في العام الماضي، حكى وزير الإعلام السابق محمد فائق أن النكسة جعلت من عبد الناصر أكثر نضجًا وحكمة، وهو الأمر الذي ظهر في إفساحه المزيد من مساحة النقد للغير.. بل وللنقد الذاتي، فبدأ الزعيم يسرد بنفسه للمقربين منه انتقادات لاذعة للأوضاع في مصر، وكيف أنه غير راضٍ عنها، وكأن يده ولسانه كانا مغلوليْن طيلة السنوات الفائتة عن التغيير والكلام.

لم يتجلّ مدى صحة ودقة هذه المقولة إلا بعد إفراج هدى عبد الناصر عن محاضر جلسات اجتماعات مجلس الوزراء الذي جرى تشكيله عقب النكسة مباشرة برئاسة عبد الناصر نفسه، ونشرها الإعلامي مصطفى بكري في كتابه «هزيمة الهزيمة»، وفيه ظهر حجم تأثير الحدث الجلل على شخصية الزعيم، فبدا في بعض كلماته كأحد أشد المعارضين وكان الوحيد من ضمن الحضور الذي اعتبر أن نظامه الحاكم قد أسقطته الأحداث الأخيرة، برغم كل ضجيج التأييد الذي أجبره على عدم التنحي، معتبرًا أن كل الجهود يجب أن تُصرف لبناء واحدٍ جديد يصلح للانتصار، لا ترميم القديم المهزوم المعبأ بالصراعات.

أن تجعلك الهزيمة أكثر نضجًا «إلا قليلاً»

في أكثر من موضع من محاضر الجلسات، حرص الوزراء على تبني وجهة نظر كلاسيكية لأحداث يوم 9 يونيو/حزيران الذي خرجت فيه الحشود الشعبية لمطالبة عبد الناصر بالعودة للحكم، فالجميع تقريبًا أجمعوا على أن الناس ثقةً منها في شخص الرئيس صفحوا عن أخطائه التي أدّت إلى النكسة وبرّأوه منها وطالبوه بأن يقود مرحلة تصحيح المسار والإطاحة بكل من أعاقه عن قيادة السفينة بشكل سليم، وهي وجهة النظر التي تبناها كل الحضور تقريبًا إلا عبد الناصر.

قال ثروت عكاشة وزير الثقافة، وقتها، في أحد الاجتماعات: «هذا اليوم هو الذي أظهر معدن الشعب وأصالته، لذا فهو يُحتم وجود ثقة متبادلة بين الحكومة والناس».

فيما يوضح حسين الشافعي نائب رئيس الجمهورية، حينها، في جلسة أخرى رؤيته لهذا اليوم: «الناس كان قلبها على البلد، هو بقية ثقة في النظام اللي قعد 15 سنة يعمل هذا الجهد وهذا البناء، وفيه جزء إحساس بالخطر وإحساس بالفراغ فيما لو كان هذا التنحي الريِّس صمم عليه»، ثم أضاف في موضعٍ آخر:

يمكن السبب الأكبر هو تحميل الريس أساسًا، ونحن من ورائه، مسؤولية تغيير الأسلوب، وإذا متغيرش الأسلوب الواحد في تصوره إن المدة الباقية لهذا النظام لن تكون كبيرة.

أما جمال عبد الناصر، فكان صاحب وجهة النظر الوحيدة المختلفة في موجة التأييد التي لفقها له وزراؤه، بقوله:

غير موافق على إن المظاهرات اللي طلعت دي هي ثقة بالنظام، أبدًا ماهياش ثقة، وإلا كانوا وافقوا إن زكريا محيي الدين يمسك رئيس جمهورية، فزكريا جزء من النظام، أنا بعتبر إن النظام سقط من يوم 9، وإن إللي احنا بنبتديه ده بداية جديدة.

عبد الناصر معارضًا

بيّنت محاضر الجلسات آراء شديدة الانتقاد قالها عبد الناصر بحق نظامه، ربما لو قالها أحد معارضيه لقضى بقية عُمره خلف الأسوار، يمكن تلخيصها في ما قاله باجتماع يوم 27 أغسطس/آب: «الناس كفرانة من كل حاجة، اللي بيروح البوسطة كفران، واللي بيروح التليفون كفران! واللي بيتعامل مع الحكومة كفران، واللي بيتعامل مع القطاع العام كفران، محدش النهاردة بيسأل في حد»، إلا أن تتبع كافة تفريغات الاجتماعات بالاستقراء الدقيق يُظهر تجلي نزعة جلد ذاتي لعبد الناصر بحق صُنع يديه خلال الأعوام الفائتة.

