في الأول من ديسمبر/كانون الأول لعام 2009 دخلت معاهدة لشبونة حيز التنفيذ، وكانت أوروبا على موعد مع الحدث التاريخي، الذي مثّل نهايةً لحقبة زمنية ممتدة من عدم اليقين والإيمان بأهمية الاتحاد الأوروبي ككيان مركزي جامع للكتلة الأوروبية، وكانت المعاهدة التفافًا على الدستور الأوروبي الذي رفضته في العام 2005 جماهير الناخبين في كل من فرنسا وهولندا. وكانت جُل هذه المحاولات لأجل أن يكون الاتحاد الأوروبي ذا أهمية كبرى على الخريطة السياسية للعالم، ويعيد ذلك إلى الأذهان نقطة الانطلاق الأوروبية نحو الوحدة، حيث معاهدة باريس لعام 1951، والتي وقعتها 6 دول أوروبية جمعت الجغرافية بينها، وتغيرت على إثرها المصالح الجيو-سياسية للقارة الأوروآسيوية الأوسع.

أوروبا التي بدأت مشوار الاتحاد قبل نحو خمسين سنة، بدأت مشكلاتها الجمعية تتراكم؛ الأزمات الاقتصادية الداخلية المتتالية، كأزمة اليونان، وأزمات الإرهاب الداخلي، ومؤخرًا مشكلات اللاجئين المتصاعدة، والتي أثرت مباشرةً على التماسك المجتمعي الداخلي لأوروبا، فكان البركسيت في يوليو/تموز الماضي، في تحدٍ هو الأعنف للوحدة الأوروبية، أعقبه استفتاء إيطاليا، الذي خسرت على إثره حكومة يسار الوسط، بقيادة رينزي، دولةً أوروبية عريقة، في انتظار الانتخابات البرلمانية الهولندية خلال أيام، تليها انتخابات الرئاسة في فرنسا، وكأنه زلزال يضرب أوروبا، ليزيل الحاجز الجغرافي المتماسك بين الشرق والغرب.


هل تكون هولندا القشة التي تقصم ظهر أوروبا؟

قبل الإجابة على هكذا تساؤل، ينبغي أن نطرح تساؤلًا تأسيسيًا، وهو «لماذا كان التكامل الأوروبي في البداية أمرًا ملحًا؟»، وكما ذكرنا فإن حلم الوحدة الأوروبية يمتد إلى عشرات السنين، وتحديدًا لمعاهدة باريس 1951، وتدشين جماعة الفحم والصلب، التي كان قوامها دولٌ ست؛ هي فرنسا وألمانيا الغربية، وهولندا، ولوكسمبرج، وإيطاليا، وبلجيكا.

وكانت الرغبة في الوحدة الأوروبية ترتكز على أربعة مطالب أساسية، شكّل النمو الاقتصادي قوامها الأساسي، إذ كان التعافي الاقتصادي والرخاء الأوروبي مطلبين ضروريين بعد الحرب العالمية الثانية، وكان تدشين جماعة الفحم والصلب ذات طابع اقتصادي بالأساس، دفع عجلة التنمية الاقتصادية لعقود متتالية دون توقف. الركيزة الثانية، شكلتها ألمانيا الغربية التي كانت وجارتها الشرقية وريثة النازية الألمانية، وكان اندماجها في الأسرة الأوروبية محل شك على الدوام، وبالتالي فإن نظامها الديمقراطي هو الضمانة الأساسية لاستقرار أوروبا. الركيزة الثالثة التي اكتسبت منها الوحدة الأوروبية أهميتها، كونها رادعًا جغرافيًا (إستراتيجيًا) في وجه الاتحاد السوفيتي، وأخيرًا قوّى سوقها الاقتصادي الداخلي تنافسية أوروبا في زمن العولمة.

هولندا التي عطلت ذات يوم مع الجارة الفرنسية مشروع الدستور الأوروبي، عندما رفضاه في يونيو/حزيران 2005، تشهد الأربعاء القادم، منتصف الشهر الحالي، مارس/آذار، انتخابات برلمانية هي الأصعب في تاريخ أوروبا، ليس لما سيترتب عليها بقدر ما هي حساسية الظرف الأوروبي الحالي المتذبذب من الخروج البريطاني ومجيء دونالد ترامب رئيسًا للولايات المتحدة، والذي يسعى لتخفيف العبء الأوروبي التي تتحمله بلاده، من حيث الحماية.

