في مشهدٍ سينمائي ينتقل «فرانسوا فيون» من قائمة المُرشحين غير المُرجح فوزُهم داخل الحزب، فضلًا عن الفوز بالسباق الكبير نحو الإليزيه، إلى قائمة المُرشحين الرئاسييّن الأكثر حظًا، ليكون الُمرشح الأقوى القادر على هزيمة لوبان ثم يعود مرةً أخرى إلى المربع الأول، ويخرج مبكرًا جدًا من سباق الرئاسة وفقًا لاستطلاعات الرأي، إلي الحد الذي يجعل حزبه يبدأ في التفكير في خطةٍ بديلةٍ حال أصبح استمرارُه في الانتخابات أمرًا مُستحيلًا.


من هنا بدأ فيون

«أصغر شابٍ يدخل البرلمان» في عمر السابعة والعشرين، نائبًا في الجمعية الوطنية عام 1981، ثم الفائز بالانتخابات المحلية لبلدة «سابلي سور سارت بمنطقة سارت» عام 1983. ظل بعدها فيون بعيدًا عن القفزات الكبيرة حينًا إلى أن شغل منصب وزير التعليم العالي في حكومة إدوار بلادور (1993-1995)، ثم وزيرًا للتكنولوجيا والبريد والمواصلات في حكومة آلان جوبيه عام 1995، ثم في عام 2003 يصبح وزيرًا للشؤون الاجتماعية، ثم وزيرًا للتربية الوطنية في حكومة جان بيار رفران.

نقطة التحول

ربما ليس غريبًا علي من قال «لن يتذكر الشعب من حصيلة الرئيس جاك شيراك سوى الإصلاحات التي قمت بها» أن يحاول الخروج من عباءة الحكومات المُختلفة، وخاصةً بعد أن تم إقصاؤه من حكومة دومينيك دو فيلبان في 2005، إثر خسارته وفوز الحزب الاشتراكي برئاسة المجلس الجهوي لمنطقة بلاد لوار (وسط فرنسا)، وهكذا يبدأ الفصل الأهم في حياة فرانسوا فيون.

الخروج من الظل

انضم فيون للعمل تحت لواء حزب «الاتحاد من أجل حركة شعبية» (الجمهوريون حاليًا)، وبدأ العمل في التحضير لحملة «نيكولا ساركوزي» للفوز بالرئاسة عام 2007، الأمر الذي أتى بثماره بعد الفوز؛ إذ أصبح فيون رئيسًا للحكومة حتى عام 2012، عام وصول فرنسوا أولاند للسلطة وخروج ساركوزي. وهو أيضًا العام الذي قرر فيه فيون أن يكف عن العمل بصفته الرجل الثاني أو رجل الظل، وبدأ طريقه نحو القيادة؛ بالمنافسة على قيادة حزب «الاتحاد من أجل حركة شعبية»، ولكن أتت رياح الانتخابات الداخلية التي شابها احتمالُ التزوير بما لم تشتهِ نفس فيون.

هنا كان الخروج الأول لفيون عن طبيعته الهادئة والمُحبة للحديث بعيدًا عن التراشق اللفظي والعراك السياسي – الأمر الذي يجعل البعض يقول إنّه اكتسب هدوء وأناقة البريطانيين من زوجته «بيبليوب» – ليبدأ عراكًا داخليًا، حتى لوّح باحتمالية إنشائه لحزبٍ جديد، لكن الأمر انتهى داخليًا كذلك؛ بحصول فرانسوا على وعدٍ بانتخابات تمهيدية مفتوحة لاختيار مُرشح اليمين عام 2017.


عام «الانتخابات الداخلية» المُرتقب

أتى عام 2016، ليُنفذ فيون وعده بالدخول إلى الانتخابات التمهيدية، وبدأ فيون حملةً ذات طابع خاص، امتاز خلالها بالبعد عن وسائل الإعلام، والاكتفاء باللقاءات الميدانية مع سكان الأقاليم وريف فرنسا، ومن الواضح أن تلك الحملة قد نجحت؛ إذا صعد نجم فيون فجأةً بعد أن كان فوزه مُستبعدًا بسبب وجود آلان جوبيه – المرشح الأقوى وصاحب المركز الأول منذ بداية الانتخابات التمهيدية – ونيكولا ساركوزي – زعيم الحزب والرئيس الفرنسي السابق.