في رابع اجتماع جمع الرجل بمجلس وزرائه الجديد في 22 يوليو/تموز 1967، قال:

النظام باين عليه إنه تعب، وأنا بقول لكم أنا كان عندي مشاكل كبيرة في هذا النظام، يعني كل واحد كان متصور إن جمال عبد الناصر يقدر يقول لليمين دور وللشمال دور، ويدي أوامر وتتنفذ 100%، العملية مش بهذا الشكل أبدًا، كان فيه مشاكل كبيرة وفيه Compromise (تفاهمات، حلول وسط) كبيرة وحاجات كتيرة جدًا، بنحاول النهاردة الحقيقة إن احنا نوحد الدولة، ويضيف بعدها: «الدولة كانت داخلة في عملية انفصام، وكان باين إن فيه تناقضات بين أجهزة الدولة كلها، ودا بيعتبر أيضًا من أسباب ضعف النظام النهاردة.

ويتابع:

عملية لمّ الدولة مهمة جدًا، وتمس الأوضاع الداخلية كلها، وعملية إنهاء الشِلل أيضًا، وأنا عارف الشلل بتشتم.. دا بيشتم في دا ودا بيشتم في دا، واحنا الحقيقة النظام هو الضحية، لازم نوحد الدولة توحيد كامل بصرف النظر عن التناقضات الموجودة.

وفي الاجتماع الذي تلاه في 24 يوليو 1967، والذي ناقش سياسة التقشف المزمع تنفيذها تخفيضًا للنفقات، بدأ يتطرق تفصيليًا لبعض جوانب القصور التي غفل عنها وفطن لها مؤخرًا، أولها: «عملية المواءمات انتهت، وأنا في الفترة اللي فاتت عملت مواءمات وكان ليها مساوئ كتير جدًا.. وأنا بعد 9 يونيو بأعاهد ربنا لن أعمل مواءمات أبدًا ولو على رقبتي، لا في الجيش ولا في البلد ولا هنا ولا هنا، وهمشي بالسيف القاطع، واللي هيغلط مش هسيبه».

ثم يقول في موضع آخر: «عملية الشقق بتاعت الحراسة مسببة عُقدة في البلد، وكبار الناس في الدولة جريوا وراء شقق الحراسة، وضباط الجيش خدوا عدد كبير من شقق الحراسة»، وبعدها يتابع «الناس القادرين راحوا أخدوا أحسن شقق، بأسعار قليلة ويمكن على الإيجار القديم»، وحين علّق أحد الوزراء بأن هذا الأمر وصل بين مسؤولي الدولة إلى «حرب فظيعة» اقترح عبد الناصر تعديل قانون الحراسة المنظم لهذه الوحدات لرفع إيجارها على قاطنيها «واللي مش عاجبه يتفلق».

قبل أن يبدأ في انتقاد المزايا المزدوجة التي كان يتحصل عليها عسكريون كـ «فيه ضباط جيش كان مرتب الواحد 70 جنيه، راح شركة بقى ياخد 150 أو 180 جنيه»، منتقدًا ما كان يجري بقرارت جمهورية منه شخصيًا بالموافقة لبعض الضباط الكبار على الجمع بين المرتب والمعاش «يطلع واحد من الجيش واخد معاش 90 جنيه، وبيروح لأي شركة ياخد مرتب 150 جنيه»، وفي موضع آخر من مناقشة ذات المسألة قال: «أنا هديكم مثال الجمعية التعاونية للبترول، هناك فرصة عسكريين بحالها بيجمعوا بين المرتب والمعاش وقاعدين بلا شغل! كل الحاجات دي الناس شايفاها».