تُتبع الانتخابات الهولندية بالانتخابات الفرنسية، لا يفصلهما سوى شهر وبضعة أيام، وتتزعم استطلاعات الرأي المرشحة اليمينية المتطرفة مارين لوبان، والتي تبدو فرص هزيمتها آخذة في التضاؤل بعد إعلان آلان جوبيه نيته عدم الترشح، فيما تعرض ابن حزبه، فرانسوا فيون لاغتيال معنوي عنيف على إثر اتهامه باستغلال منصبه إبان عمله بالبرلمان وتعيين زوجته وولديه بأعمال وهمية تقاضوا على إثرها أموالًا كبيرة، وهو الأمر الذي قلل من فرص فوزه، حتى أن بعض أبناء حزب الجمهوريين انفضوا من حوله، لتبقى فرصة مارين لوبان هي الكبرى إلى الإليزيه، ومن المتوقع إذا ما فاز اليمين المتطرف في هولندا أن تتضاعف فرص لوبان، لاسيما وأن زعيم حزب الحرية (PVV)، خيرت فيلدرز صديقٌ شخصيٌّ للوبان، الأمر أشبه ربما بورق الدومينو يُسقط بعضه بعضًا، فأي مستقبلٍ ينتظر أوروبا!

اقرأ أيضًا:الانتخابات الفرنسية: فرانسوا فيون والعودة المبكرة إلى الظل


فيلدرز في المقدمة

فيلدرز؛ زعيم حزب الحرية (PVV)، الممثل لليمين المتطرف في هولندا، الذي اتخذ من عداء المهاجرين خطابًا سياسيًا، لاسيما المسلمين – المتطرفين في نظره – والذين اعتبر قرآنهم ككتاب هتلر (كفاحي)، الداعي لغلق المساجد، وجعل «هولندا لنا ثانيةً»، على غرار دونالد ترامب، الراغب في جعل أمريكا عظيمةً ثانيةً.

لشعره الأبيض لقبته بعض الصحف الأوروبية بترامب الهولندي، الراغب في جعل هولندا للهولنديين ثانيةً، من خلال الاستقلالية، وغلق الحدود في وجه اللاجئين، وتخصيص الوظائف لأبناء هولندا فقط.

وكان فيلدرز قد حضر المؤتمر الوطني الجمهوري لعام 2016 في كليفلاند ليشيد بالنصر العظيم الذي حققه ترامب وبوعوده الانتخابية بحظر السفر إلى الولايات المتحدة، واعتبر فوز ترامب نصرًا لتحالف الحرية الدولي «International Freedom Alliance’s». وكان فيلدرز قد واجه الكثير من الانتقادات لتحريضه على التمييز في 2014، ودعوته للحد من عدد المغاربة في هولندا، والذين وصفهم بالحثالة المغاربة في هولندا، وكان في 2011 قد شبه المسلمين بالنازيين، في تصريح عنصري بغيض. وجدير بالذكر أن الجالية المغاربية هي الأكبر في هولندا من غير الأوروبيين، وقد بلغ تعدادها 167.000، طبقًا لإحصاءات عام 2011.

وفيما يخص النظام السياسي في هولندا، الملكية الدستورية، يختار البرلمان الهولندي المكون من 150 عضوًا منصب رئيس الحكومة، الجهة التنفيذية الأعلى في البلاد، ولا يخضع المنصب للاختيار الشعبي المباشر. 13 مليون ناخب أو أكثر لا ينتخبون ممثلًا للسلطة التنفيذية بشكل مباشر، وإنما يقومون باختيار من ينوبهم في هذه المهمة.