حيث أظهرت استطلاعات رأي الرابع عشر من نوفمبر/ تشرين الثاني عام 2016، تقدم فيون بنسبة 18%، وتراجع آلان جوبيه صاحب المركز الأول إلى نسبة 36%، وخروج ساكوزي من الدور الأول بسبب اقتراب فيون من المركز الثاني، الأمر الذي سبب له حرجًا كبيرًا؛ فآثر الانسحاب والاصطفاف خلف فيون – رئيس حكومته السابق – ثم حُسم الأمر بعد شدٍ وجذب لصالح فيون فحصل على 66.5% مقابل%33.5 لجوبيه.

الصعود الكبير

فجأةً أصبح صاحب المركز الثالث هو المُرشح الأقوى لرئاسة فرنسا، حيث أظهرت استطلاعات الرأي تصدّر فرانسوا فيون في الدورتين الأولى والثانية في استطلاعين منفصلين، إذ أشار الأول إلى أن فيون سوف يحصل في الدورة الأولى على 26% من الأصوات، مقابل 24% لزعيمة الجبهة الوطنية، مارين لوبان (يمين متطرف)، على أن يحصل مرشح اليسار، سواء كان الرئيس فرانسوا أولاند أو رئيس الوزراء مانويل فالس على 9% فقط من أصوات الناخبين، وسيحصل فيون في الدورة الثانية على 67% من الأصوات مقابل 33% للوبان. وفي استطلاعٍ آخر للرأي حصد فيون 71% من الأصوات في الدورة الثانية مقابل 29% لمارين لوبان.

ولسنا هنا في معرض للحديث عن البرنامج الانتخابي لفرنسوا، الذي تناولته إضاءات في تقريرٍ سابقٍ لها، تحت عنوان ثلاثة أسباب تجعل فرانسوا الأقرب إلى رئاسة فرنسا.


ما طار «فيون» وارتفع إلا كما طار وقع!

صدق الشافعي – إمامُ أحد المذاهب الأربعة – عندما قال: «ماطار طيرٌ وارتفع، إلا كما طار وقع». أتت الضربة القاضية من جريدة «لوكانار أنشينيه» الساخرة؛ حيث نشرت تقريرًا يتهم زوجته «بينيلوب فيون»، بالاستفادة من وظائف وهمية كمساعدة برلمانية لزوجها فرانسوا فيون، أو للمنتدب عنه مارك جولو، وككاتبة في مجلة ثقافية. وحسب ما أوردت الصحيفة؛ فإنّ «بينيلوب» تقاضت ما مجموعه 500 ألف يورو عن السنوات ما بين 1998 و2013، عن وظيفتها الوهمية كمساعدة برلمانية، وقالت في عددٍ آخر أن المبلغ يتجاوز الـ900 ألف يورو!

و لم تكتفِ بذلك، بل ذكرت أيضًا أن ابني فيون عملا أيضًا مساعدين برلمانيين لوالدهما، وتقاضا 84 ألف يورو بين العامين 2005 و2007، عندما كانا طالبين في الجامعة، وكان فيون قد أعلن وقتها أنهما يعملان بصفتهما محاميين!

أدت تلك الاتهامات إلى فتح تحقيقٍ قضائي تحت مُسمى «اختلاس أموال عامة، وسوء استغلال أملاك اجتماعية، وتواطؤ وإخفاء جرائم، وسوء استغلال نفوذ، والإخلال بواجب إبلاغ السلطة العليا حول شفافية الحياة العامة».

كيف تعامل فرانسوا مع الفضيحة

في البداية أنكر الاتهامات كاملةً وقال إنّ زوجته تعمل معه بشكل قانوني، وأن كونها زوجته لا يمنعها من العمل معه، واعتبر الأمر مُجرد محاولة اغتيالٍ سياسيةٍ من خصومه الآخرين، كان صوت فيون قويًا كبريء واثق أو سياسيّ مُتمكن من الخداع – كونه سياسيًا – إلى الحد الذي دفعه إلى القول بأنّه على استعداد لمُساعدة المُحققين في ذلك.

ولكن كعادة الأوساط السياسية والإعلامية، فمجردُ صوت الاتهام أقوى من صوت البراءة أو ثبوت التُهمة، واستطلاعات الرأي لا تعترف بحسن النوايا ولا بحقيقة الأمور؛ فإذا ما تعكرت صفحة مُرشحٍ مرةً صار من الصعب أن تنتظرها استطلاعات الرأي حتى تَطهرَ مرةً أخرى أو حتى تثبت براءتها.

الأمر الذي لم يجعل أمام فرانسوا فيون خيارًا سوى الاعتذار عن الأمر، والإقرار أن تعيين زوجته وولديه كان أمرًا خاطئًا، إلا أنّه أكدّ على أن الأموال التي تقاضونها كانت قانونيةً للغاية.


