شهد ختام القرن العشرين واحدة من أشرس المعارك الفكرية التي عرفتها مصر، بعد ما خرجت من أسوار جامعة القاهرة وامتدَّت إلى منابر المساجد وساحات القضاء وأعمدة المقالات، وأحدثت أثرًا لا نزال نعيش بعض تبعاته حتى الآن، إنها المعركة التي دارت بين كلٍّ من عبد الصبور شاهين ونصر حامد أبو زيد.

وعلى الرغم من شدّة الخلاف الذي جمع بين الرجلين، فإن نشأة كلٍّ منهما حملت قدرًا كبيرًا من التشابه  إلى حدٍّ قد يجعل الناظر إليها يُرجح أن هذه المسيرة كان يجب أن تنتهي بالصداقة الحميمية أو الندّية الفكرية على أقل تقدير. فكلاهما حفظ القرآن في الصغر، فشبّا على حب اللغة العربية، والسعي نحو سبر أغوارها، والوقوف على أسرارها الخفية بالتأويل العقلي للنص.

لم يكن التشابه علميًا فقط، بل وصل إلى الميل نحو جماعة الإخوان المسلمين في بواكير الشباب، ثم الانشقاق عنها، وبدء حياة أكاديمية تحت أروقة جامعة القاهرة، التي شهدت بداية الشقاق الأبدي بين الندّين الشهيرين.

عام 1992م، كان مُجمل ما أنتجه نصر حامد أبو زيد أحد عشر بحثًا وكتابين. وفي مايو من العام ذاته تقدم بأبحاثه ــ من بينها كتاباه «الإمام الشافعي وتأسيس الأيديولوجية الوسطية»، و«نقد الخطاب الديني» ــ  للجنة الترقيات بجامعة القاهرة لنيل درجة الأستاذية بقسم اللغة العربية، وعهدت اللجنة بالأبحاث إلى لجنة مصغرة، قوامها ثلاثة أساتذة، هم: الدكتور محمود علي مكي، أستاذ الدراسات الأندلسية بجامعة القاهرة، والدكتور عوني عبد الرؤوف، أستاذ اللغويات بجامعة عين شمس، وأخيرًا الدكتور عبد الصبور شاهين، الأستاذ بكلية دار العلوم، رئيس اللجنة، الذي سيظل اسمه ملتصقًا مع أبو زيد في جملة واحدة منذ هذه اللحظة وحتى بعد وفاتهما.

من الجامعة إلى الجامع: الطُرق تتقاطع

أودَع أبو زيد أبحاثه في عهدة اللجنة، ومرت الأيام تباعًا حتى بدأ القلق يتسرب داخله، فيقول واصفًا تلك الفترة الحرجة «مضى سبعة أشهر، وهي مدة أطول من المعتاد لمجريات تلك الأمور بأربعة أشهر كاملة، وفي الثالث من ديسمبر 1992م علمت بقرار اللجنة برفض منحي الترقية».

قرار الرفض كان مُرتكزًا على تقرير رئيس اللجنة عبد الصبور شاهين، الذي شهِد حيثياته الكثير من الحِدة، إذ اختلف مع كل الورقات العلمية المُقدَّمة من قِبل نصر حامد أبو زيد، وهو التقرير الذي أعاد نشره في كتابه «قصة أبو زيد وانحسار العلمانية في جامعة القاهرة»، وفيه وصف أبحاث أبو زيد بأنها «إيدز ثقافي»، و«وضمور للضمير الديني»، وتمثل حالة من «الإرهاب الفكري»، فضلًا عن كونها «خفيفة الوزن علميًا».

في المقابل، كان قسم اللغة العربية بالجامعة، برئاسة الدكتور مصطفى سويف قد أعدّ تقريرًا إيجابيًا مضادًا أكَّد عُمق معرفة نصر حامد أبو زيد بالتخصص، وإسهاماته العلمية في مجال الدراسة الإسلامية، واستخدامه الطرق المستحدثة للبحث العلمي، ومبدأ الاجتهاد، وهي المرة الأولى التي يُجمع فيها القسم على مؤازرة زميل في نيل حقه في الترقي، وفق تعبير الدكتور جابر عصفور، أحد أساتذة القسم آنذاك، في حواره لبرنامج «مختلف عليه».

لم يكتفِ عبد الصبور شاهين بتقريره اللاذع داخل أسوار الجامعة، إذ استغل منبره كخطيب في جامع عمرو بن العاص لتأجيج الأزمة، يقول نصر أبو زيد في مجموعة حواراته للكاتبة الأمريكية إستر نيلسون، والتي جمعتْها في كتاب بعنوان «صوت من المنفى.. تأملات في الإسلام»: «يوم الجمعة الموافق 2 أبريل 1993م، أي ليس بعد وقت طويل من رفض الجامعة منحي الترقي، قام شاهين من على منبر المسجد بإعلاني مرتدًا. الجمعة التي تلتها 9 أبريل كان خطباء المساجد حول مصر يتبعون خُطاه، بمن فيهم خطيب مسجد صغير في قريتي الأم قحافة، وهو صديقي الذي تربيت وتعلمت وحفظت القرآن معه في الكتّاب».

