علم الاقتصاد «العصبي»: ما هو وكيف يوجه قرارات المستهلكين؟
تقوم المشكلة الاقتصادية في شكلها المجرد على محدودية الموارد المتاحة، وتعددية رغبات الأفراد، ومن ثم كان حلها يكمن في كيفية اختيار أفضل البدائل بهدف تحقيق أقصى المنافع، وأعظم المكاسب للأفراد. ولذلك حاولت النظريات الاقتصادية المختلفة تفسير سلوك الأفراد الاقتصادي والتنبؤ به في المستقبل، بما يساعد في اتخاذ القرارات الاقتصادية ليس على المدى القصير فقط، ولكن على المديين المتوسط والطويل أيضاً.
لكن في الحقيقة أحياناً ما نجد أن قرارات الأفراد الاقتصادية لا تتسم بالرشادة المطلوبة أو المتوقعة، وقد لا تحقق كذلك أقصى منفعة من الناحية المادية، ذلك أن مبدأ المنفعة والإشباع يحمل في طياته أيضاً جوانب نفسية ومعنوية، وليس فقط مادية. وهو ما يعني أن اتخاذ القرار الاقتصادي أو أي قرار يتم من خلال تفاعل العديد من العوامل المؤثرة مادية ومعنوية، مما يقلل من درجة التيقن من صحة القرار الاقتصادي المتوقع.
ولما كانت للعوامل المعنوية والنفسية آثار على القرارات الاقتصادية التي يتخذها الأفراد، اتجه بعض العلماء إلى البحث في كيفية اتخاذ العقل البشري للقرار الاقتصادي من خلال إحداث مزج بين فروع عديدة من العلوم هي علم الأعصاب، علم الاقتصاد، وعلم النفس، فكان علم الاقتصاد العصبي، أو المعروف باسم «نيوروايكونميكس».
علم الاقتصاد العصبي باختصار
يمكن القول إن علم الاقتصاد العصبي، هو العلم الذي يبحث في كيفية اتخاذ العقل البشري للقرار الاقتصادي، من خلال تأثره بالعوامل النفسية، والجينية، والمعلومات الاقتصادية المتاحة، بما قد يساهم في التنبؤ السليم بالقرارات الاقتصادية، ومن ثم اتخاذ قرارات أكثرها رشادة.
وتنطوي دراسة علم الاقتصاد العصبي على ثلاثة موضوعات فرعية هي: نظرية المباريات، اتخاذ القرار في حالات المخاطرة وعدم التأكد، الاختيارات المحددة بالزمن. وهي جميعها تدعم الفكرة الرئيسية التي يدور حولها الاقتصاد العصبي، والمتمثلة في كيفية اتخاذ أفضل القرارات الاقتصادية في حالات تضارب المصالح، وتعدد العوامل المؤثرة في عملية صنع واتخاذ القرار.
تعتبر جامعة كليرمونت للدراسات العليا – ومقرها ولاية كاليفورنيا الأمريكية – هي الأولى من نوعها في العالم لتقديم تخصص الدكتوراه في علم الاقتصاد العصبي، حيث يتوافر بها مركز متخصص لدراسة هذا العلم، والذي يوفر تمويلاً للطلاب الراغبين في دراسته، كما يعتبر الأمريكي paul zack الأستاذ في نفس المركز من أهم وأشهر الباحثين في هذا العلم، وهو أول من تعرف على دور «هرمون الأوكسيتوسين» في التأثير على سلوكيات الأفراد، وله النصيب الأكبر من الكتابات في الاقتصاد العصبي. وقد اهتمت العديد من الجامعات على مستوى العالم بدراسة التخصص في هولندا وألمانيا وغيرهما، ولكن من المؤسف أنه ليس هناك أي وجود لهذا العلم في الجامعات العربية ولا سيما المصرية.
