محتوى مترجم
المصدر
aeon
التاريخ
2017/03/27
الكاتب
إدوين باتيستيلا
عندما ذهب المستشار الألماني «ويلي براندت» إلى بولندا عام 1970، وجثا على ركبتيه أمام النصب التذكاري لانتفاضة وارسو عام 1943، تم النظر إلى فعله هذا بشكل واسع باعتباره اعتذارًا غير منطوق، وقال بعدها إنه «فعل ما يفعله الناس عندما تخونهم الكلمات»

كانت هذه إحدى حالات الاعتذار التي ساقها الكاتب «إدوين باتيستيلا»، أستاذ اللسانيات بجامعة «أوريجون»، في سياق مقاله الذي تحدث فيه عن مفهوم الاعتذار الوطني، الذي تقوم به دولة ما عن أخطاء أو جرائم ماضية. وتحدث فيه عن سبب قيام دولة ما بهذا الاعتذار، وما الفرق بينه وبين الاعتذار الشخصي، وأمور أخرى.

يبدأ إدوين بالحديث عن زيارة «أوباما» إلى هيروشيما في مايو/آيار 2016، والتي توقع العديدون أن يقدم فيها اعتذارًا عن إلقاء القنبلة النووية عليها في الحرب العالمية الثانية. إلا أنه لم يفعل، وأعلنت إدارة أوباما أن ما حدث لا يتطلب اعتذارًا. وبناءً على ذلك، يحاول إدوين الإجابة على سؤال: متى تعتذر الأمم؟ إن لم يكن في هذه الحالة!

بموجب قانون الحريات المدنية قدم الكونجرس وعدد من الرؤساء الأمريكان اعتذارا رسميا للأمريكيين اليابانيين عن الممارسات التي أعقبت بيرل هاربور

للإجابة، يشير إدوين إلى تمرير قانون الحريات المدنية الذي أكّد ضرورة الاعتذار وتعويض المائة وعشرين ألف أمريكي ياباني الذين تم اعتقالهم بعد هجوم «بيرل هاربور» في 1941، وعاشوا مشقة ومعاناة وخسارة شديدة. بل تم تقنين هذه الاعتقالات من خلال الحكم بدستوريتها عام 1944. من خلال هذا القانون، اعتذر الكونجرس ومن ورائه الرؤساء «ريجان»، و«بوش الأب»، و«كلينتون»، للأمريكيين اليابانيين عن تلك الانتهاكات.

ويسرد إدوين مسيرة هذا القانون الذي بدأ عام 1970، عندما نادت رابطة المواطنين الأمريكيين اليابانيين برد فعل ما. أثارت المطالبة بهذا الاعتذار جدلًا كبيرًا إذ فتحت نقاشًا فلسفيًا عن مدى تحمل الحكومات اللاحقة للأخطاء الأخلاقية للحكومات السابقة عليها، وتضمنت الدعوة كذلك محاولة بناء إجماع سياسي على ضرورة التعويض. كان الأمر صعبًا، إلا أنه كان يستحق.

وقد يكون الاعتذار المطلوب، كما يقول إدوين، ليس اعتذار حكومة بل اعتذار أمة بأكملها، كما هو الحال مع ألمانيا بعد نظام «هتلر». إذ عمد الحلفاء بعد الانتصار إلى التركيز على نزع جذور النازية من خلال التعليم والمحاسبة على الجرائم. وأدرك الألمان وسياسيوهم أنه يجب عليهم تناول انتهاكات الحرب والاعتذار عنها وتعويض المتضررين، وبالفعل قام المستشار الألماني «آدينور» عام 1952 بمنح 3.5 مليار دولار لدولة إسرائيل الناشئة.

ولكن ركز آدينور داخليًا على سياسة للنسيان وليس الاعتذار. إلا أن المستشارين من بعده أولوا اهتمامًا أكثر بالأمر، فقام «براندت» بالذهاب إلى بولندا عام 1970، وتلاه «هلموت كول» عام 1995 في الاحتفال الخمسين بذكرى تحرير أوشفيتز، معتذرًا بقوله: «كانت أوشفتيز أظلم وأكثر فصول التاريخ الألماني رعبًا».