حاول التيار العلماني بدوره تعضيد نصر حامد أبو زيد خارج أسوار الجامعة، فتبنّى الدكتور لطفي الخولي (أديب ومسرحي ينتمي إلى تيار اليسار المصري) القضية، وعرضها في صفحة «الحوار القومي»، المخصصة له بجريدة «الأهرام»، لكنهم فوجئوا بـ«ردود فعل عنيفة من التيارات السلفية» بحسب تعبير جابر عصفور، الذي أكد أنه ورفاقه في قسم اللغة العربية «كانوا على خطأ حين أخرجوا القضية للرأي العام»!

وفي العاشر من يونيو لعام 1993م، تقدم المحامي الإسلامي محمد صميدة عبد الصمد مع ستة من زملائه برفع قضية ضد أبو زيد أمام قسم الأحوال الشخصية بمحكمة الجيزة للتفريق بينه وبين زوجته الدكتورة ابتهال يونس، أستاذ اللغة الفرنسية المساعدة بجامعة القاهرة، على «خلفية ارتداده عن الإسلام»، أو ما عُرِف حينها بمبدأ «الحِسبة».

في تلك الفترة، كان أبو زيد قد تقدم بأبحاثه للجنة أخرى لينال حقه في الترقي، وكان له ما أراد نهاية مايو 1995م، لكنه لم يهنأ طويلًا بهذا القرار، فبعد أسبوعين فقط، أقرت محكمة القاهرة بأن «كتاباته تثبت أنه مرتد، وبما أن القانون الإسلامي يمنع الزواج بين مسلمة ومرتد، فقد حكمت بإبطال زواجه من ابتهال»، لكنه كان قد رحل برفقة زوجته إلى إسبانيا ومنها إلى هولندا قبل تنفيذ الحكم.

ورغم هجرة أبو زيد، ونيله درجة الترقي التي حُرم منها، لم ينفصل اسمه عن عبد الصبور شاهين أبدًا، لأن المعركة لم تتوقف عند هذا الحد.

 ففي 16 يونيو 1995م، خلال إلقائه خطبته في مسجد عمرو بن العاص، علّق شاهين على حكم المحكمة قائلًا: «لقد قضت المحكمة بحكمها النهائي بعد نظر القضية أمامها لمدة عامين، واقتنعت بأن أبو زيد هو رجل مرتد يجب فصله عن زوجته».

نار الحِسبة تطال عبد الصبور شاهين!

سافر نصر حامد أبو زيد إلى هولندا، وعمل مدرسًا للفكر الإسلامي بجامعة «ليدن»، في حين تفرغ عبد الصبور شاهين لتدوين كتابه الذي سيثير من حوله القلاقل بعد ثلاثة أعوام فقط من أزمته مع عدوه اللدود!

في عام 1998م، أصدر عبد الصبور شاهين كتاب «أبي آدم.. قصة الخلق بين الخيال والحقيقة»، الذي يذهب فيه إلى التفرقة بين مصطلحي «البشر» و«الإنسان»، مؤكدًا أن آدم ليس أبو البشر كما هو معروف في الأبجديات الدينية، وإنما إنسان متطور، وُلِدَ لأبوين من فصيلة سابقة، ثم «اصطفاه الله تعالى ليكون مُكلفًا بحمل الرسالة»، وهو ما عرّضه لحملة من الرفض قادها علماء دين كبار، مثل الدكتور علي جمعة، مفتي الديار المصرية، الذي أدلى بحوار لجريدة «صوت الأزهر»، وصف فيه كتاب عبد الصبور بأنه «شذوذ فكري».

تلك الأزمة التي لم يتوقعها شاهين، اضطرّت مجمع البحوث الإسلامية للنظر في الكتاب، والوقوف على مدى كفر ما طُرِح به، وكوَّنت لجنة ترأّسها الدكتور سامي محمد متولي الشعراوي، وخلصت في تقريرها إلى براءة عبد الصبور من أي كفر ألحق به، بل ودعَتْ العلماء والباحثين إلى أن يسيروا على دربه، «وتقليب النظر في الآفاق والأنفس، ومواكبة التطورات العلمية الهائلة».

خروج عبد الصبور شاهين منتصرًا «علميًا/دينيًا» لم يرُق للشيخ يوسف البدري، الذي كان في مستهل طريقه لرفع العديد من الدعاوى ضد الفنانين والمشاهير، وهي العادة التي اشتهر بها لاحقًا، فلجأ إلى ذات الثغرة القانونية المعروفة بالحسبة آنذاك، بهدف التفريق بين شاهين وزوجته، باعتبار أنه خرج عن الدين، لكن المحكمة لم تُعِر تلك الدعوى اهتمامًا استنادًا إلى تقرير مجمع البحوث الإسلامية.

