومة بين جميع البشر، يختار المعتزلة العقل حَكَما، فما «يتفق مع المفاهيم العقلية بدلالته اللغوية فهوم المحكم، وما يبدو متناقضا معها فهو المتشابه الغامض الذي لا سبيل لتقبل دلالته اللغوية المبشرة» [التجديد والتحريم والتأويل، 148] إلا بتوسط آلية المجاز، وعناصرها: الكناية، والتشبيه، والاستعارة، والحذف.

ولم تكن الممارسة التأويلية عند المعتزلة بدائية، بل كانت تخضع لصرامة منهجية، تلتزم بإطار تصورهم لـ «ماهية المتعالي»، فكل ما يتعارض ومفهوم التوحيد، من آيات تشبه الله بالإنسان، أو تناقض العدل، أو توهم الجبر، أو فعل القبيح له، فهي متشابهات يطالها التأويل. [التجديد والتحريم والتأويل، 206]

ارتبطت مقولة المجاز، آلية التأويل عند المعتزلة، بجملة من المباحث الكلامية واللغوية، جعلت من التأويل «أداة ناجعة في استعادة نضارة المعاني والدلالات التي كانت مهددة بالشحوب» [الخطاب والتأويل، 26]. فتحدث المعتزلة عن أصل اللغة الاصطلاحي، ووظائفها. وفصّلوا في الدلالات اللغوية وما يلحقها من المراتب الكلامية، واختاروا أسبقية العقل على النقل، والحقيقة على المجاز.

التأويل كذلك ممارسة في الفهم عند فرقة أخرى من المسلمين. يقول ابن عربي في الفتوحات [16]: «الأمر محصور بين رب وعبد، فللرب طريق وللعبد طريق، فالعبد طريق الرب فإليه غايته، والرب طريق العبد فإليه غايته». البدء من الله يجعل الحقيقة هناك، وهنا عالم المجاز، والبدء من العبد يجعل الحقيقة هنا، وهناك عالم المجاز، وهكذا يرتفع المجاز من مجرد مقولة لغوية ذات حمولة فكرية، إلى رؤية للعالم، إلى موقف منه. يرى ابن عربي -حسب قراءة بدوي له- أن التأويل عبور ومجاز إلى عالم الحقائق الأزلية الثابتة، بعيدا عن أولئك الذين يصرون على الحياة «في» هذا العالم [النص، السلطة، الحقيقة، 175].


[1] عن التناقض الداخلي في دعوى قصر التفسير بالمأثور، ورفض التأويل، ينظر: نصر حامد، أبو زيد، فلسفة التأويل، بيروت، (المركز الثقافي العربي، 1983)، 12.[2] لم يكن المجاز الآلية الوحيدة للتأويل، وإن كان الأكثر استعمالا وثراء. للمعتزلة كذلك القرينة العقلية آلية للتأويل عند تعذر المجاز اللغوي. ينظر: نصر حامد، أبو زيد، الاتجاه العقلي في التفسير، بيروت، (المركز الثقافي العربي، 1996).[3] الفتوحات المكية، لابن عربي، نقله أبو زيد في، النص، السلطة، الحقيقة، مصدر سابق، 173.
المراجع
  1. أبو زيد، نصر حامد، الاتجاه العقلي في التفسير، بيروت، المركز الثقافي العربي، 1996.
  2. أبو زيد، نصر حامد، إشكاليات القراءة وآليات التأويل، بيروت، المركز الثقافي العربي، 2005.
  3. أبو زيد، نصر حامد، التجديد والتحريم والتأويل، بيروت، المركز الثقافي العربي، 2010.
  4. أبو زيد، نصر حامد، الخطاب والتأويل، بيروت، المركز الثقافي العربي، 2008.
  5. أبو زيد، نصر حامد، النص، السلطة، الحقيقة، بيروت، المركز الثقافي العربي، 1995.
  6. أبو زيد، نصر حامد، فلسفة التأويل، بيروت، المركز الثقافي العربي، 1983.