150 مقعدًا في البرلمان، تتقاسمها الكثير من الأحزاب، ما يجعل تشكيل حكومة الحزب الواحد أمرًا مستحيلًا، فنجد في الفترة بين عامي 2002 و 2012، لم تتح لأي من الحكومات الهولندية فرصةً لإتمام فترتها كاملةً، فشهدت البلاد 5 انتخابات برلمانية، ويُعزى هذا بالطبع للتحالفات الهشة التي كانت تخرج من رحم هذه الانتخابات، حتى كانت انتخابات 2012، والتي احتل فيها حزب الحرية المرتبة الثالثة بـ10.1%، مقتنصًا 9 من المقاعد، ما أهله للتربع على مقاعد المعارضة، لاسيما وأن حزبي يمين ويسار الوسط (حزب الشعب للحرية والديمقراطية، VVD، وحزب العمل، PvdA) شكلا حكومةً ائتلافية، متخطين كل الأعراف السياسية والأيديولوجية. وكما كان متوقعًا أن مثل هكذا تحالف سيجعل للمعارضة اليمينية المتطرفة ضعف قيمتها، وهو الشيء الذي عززته استطلاعات الرأي قبيل انتخابات مارس/آذار 2017، بتقدم حزب الحرية، لتصل نسبته المتوقعة إلى 15%، بينما تتقلص نسبة الحزب الحاكم المتوقعة، حزب الشعب للحرية والديمقراطية VVD إلى 16% بعد أن كانت 26% في العام 2012، وكذلك تقلصت نسبة حزب العمل PvdA المتوقعة لنحو 8% بعد أن كانت 23%.

أحدث استطلاعات للرأي العام الهولندي حول قائمة الأحزاب المرشحة لانتخابات منتصف مارس/آذار

قبل أيام، كان حزب الحرية متصدرًا للاستطلاعات، لكنه ولسبب ما تأخر إلى المركز الثاني، وهو المؤشر الإيجابي، إذ لم تكن مسألة فوزه بالشيء المؤثر في السياسة الهولندية، لأنه وعلى كل الأحوال لن يتمكن من عقد تحالفات، تسمح له بتغيير موقعه في المعارضة إلى أروقة الحكم، وهو ما يجعل انتصاره انتصارًا شكليًا، يتلقاه الحلفاء في فرنسا بعين الرضا، في معركتهم الانتخابية الأهم.

اقرأ أيضًا:الانتخابات الهولندية: فيلدرز في المقدمة ورعب يجتاح أوروبا

الأمر اللافت للنظر أنه في الوقت الذي تتآكل فيه أسهم الأحزاب الكبيرة، تظهر على السطح أحزاب أخرى صغيرة، تقتات الفتات من الأصوات الضائعة، ولكي يكون قارئُنا الكريم في الصورة، فإن إجمالي عدد الأحزاب التي بات بإمكانها خوض غمار المنافسة، 28 حزبًا من أصل 81 حزبًا تقدمت للمشاركة.

ويُتوقع من خلال استطلاعات الرأي أن عدد 11 إلى 15حزبًا فقط من هذه الأحزاب ستتمكن من شغل مقاعد في البرلمان، ويحتاج الحزب لشغل مقعد واحد حيازة 0.67% فقط إجمالي عدد الأصوات، بينما يحتاج الشخص ليكون رئيسًا للوزراء أن يدعمه 75 عضوًا من أعضاء البرلمان الـ150، وحتى الآن يُتوقع لحزبين فقط عبور عتبة الـ20 مقعدًا، وهما الحزب الحاكم VVD (حزب الشعب للحرية والديمقراطية، يمين الوسط) وحزب الحرية PVV (اليميني المتطرف). كلاهما إذن يحتاج للعديد من التحالفات للوصول إلى الغالبية المطلقة، الأمر الذي يبدو صعبًا بحق حزب الشعب للحرية والديمقراطية، ويبدو مستحيلًا بحق حزب فيلدرز، الذي ترفض غالبية الأحزاب الدخول معه في مفاوضات التشكيل الوزاري، الذي من المفترض أن يستغرق ثلاثة أشهر بعد الانتخابات.ومن هنا فإن مستنقع الحكومات الهشة الذي غرقت فيه المملكة الهولندية، في الفترة ما بين 2002 و 2012، هو الأقرب في ظل تحالفات هشة منتظرة، تتعدد فيها الأحزاب الصغيرة، الحائزة على عدد مقعد ومقعدين وثلاثة من أصل 150، في ظل تراجع أسهم الأحزاب الكبيرة، واحتلال الـPVV مقاعد المعارضة المفضلة له. المهم ألا يفوز اليمين المتطرف قبيل السباق إلى الإليزيه، حيث مارين لوبان تبدو الأقوى.