وفي نفس الجلسة أكد نيته عمل: «مجلس وزراء صحيح»، كما أعرب أكثر من مرة عن رغبته لوزرائه بألا يخافوا من التصريح بآرائهم ولو كانت سلبية، قائلاً بوضوح: «عيب مجلس الوزراء إن محدش بينتقد التاني، والعيب فيه إن محدش عاوز يتكلم» داعيًا إياهم لعدم الخوف من الحديث «إنشالله يتكلموا غلط»، لكن المهم أن ينطقوا و«إذا مكنتوش انتوا هتنتقدوا ماهو البلد هتنتقد، ثم ماذا ستكون النتيجة؟»

وهي نقطة من سياق متصل أخضعه للنقاش أكثر من مرة بين الحضور حول «تدني قيمة الوزير في نظر الناس» وكيفية العمل على رفعها مجددًا، ومنحه الهيبة اللازمة لإعانته على أداء مهامه بنجاح: «العملية كانت ماشية صح لغاية أول 58، وبعدها الحقيقة توهنا في متاهات كبيرة جدًا، وحصل تمزقات عنيفة جدًا في الحكم، وبدأ الوزراء يشتموا في بعض شتيمة علنية وسب علني في البلد»، ويتابع بعدها: «في وزارة علي صبري 64 حصل تمزق أكتر من شتيمة الناس في بعضها، وأيضًا كلامهم على علي صبري! وكان باين إن مفيش انسجام أبدًا».

وفي محضر اجتماع 26 يوليو ناقش ذات النقطة، واستفاض في تبيان أسبابها للجالسين: «قيمة الوزير مش موجودة، وقيمة مجلس الوزراء مش موجودة، يعني أنتم وزراء ومسؤولين كبار مجاتليش استقالة أبدًا في السنين اللي فاتت»، ويضيف «أنا الحقيقة كنت بعالج مشكلة عويصة بتقابلني من سنين، إن محدش بيتكلم لا كبار ولا صغيرين.. مفيش واحد! وأنا كنت بحاول أجرجركم في الكلام عشان كل واحد يقول الحقيقة اللي في نفسه عشان يبقى تقليد نمشي عليه في المستقبل، وبدل ما تطلعوا تتكلموا بره اتكلموا هنا، واللي مش عاجباه السياسة يستقيل، وإذا قعد يبقى مقصر في حق نفسه»، ويتابع بموضع آخر: «أنا عايز ناس تتكلم، كل واحد يقول رأيه، وإذا مش مقتنع بالرأي يستقيل، يقول: أنا رأيي كذا ومصمم على الرأي الفلاني، لكن أنا بشتغل مع ناس مبتتكلمش!»

متى يكتمل الحلو؟

احتاج عبد الناصر إلى أن يتعرض الجيش المصري إلى هذه الفاجعة ويتحول إلى فسيفساء متناثرة كي يقتنع بأن وزراء حكومته بحاجة إلى أن يتكلموا وينتقدوا في حضرته، لكن هذا لا يُبشر على الإطلاق بأنه شعر بحاجة للإصغاء لكل ما يقولون، فالرجل لم يتخلَ للحظة عن موقعه الأثير كصاحب الصلاحية الأول وجامع كافة السُلطات في قبضة واحدة، وهو ما تجلى في رفضه اقتراح أحد الوزراء أن تكون القرارات بالأغلبية بقوله «متأسف مقدرش آخد تصويت (…) افرض صوتي طلع مع الأقلية طب نعمل إيه؟»

كما أنه خلال الجلسات لا يتوقف عن التعبير عن أن دوره يقتصر على أن «يديهم فكرة» و«يحطهم في الصورة»، وأنهم لو نقلوا أحاديثه للخارج فإنه لن يخبرهم بأي أمرٍ بعدها أبدًا، فهو ليس مضطرا لإدخالهم معه لحظات اتخاذ أي قرارات مصيرية، وليس عليهم إلا أن يعلموا بها وهو يحكي لهم عنها حتى لو كان قرارًا من عينة استقدام طيارين سوفييت للدفاع عن مصر أو مسارات الصلح الدبلوماسية السرية مع أمريكا وإسرائيل أو غيرها من أمور إستراتيجية احتفظ عبد الناصر بخيوطها في جعبته، رغم النكسة وتحولاتها عليه و«بدايته الجديدة»، ظلَّ مقتنعًا أن غاية الديمقراطية أن يعرضها لوزرائه بعد حدوثها، ربما بانتظار كارثة أخرى تُجبره على المزيد من التغير.