بعد أكثر من ثمانية أعوام على اندلاع ثورات الربيع العربي، تحسس خلالها النظام العربي الرسمي خطواته جيدًا، ووضع في حسبانه ألف حساب لغضب الشارع العربي عند وضع سياساته الاقتصادية، يبدو اليوم عدد من الحكومات العربية في المقابل بعد اطمئنانها لانطفاء جذوة الثورات الربيع مُقبلة بقوة على تبني سياسات النموذج الاقتصادي النيوليبرالي ذات العواقب الاجتماعية الوخيمة، من تحرير للأسواق وإعادة لهيكلة الاقتصاد الكلي.

تظهر تباشير ذلك التحول الذي تسير فيه حكوماتنا العربية قدمًا في تحرير أسعار الوقود في مصر والأردن خلال الفترة الحالية، وهو الاتجاه الذي يسير فيه الآن أيضًا العديد من البلدان العربية الأخرى، كالسعودية والمغرب والجزائر، وهو ما سيترتب عليه أثر واسع على مجمل جوانب الاقتصاد في تلك البلدان.

في ظل تلك التحولات الاقتصادية والاجتماعية العاصفة التي ستترتب على ذلك، والتي ستترك تأثيرها في حياة كل فرد منا في السنوات القادمة، نحتاج لأن نلقي نظرة على ملامح تلك الأيديولوجية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وأن نتعرف مليًا على نمط الحياة الجديد الذي تعدنا به.


ما هي النيوليبرالية؟

في كتابه «موجز تاريخي لليبرالية الجديدة» يُعرِّف المنظر الاجتماعي البريطاني «ديفيد هارفي» النيوليبرالية بأنها:

أما دور الدولة فيتمثل في خلق هذا الإطار المؤسساتي والحفاظ عليه بما يلائم هكذا ممارسات، فيتعين على الدولة مثلًا أن تضمن جودة ونزاهة النقد، وعلى الدولة أيضًا أن تنشئ الهيكليات والوظائف العسكرية والدفاعية والشرطية والقانونية اللازمة لتأمين الحقوق الملكية الخاصة، وأن تضمن -بالقوة إن لزم الأمر- عمل الأسواق بالشكل الصحيح الملائم.

وعلاوة على ذلك يتعين على الدولة في حالة عدم وجود أسواق في بعض المجالات مثل (الأرض والمياه والتعليم والرعاية الصحية والضمان الاجتماعي) أن تخلقها، وبعمل تقوم به الدولة إذا لزم الأمر، وفيما خلا هذه المهام، لا يجوز للدولة أن تتدخل».[1]

من المهم هنا أن نشير إلى أن مصطلح النيوليبرالية هو مصطلح يحوي حمولات سياسية يسارية قوية في أكثر الأحيان، حيث غالبًا ما يُستخدم من قبل نقاد النظام الاقتصادي الرأسمالي أكثر من مؤيديه، ويتم استخدامه في هذا الإطار كوصمة أكثر منه كمفهوم لنظرية اقتصادية أو سياسية، إلا أنه ظل يحمل -بعيدًا عن ذلك- جدوى تحليلية وقيمة دلالية كبيرة بنهاية المطاف.


قصة صعود النيوليبرالية

في السنوات التي تلت الحرب العالمية الثانية كانت الاقتصادات في مختلف أنحاء المعمورة محكومة بأطر تنظيمية متمركزة حول الدولة، وبالرغم من سيادة نظام السوق في العالم الغربي في ذلك الوقت، فحتى الدول التي بنت اقتصادها على مبدأ السوق الحر اعتمدت في تلك المرحلة أنظمة رفاه اجتماعي كنزية، و«الكنزية» هي نظرية صاغها الاقتصادي البريطاني «جون مينارد كنز» تتبنى مبدأ الاقتصاد المختلط، الذي يعتمد على السوق الحرة وعلى تدخل الدولة في بعض المجالات أيضًا.

بدأت المبادئ التي أرساها كينيز في التراجع خلال سبعينات القرن الماضي، وبدأت في المقابل الأفكار الليبرالية التي دعا إليها في السابق النمساويان لودفيغ فون ميزس وفريدريك هايك في عام 1938 خلال أحد المؤتمرات الاقتصادية في باريس، بتصدر المشهد، حيث تبنت وقتها إدارة «جيمي كارتر» في الولايات المتحدة وحكومة «جيم كالاهان» في بريطانيا ذلك النهج الرأسمالي الليبرالي الجديد.

عقب وصول« مارغريت تاتشر» و«رونالد ريغان» إلى السلطة في كل من بريطانيا والولايات المتحدة، سرعان ما أصبَحا عرّابي تلك السياسات الاقتصادية الجديدة، التي عملت على خفض الضرائب على الأثرياء بشكل مذهل، وعملت على تقليص الإنفاق العام، وإضعاف الاتحادات والنقابات العمالية، وخصخصة الخدمات والأنشطة الحكومية.