يبدأ الاعتذار الوطني من الاعتراف بحدوث ضرر كبير في الماضي يليه تسميته واستنكاره بكل أسف ثم طلب السماح من المتضرر

ويحاول إدوين بعد ذلك تقريب مفهوم الاعتذار الوطني من خلال مقارنته بالاعتذار الشخصي، فيقول بأنهما لا يختلفان كثيرًا عن بعضهما البعض. فالخطوات التي يخطوها الفرد للاعتذار هي تلك التي تخطوها الأمة. فالخطوة الأولى هي الاعتراف بأن هناك ضررا كبيرا قد حدث، يليها تسميته، ثم استنكاره، وطلب السماح. وبنفس الطريقة يكون اعتذار الأمة؛ مضيفةً الالتزام بسلوك أفضل في المستقبل.

ويفرّق إدوين بين الاعتذار وبين التعبير الدبلوماسي الروتيني عن الأسف الذي تقدمه حكومة لأخرى عن حادثة ما. كما عبّرت الولايات المتحدة لإيران عن «أسفها» لإطلاق أحد جنودها النار على راكب إيراني اشتبه فيه خطأ، قائلةً إننا «آسفون بشدة لخسارة أي حياة»، وإن إطلاق النار كان «دفاعًا مناسبًا عن النفس». فالاعتذار الوطني يتضمن استنكارًا مخلصًا لخطأ وطني جسيم، وأحيانًا تاريخي، على عكس التعبير الروتيني عن الأسف.

وأحد الأجزاء المهمة في تعريف الاعتذار الوطني هو البحث عمن يقدّمه. يقول إدوين إنه عادةً ما يقدمه رأس السلطة التنفيذية، إلا أنه يجب أن يكون ثمة إجماع سياسي. ففي حالة الولايات المتحدة مثلًا، كانت أكثر الاعتذارات صراحةً هي التي اتفق فيها الكونجرس مع الرئيس، مثلما حدث في قانون الحريات المدنية الأمريكية، وكذلك في حالة الاعتذار الأسترالي «للأجيال التي سُرقت» من السكان الأصليين عام 2008 عندما استطاع رئيس الوزراء «كيفن راد» بجمع تأييد الحزبين الرئيسيين في البرلمان للاعتذار.

إلا أن هذا الإجماع لا يمكن تحقيقه دائمًا. ففي محاولة رئيس الوزراء الياباني «توميشي موراياما» عام 1995 للاعتذار، واجهته معارضة محافِظة كبيرة في المؤتمر الوطني رافضةً وجود كلمة اعتذار، وتم الاستبدال بها بالفعل «عزاءات مخلصة» و«ندما عميقا».

قد يكون قادة الحكومة غير مسئولين بشخوصهم عن الأخطاء السابقة، إلا أنهم ممثلون للقيم الوطنية، وبالتالي لديهم دور في رد المظالم التاريخية

ويؤكد إدوين أنه حتى في حالة وجود الإجماع، هناك من يعارض. فيعترض البعض بأن الحكومة الحالية ليست مجبرة على الاعتذار عن فعل قامت به حكومة سابقة. إذ لا يكون الاعتذار اعتذارًا إلا إن قدّمه من قام بالفعل من البداية، فالذنب لا ينتقل من جيل إلى آخر.

يرى إدوين أن هذه النظرة «ضيقة للغاية». فبالفعل، قد يكون قادة الحكومة غير مسئولين بشخوصهم عن الأخطاء السابقة، إلا أنهم ممثلون للقيم الوطنية، وبالتالي لديهم دور في رد المظالم التاريخية، ومحاولة الإصلاح ورأب الصدع. وبالمثل، المواطنون العاديون غير مسئولين عن المظالم التاريخية إلا أنهم يصابون بتبعاتها، وينتفعون من محاولة الإصلاح التي يقوم بها القادة.