وفي خضم الحرب الدائرة بين عبد الصبور شاهين ويوسف البدري الذي اتهم الأزهر بمجاملة شاهين في تقرير مجمع البحوث الإسلامية، كان طبيعيًا أن يُسأل عن المفارقة بين ما تسبب فيه لنصر أبو زيد، وما جرى له، فسأله الإعلامي محمد سعيد محفوظ في برنامجه «مقص الرقيب»: «يقول بعض الشامتين، إن أسهم المصادرة والتكفير التي أطلقتها على الدكتور نصر حامد أبو زيد قد ارتدت إليك، وانقلب الساحر على الساحر. ما رأيك؟».

أجاب شاهين على تساؤل محفوظ: «شتان ما بين موقفي وموقف نصر أبو زيد. هو كان خارجًا على الإسلام. كان مفسدًا لعقول الشباب في كلية الآداب. كان يُسوِّق قضايا كلها من إملاء المذهب الماركسي الذي اعتنقه، ومعه طائفة من الشيوعيين يرشحونه ليكون الُمنظر الأكبر للشيوعية، ووجدوا في قضيته فرصة للظهور على وجه الأرض».

في هذا الوقت المضطرب الذي عاشه شاهين ومروره بأزمة «الحِسبة»، تلقى دعمًا غير متوقع في أزمته مع يوسف البدري، من نصر أبو زيد!

فمن منفاه في هولندا تلقى أبو زيد نبأ صدور الكتاب وتفاصيل أزمته، فقال فيه رأيه العلمي بشكل عام، وعلى الرغم من أنه أكّد في بداية تفنيده للكتاب أنه «لم يقل جديدًا، ولم أرَ في عمله ما يعجبني، لكنه حاول أن يظهر بمظهر المفكر الليبرالي، فارتكب من الأخطاء ما لم يكن ليفعله طالب لم يتخرج بعد في كتابة أطروحة».

إلا أن أبو زيد علّق على الأزمة التي لاحقت عبد الصبور شاهين، مؤكدًا أنه لم يسعد بها على الإطلاق، ورأى أنه «حريق بمنزلنا، ثقافتنا، ولا يمكن أن نقتل رجلًا من أجل كتاب غبي».

في المقابل لم يحفل شاهين بدعم أبو زيد المبطّن بالنقد، إذ قال ــ وفقًا لرواية الأخير في حديثه لإستر نيلسون ـ إنه لن يصف نصر بالبطل أبدًا، ولن يشكره على هذه المكرمة.

عداء لم ينتهِ إلا بالموت!

رغم انتهاء أزمة نصر أبو زيد بهروبه من مصر ودفاعه عن حُرية شاهين في التعبير عن رأيه فإنه لم يغفر لشاهين أبدًا ما فعله به، يقول: «لقد كان مبتذلًا حين دفع بالتفريق بيني وبين زوجتي في المحكمة. حينها عرض على ابتهال أن يأتي لها بزوج، وسيتكفل هو بمصاريف الزواج. لو أتيحت لي الفرصة لبذلت قصارى جهدي للنيل منه وإهانته، ليس من أجلي، ولكن من أجل ابتهال».

خرج أبو زيد مهزومًا قضائيًا في معركته مع شاهين لكنّه حقّق انتصارًا معنويًا هائلاً تمثّل في الدعاية الدولية الساحقة التي حوّلته إلى نجم فكري بارز في جميع أنحاء العالم.

وفي عام 2000م، تلقى أبو زيد خبرًا من محاميته منى ذو الفقار بأنهم «خسروا في معركة ظالمة، لكنهم ربحوا الحرب»، بحسب حديثه في كتاب «صوت من المنفى»، إذ أحدثت أزمته وغيره من المفكرين دويًا أسهم في تمرير قانون يغلق ثغرة «الحِسبة»، ومنذ ذلك الحين غُلق الباب للأبد لرفع أي دعاوى «حِسبة» أمام المحاكم ضد المفكرين والفنانين.

وخلص أبو زيد من تلك الأزمة إلى أن حقيقة عداء عبد الصبور شاهين له ليس علميًا، وإنما سببه ما ذكره هو في مقدمة كتابه المقدم ضمن أوراق الترقي «نقد الخطاب الديني»، من هجومٍ على شركات توظيف الأموال التي ارتبط اسم شاهين بها كمستشار ديني لواحدة منها، والتي انتهت بفضيحة شهيرة عام 1988م.

في الوقت ذاته الذي أبدى فيه شاهين تراجعًا متأخرًا عن تشدّده إزاء أبو زيد في معركتهما معًا التي اختلط فيها الجانب الفكري بالشخصي، فأنكر عبد الصبور شاهين تكفيره لنصر حامد أبو زيد، في حوار أجراه قبل وفاته، زاعمًا أن هدفه كان إيقافه عن التدريس في الجامعة فقط.

وبعد مرور أربعة أشهر فقط على هذا الحوار، توفي أبو زيد، وحتى في هذا الأمر أبَى شاهين إلا أن يُلاحقه فيه فمات بعده بشهرين ونصف فقط، ليُسدل الستار على معركتيهما الفكرية للأبد وتبقى سيرتها تتردّد حتى اليوم.