دانيل إنجبير | وايرد، 26 يناير 2016

استمرَّت العملية الجراحية للدماغ لإحدى عشر ساعة ونصف، ابتداءً من ظهر يوم 21 يونيو 2014، وامتدادًا إلى ما قبل فجر الكاريبي من اليوم التالي. وفي فترة ما بعد الظهر، وبعد أن تناقص التخدير تدريجيًا، جاء جرَّاح الأعصاب، وخلع نظاراته ذات الإطار السلكي، ورفعها أمام مريضه المضمَّد للفحص. “ماذا تُدعى هذه؟” سأل.

حدَّق فيل كينيدي Philip R. Kennedy في النظارات للحظة. ثم جنح ببصره إلى كل من السقف والتلفزيون. “اه… اه… اي… اييي”، تلعثم بعد حين، “اييي… اييي… اييي”.

فقال الجراح، جويل سرفانتس، “لا بأس، لا تتسرع”، في محاولة منه ليبدو هادئًا. ولكن مجددًا حاول كينيدي الإجابة. بدا الأمر وكأنه يحاول إجبار دماغه على العمل، كشخص ملتهب الحلق يجبر حلقه على بلع الطعام. وفي الوقت نفسه، بقي عقل الجراح يحلِّق مرة أخرى نحو نفس الأفكار غير المريحة: “ما كان ينبغي لي أن أفعل هذا”.

عندما وصل كينيدي إلى مطار مدينة بليز قبل بضعة أيام، كان واضحًا ودقيقًا، ومشدودًا يبلغ من العمر 66 عامًا، وله مظهر جيد وموثوق لطبيب تلفزيوني. لم يكن ثمة أي شيء خاطيء فيه، وما من حاجة طبية لسرفانتس حتى يفتح جمجمته. لكن كينيدي يريد عملية جراحية في الدماغ، وهو على استعداد لدفع ثلاثين ألف دولار لقاء ذلك.


صاحب السايبورغ الأول

كان كنيدي نفسه ذات مرَّة طبيب أعصاب شهير. في أواخر التسعينيات، صنع عناوين الصحف العالمية عندما قام بزرع عدة أقطاب لأسلاك في دماغ رجل مصاب بالشلل ومن ثم قام بتعليم المريض المثبَّت السيطرة على مؤشر جهاز الكمبيوتر بعقله. دعا كينيدي مريضه “سايبورغ الأول” في العالم، وأشادت الصحافة بعمله الفذ من حيث إنه يُعَدُّ المرة الأولى التي يوصل فيها شخص من خلال وسيط الدماغ والحاسوب. ومنذ ذلك الحين، كرَّس كينيدي حياته لحلم بناء سايبورغات أكثر وأفضل وتطوير وسيلة لرقمنة أفكار الشخص تمامًا.

وفي صيف عام 2014، قرر كنيدي أن السبيل الوحيد للمضي قدمًا في مشروعه هو أن يجعله شخصيًا. ومن أجل قفزته العلمية التالية، فإن عليه الاتصال بدماغ إنسان بصحة جيدة. دماغه هو.

ومن ثمَّ رحل كينيدي إلى بليز لإجراء عملية جراحية. وقام مزارع برتقال محلي وصاحب ملهى ليلي سابق، هو بول بوتون، بإدارة الخدمات اللوجستية لعملية كنيدي، وكان سرفانتس – أول جراح أعصاب بليزي أصلي – من استعمل المشرط. أسس كل من بول بوتون وسرفانتس “كوالتي اوف لايف سيرجاري”، وهي عيادة للسياحة الطبية تتعامل مع الألم المزمن واضطرابات العمود الفقري، وكذلك تتخصص هذه الأيام في شد البطن، وتجميل الأنف، وإنزال وزن الغدة الثديية الذكورية المتضخمة، وتعزيزات طبية أخرى.

في البدء، سرت العملية التي اختار كينيدي كارفانتس ليجريها له على ما يرام، وهي عملية زراعة مجموعة من الأقطاب السلكية الزجاجية والذهبية تحت سطح دماغه. فلم ينزف الكثير من الدماء أثناء العملية. ولكن مرحلة التعافي كانت مليئة بالمشكلات. فبعد يومين، وبينما كان كينيدي جالسًا على سريره، إذ فجأة، بدأ فكه حركاتٍ عصبية سريعة، وشرعت إحدى يديه بالاهتزاز. انتاب بوتون خوفٌ حول أن تلك النوبة ستكسر أسنان كينيدي.