والسؤال التالي الذي يحاول إدوين الإجابة عليه هو: هل لهذا الاعتذار أهمية بالنسبة للمظلومين؟ أو بعبارة أخرى، هل هو كافٍ؟ ويحكي اعتذار الكونجرس عام 2005 عن مماطلته لقرن كامل في إصدار قوانين مكافحة الإعدام الغوغائي حتى تم تجريمها في 1968. وبالفعل، تقبلت الرابطة الوطنية لنهضة الملونين (NAACP) الاعتذار، باعتباره خطوةً على طريق الإصلاح، إلا أن آخرين اعتبروه غير كافٍ، لأنه لم يتبعه أي نوع من التعويضات أو محاولة العلاج. فيقول إدوين إن البعض يكتفي بكلمات الندم والاعتذار، والبعض الآخر لا يقبلها إلا مصحوبةً بعلاج أو إصلاح.

يشير إدوين بعد ذلك أن الاعتذار الوطني يصعب جمع التأييد السياسي له، حيث إن البعض يراه «علامة على الضعف»، حتى مجرد التعبير الدبلوماسي عن الأسف يولّد معارضة سياسية، كما حدث في محاولة الرئيس «وودرو ويسلون» عام 1914، عندما حاول تحسين العلاقات مع كولومبيا بعد دعم الولايات المتحدة لانفصال بنما.

وكذلك في حالة اعتذار كلينتون عام 1998 عن تجارة العبيد الذي تبعته معارضة سياسية شديدة من قبل الجمهوريين باعتباره انتقاصًا من شأن الولايات المتحدة، وكذلك معارضة المرشح الجمهوري «ميت رومني» لجولة أوباما الاعتذارية عام 2012. وتواجه الدول الأخرى عقبات مماثلة تقريبًا كأستراليا في محاولة الاعتذار عن المعاملة السيئة لأبناء السكان الأصليين من 1910 حتى 1970.

تعتبر المقاومة المؤسسية عائق لتقديم الاعتذار كما حدث في محاولات الفاتيكان المتكررة للاعتذار للمتضررين من التحرش الجنسي من القساوسة

وقد تكون المقاومة المؤسسية هي التي تمنع الاعتذار، كما حدث في محاولات الفاتيكان المتكررة للاعتذار للمتضررين من التحرش الجنسي لبعض القساوسة. فعلى مر ثلاثة من الباباوات كان الاعتذار صعبًا، حتى استطاع الأب «فرانسيس» تقديمه أخيرًا عام 2014.

إلا أنه مع كل تلك الصعوبات، كما يؤكد إدوين، قدّمت الولايات المتحدة العديد من الاعتذارات كمعتقلات اليابانيين، وإسقاط ملكية هاواي، وانتهاكات سجن «أبو غريب» وغيرها، وكذلك دول أخرى، كاعتذار اليابان عن انتهاكاتها في الحرب العالمية الثانية، واعتذار الاتحاد السوفيتي عن مجزرة غابة «كاتين» التي راح ضحيتها 15 ألف ضابط بولندي، وكذلك كندا عن الانتهاكات في حق طلاب المدارس الهندية لمدة قرن تقريبًا، وكذلك بريطانيا عن دورها في مجاعة البطاطس الإيرلندية في القرن التاسع عشر.

ويختم إدوين مقاله مشيرًا إلى أن العالم قد دخل منذ الحرب العالمية الثانية في محاولات إعادة ارتباط متعددة من خلال الاعتذارات، ويرى البعض أن منشأها كان محاكمات نورمبرج وطوكيو. إذ أصبح العديد من قادة العالم منفتحين لتسمية ومناقشة الأخطاء الوطنية، والاعتذار عنها لإصلاح العلاقات مع المجتمعات التي تأذّت، والتأكيد على قيم جديدة في التعامل.

وأنه لا يوجد اعتذار كامل مهما كان الأمر، إلا أنه يشجّع الأمم على محاولة الاقتراب من بعضها البعض من خلال الاعتذار. إلا أنه يرى أن هناك أمورا أخرى لا زال يجب النظر فيها. هل تعد الاعتذارات الوطنية خطوة نحو بناء مجتمعات وطنية أقوى قائمة على الاعتراف بالأخطاء السابقة؟ أم أنها تؤدي إلى ضعف التزام وفقدان ذاكرة وطني؟ وهل يستقر الاعتذار بتغير الأنظمة السياسية أم لا؟