العودة إلى الظل

بعد أن كانت الأخبار تتواتر عن أن فيون قد حصل بالفعل على تأشيرة دخول الإليزيه نظرًا لعدد الأصوات التي حصل عليها، ووفقًا لاستطلاعات الرأي المذكورة آنفًا، بالإضافة إلى تشرذم اليسار الفرنسي، أصبحت استطلاعات الرأي تتحدث عن خسارة الانتخابات من الجولة الأولى.

فوفقًا لاستطلاع الرأي الذي أجراه معهد إيفوب للاستطلاعات، لحساب صحيفة جورنال دو ديمانش، فإن نحو ثلثي الناخبين الفرنسيين يرغبون في انسحاب فيون من سباق الرئاسة، وإن أقل من 19% فقط من الفرنسيين هم المستعدون لانتخاب فيون.

وكذلك استطلاع الرأي الجديد الذي أجراه معهد «إيلاب» للأبحاث والاستشارة بالتعاون مع صحيفة «ليزيكو»، والتي قالت إن فيون سيتكبد الهزيمة في الجولة الأولى من الانتخابات.

ربما ليست المشكلة في استطلاعات الرأي وحدها، بل المشكلة الحقيقة تكمن في «طعنة الأصدقاء» التي أدت إليها الاستطلاعات، حيث بدأت بعض الأصوات اليمينّة تعلو بضرورة اللجوء إلى «الخطة ب».

«الخطة ب»

طبقًا لأحد أعضاء حزب «الجمهوريين» لصحيفة «لوموند» الفرنسية: «أعتقد أن المعنى الوحيد بخطة (ب) هو جوبيه،لأنه لا يوجد أحد سواه يملك قدرات كافية». حيث يرغب العديد من أعضاء الحزب أن يُغيّر «آلان جوبيه»، عمدة مدينة بوردو، رأيه بخصوص عدم الترشح مرةً أخرى بسبب خسارته أمام فيون في الانتخابات التمهيدية، إذ يلوح في الأفق ميلٌ شديدٌ إلى انتخابه بدلًا من فيون، الأمر الذي حسمه جوبيه قبل أيام، بإعلانه نيته عدم الترشح لانتخابات 2017.


فَتشْ عن المرأة

يقولون إن المرأة هي التي تمنحُ للحياة طعمها، وهي التي تسلبه كذلك، ويبدو أن سينمائية قصة فيون المُرشح القوي والذي كانت زوجته السبب في زلزلة عرشه شِبه الثابت، تُحتم أن ينتقل العرش من تحته إلى امرأةٍ أخرى، الغنيّة عن التعريف ماري لوبان. فلوبان هي المُنافس الأقوى لفيون، والتي يبدو أنّها على وشك هزيمته عاجلًا أو آجلًا.

عاجلًا؛ فوفقًا لأعضاء حزب الجمهورين، فأحد أهم الأسباب التي تدفعهم إلى الخطة (ب) هو وجود ماري لوبان في المُنافسة، فكما يقول وزير التعليم الفرنسى السابق، لوك فيرى، فى تغريدة نشرها على حسابه على تويتر، «إنّه من الممكن أن تنتصر ماري لوبان، فى مثل هذه الظروف الجنونية، على كل من إيمانويل ماكرون – مرشح المعسكر اليساري – ولنكون صريحين فإن جوبيه هو السياسي الوحيد في فرنسا القادر على التغلب بثقة على لوبان».

آجلًا: وذلك في حالة إصرار فيون على الاستمرار في السباق، الأمر الذي يبدو صعبًا بعض الشيء؛ إذا صرح «بأنّه سوف ينسحب إذا تم التحقيق معه رسميًا»، ولكنّه عاد وتراجع وأكد استمراره، ولكن يبدو أن أعضاء الحزب لن يقفوا مكتوفي الأيدي، إذ أعلن عددٌ منهم الانسحاب من حملة دعم فيون، الأمر الذي يُهدد ببوادر انقسامٍ داخلي.

اقرأ أيضًا:تعرف على أبرز ملامح الخطاب السياسي لـ«مارين لوبان»

ووفقًا لاستطلاعات الرأي؛ فإن فرص لوبان قد تعززت عن السابق، وهي في طريقها إلى مزيد من القوة بسبب الانخفاض المُستمر في شعبية فيون، وبسبب تراجع هامش فوز ماكرون على لوبان من ثلاثين إلى عشرين نقطة في غضون شهر.

ولكن خروج فيون يجعل أمل الفوز يُداعب المُرشح الأخير، إيمانويل ماكرون، ربما ليس بقوة لوبان ولكنّ الطريقة التي صعد بها فيون نفسه لا تجعلنا نستبعد مفاجأةً جديدةً من إيمانويل ماكرون في الأيام المقبلة.

المراجع