كيف يحدد العقل البشري السعر الذي يستحقه منتج ما؟
ولإيضاح الفكرة يمكننا أن نتحدث بشكل أكثر تخصيصاً من خلال عرض تجربة على واقع الحياة اليومية للإنسان؛ تبحث عن إجابة لسؤال رئيس مفاده: «كيف يحدد العقل البشري السعر الذي يستحقه المنتج؟»
حيث استُخدمت في تلك التجربة أدوات علم الأعصاب لتسليط الضوء على كيفية اتخاذ أدمغتنا لقرارات الشراء. ومن خلال إجراء العديد من الاختبارات التي كان المشاركون فيها يستجيبون لصور المنتجات وأسعارها، لاحظ الباحثون أن نشاط الدماغ قد اختلف حسب ما إذا كان المشارك قد رأى المنتج أو السعر أولاً.
وكان لذلك أثر على قرارهم بشأن الشراء حيث كان المشاركون أكثر عرضة لشراء المنتج في حال رؤية السعر أولاً، وقد ساعدت نتائج تلك التجربة في مد تجار التجزئة ببعض المعلومات منها أنه في بعض الأحيان يكون من المنطقي التقدم بالأسعار، ذلك أن عرض السعر في البداية يضيق الرابط بين المنفعة الحاصلة من السعر، والفائدة الحاصلة من المنتج ذاته.
وكذلك ساعدهم في تحديد أمور مهمة كالوقت المناسب لرفع الأسعار، وتحديد أي المنتجات تعمل بشكل أفضل مع تلك الاستراتيجية، إضافة إلى كيفية ترويج المنتجات للمستهلكين بشكل أفضل.
أين مصر من دراسة الاقتصاد العصبي؟!
الحقيقة أن عدم وجود مساهمات بحثية في هذا المجال في مصر ليس بالأمر الغريب؛ ذلك أن مستوى التعليم والبحث العلمي فيها يعاني من تراجع كبير، ولكن بالنسبة لعلم الاقتصاد العصبي فثمة أهمية كبيرة للبحث فيه داخل مصر، أو بتطبيق تجاربه وأبحاثه على الشعب المصري بشكل خاص كونه قد يستطيع إيجاد تفسير للسلوكيات الاقتصادية للمصريين والتي تختلف من شخص لآخر وفقاً للمحافظة التي ينتمي إليها.
فمثلاً بينما تمتاز محافظات الصعيد بالكرم الشديد، تمتاز محافظات أخرى بالحرص أو البخل، وينعكس ذلك بالطبع في سلوكياتهم الاقتصادية بخصوص البيع والشراء وغيرها، برغم توافر القدرات المادية لديهم في أغلب الأحيان، كما نجد أن هذه السلوكيات تظل متأصلة فيهم حتى في حال انتقالهم للعيش في مجتمعات أخرى، وهو ما يعني أن هذه السلوكيات غير مرتبطة بمحدوية الموارد لديهم من جانب، وغير مرتبطة بعادات وتقاليد معينة تربو عليها من جانب آخر.
بالتالي فإن هناك أمورا أخرى لها حكم أكبر من حكم المادة، وحكم العادات المكتسبة تؤثر أيضاً في السلوك الاقتصادي لهؤلاء الأفراد قد تكون مرتبطة بالتركيب الجيني لهم، وهنا قد يساعد علم الاقتصاد العصبي في تفسير هذا الأمر. ومحاولة إيجاد حلول لتقويم السلوك الاقتصادي لهم، وجعل قرارتهم الاقتصادية أكثر رشادة وأقل حدة سواء كرمًا شديدًا، أو بخلاً شديدًا، إما من خلال تناول عقاقير معينة، أو من خلال إدخال تعديلات جينية على الأجنة في مراحل مبكرة في حالة إثبات أن هناك جينات معينة تؤثر في القرارات الاقتصادية، أو قد يساعد مثلاً في توفير عقاقير تستخدم في حالة وجود أزمات اقتصادية تستدعي اتباع سلوكيات اقتصادية معينة.
ربما يبدو الحديث خياليًا أكثر من اللازم، ذلك أن الأفكار الجديدة عادة ما تكون محل استنكار وتعجب وعرضة للهجوم، ولكن في كل الأحوال، لا نملك إلا أن نأمل بأن يكون مستقبل علم الاقتصاد العصبي أفضل من حاضره، خاصة وأنه حتى الآن لا نستطيع التحدث عن نتائج ملموسة لهذا العلم الحديث الذي لا يتعدى عمره أكثر من عقدين.