رأسمالية الكوارث

نظرية في ممارسات الاقتصاد السياسي، تفترض أن أفضل وسيلة لتعزيز سعادة الإنسان ورخائه تكمن في إطلاق حريات الفرد ومهاراته في القيام بمشاريعه وأعماله، ضمن إطار مؤسساتي يتصف بحقوق قوية للملكية الخاصة والأسواق والتجارة الحرة.

في كتابها الشهير «عقيدة الصدمة» تقول الصحفية الكندية «ناعومي كلاين»:

إن سياسات السوق الجديدة التي تدعمها المؤسسات الدولية كصندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية استطاعت أن تتمكن من الهيمنة عالميًا عن طريق مبدأ الصدمة، حيث استطاعت «رأسمالية الكوارث» تلك أن تصعد من خلال استثمار الكوارث الاجتماعية والسياسية والطبيعية، واستغلال الشعوب التي صدمتها تلك الكوارث.[2]

تطرح كلاين في كتابها العديد من الأمثلة والنماذج في هذا الإطار، ومنها: انقلاب بينوشيه في تشيلي في سبعينيات القرن الماضي، ومذبحة ميدان السلام السماوي ببكين 1989، والأزمة المالية الآسيوية 1998، وغزو العراق 2003، وكارثة تسونامي في جنوب شرق آسيا 2005.

وفي كتابه «عولمة الفقر» يوضح الاقتصادي الكندي «ميشيل تشوسودوفيسكي» أن عمليات إعادة الهيكلة الاقتصادية التي يفرضها الدائنون الدوليون على بلدان العالم الثالث منذ ثمانينيات القرن الماضي، والمستندة على خطاب نيوليبرالي أدت بنهاية المطاف إلى تفكيك مؤسسات تلك الدول وتمزيق حدودها الاقتصادية وإفقار الملايين من الناس.[3]

ويؤكد تشوسودوفيسكي أن السياسات الغربية -في توجيه الاقتصاد العالمي- خلقت الكثير من المشكلات الاجتماعية والسياسية في المجتمعات النامية التي فُرضت عليها هذه السياسات، مثل الاضطرابات الاجتماعية واتساع ظاهرة البطالة وتقويض الحريات وحقوق الإنسان بشكل عام، بما فيها حقوق المرأة، وتدمير بنى الاقتصاد المحلية وتدمير قطاع الزراعة بما في ذلك الثروة الحيوانية في البلدان الفقيرة كدول أفريقيا جنوب الصحراء.

من جهة أخرى يُبيِّن «أرنست فولف» في كتابه «صندوق النقد الدولي قوة عظمى في الساحة العالمية» كيف أدى اتباع الأرجنتين برئاسة «كارلوس منعم»، في العقد الأخير من القرن الماضي إلى مبدأ الصدمة، من خلال تسريح مئات الألوف من الموظفين، والخصخصة الواسعة التي شملت قطاعات النفط والبنوك والخطوط الجوية، إلى فقاعة اقتصادية مؤقتة، أعقبها أكبر إفلاس مالي شهده ذلك البلد، وهو إفلاس ترتب عليه آثار اجتماعية وإنسانية وخيمة في الأرجنتين.[4]وهنا يظهر السؤال نفسه:

هل أمام كل هذه التجارب الفاشلة، توقفت الحكومات المصرة على اتباع وصفات المؤسسات المالية الدولية كصندوق النقد والبنك الدولي للتأمل وأخذ العبرة؟

الإجابة معروفة بطبيعة الحال، ولذلك يبدو أننا ليس أمام أزمة اقتصادية، بل أمام أزمة سياسية في المقام الأول، حيث لم يكن مُمكنًا تمرير تلك السياسات من خلال إجراءات ديمقراطية حقيقية، وبذلك نستطيع ربما أن نفهم بأثر رجعي بعضًا من أسباب الصمت الدولي على الثورات المضادة التي شُنت على الربيع العربي، وكيف انتهى بنا الحال إلى النقطة التي نقف عندها الآن.

المراجع
  1. ديفيد هارفي، الوجيز في تاريخ النيوليبرالية، ترجمة وليد شحادة، الهيئة السورية العامة للكتاب، دمشق،2013، ص6
  2. ناعومي كلاين، عقيدة الصدمة، ترجمة نادين خوري، شركة المطبوعات للتوزيع والنشر،بيروت، الطبعة الثالثة،2011
  3. ميشيل تشوسودوفيسكي، عولمة الفقر، ترجمة محمد مستجير مصطفى، الهيئة المصرية العامة للكتاب القاهرة،2012
  4. أرنست فولف، صندوق النقد الدولي قوة عظمى في الساحة العالمية، ترجمة عدنان عباس على، عالم المعرفة، الكويت، أبريل 2016، العدد 435