كذلك استمرت مشكلاته اللغوية. يقول بوتون: “لم تعد تصرفاته منطقية”، “بل ظل يعتذر كثيرًا لأنه لم يستطع قول أي شئ سوى “آسف””. لا يزال كينيدي متمتعًا بالقدرة على نطق بعض المقاطع والكلمات المبعثرة، ولكنه بدا فاقدًا للروابط التي تجمعها إلى عبارات وجمل. عندما التقط كينيدي قلمًا وحاول كتابة رسالة، حَوَت الرسالة محض حروف عشوائية مكتوبة على ورقة.

أعجب بوتون في البدء بما وصفه بـ”نهج إنديانا جونز العلمي” الخاص بكينيدي؛ بعد توجهه إلى بليز، وكسره للقواعد المتعارف عليها للبحث العلمي، ومخاطرته بعقله. ولكن هذا هو ما وصل إليه، لقد احتجِز داخل دماغه. يقول بوتون: “ظننت أننا قد دمرناه لمدى حياته”، “كنت أقول ما هذا الذي فعلناه به!”

بالتأكيد أدرك الطبيب الأمريكي ذي الأصول الأيرلندية، كينيدي، المخاطر أكثر من بوتون وسرفانتس. فكينيدي هو من اخترع تلك الأقطاب، وأشرف على زراعتها داخل العديد من الأشخاص. لذلك فإن السؤال ليس متعلقًا بما فعله بوتون وسرفانتس بكينيدي، بل بما فعله فيل كينيدي بنفسه.


عقل وحاسوب

منذ اختراع الحواسب الآلية تقريبًا، دائمًا ما حاول أشخاصٌ التوصل إلى طريقة للتحكم بها عبر أدمغتنا. ففي العام 1963، أورد عالم بجامعة أوكسفورد أنه قد توصل إلى طريقة استخدام الأشعة الدماغية الخاصة بالإنسان للتحكم في آلة عرض بسيطة. وفي نفس الفترة تقريبًا، اجتذب طبيب أعصاب أسباني بجامعة يال، خوسيه ديلجادو، عناوين الأخبار بكشف كبير أجراه بحلبة لمصارعة الثيران بقرطبة، أسبانيا. كان ديلجادو قد اخترع جهازًا أطلق عليه “ستيموسيفر”، وهو جهاز يزرع بالدماغ ويُتحكم به عن طريق الموجات اللاسلكية، يمكنه التقاط الإشارات العصبية وتوصيل صدمات كهربائية ضئيلة إلى قشرة المخ. عندما خطى ديلجادو إلى داخل الحلبة، لوح بغطاء رأس أحمر ليدفع الثور إلى المهاجمة. وبينما اقترب الثور، ضغط ديلجادو زرين على جهازه اللاسلكي؛ أثار الأول النواة الذنبية لدى الثور وأبطئه حتى توقف؛ أما الثاني فجعله يغير اتجاهه ويهرول تجاه حائط.

تطلع ديلجادو إلى استخدام أقطابه للاطلاع مباشرة على أفكار الإنسان؛ قرائتها، تعديلها، وتحسينها. “وصل الجنس البشري إلى نقطة تحول تطورية. نحن قريبون جدًا من التوصل إلى القوة اللازمة لبناء وظائفنا العقلية”، حسبما صرح ديلجادو لصحيفة “نيويورك تايمز” عام 1970، بعد تجربته زراعة أجهزته داخل أدمغة بشر معاقين ذهنيًا. “ولكن يبقى السؤال، أي نوع من البشر سنود، على نحو مثالي، أن نبنيهم؟”

وفق المتوقع، أثارت أعمال ديلجادو استياء الكثيرين. وخلال السنوات التي تلت، تلاشى برنامجه، فقد تعرض لهجمات بفعل الجدل المثار بشأنه، افتقد التمويل اللازم لإجراء أبحاثه، وأُعيق بفعل تعقيدات تكوين المخ، الذي لم يكن سريع التأثر بالتوصيلات السلكية البسيطة، مثلما تخيل ديلجادو.

وفي غضون ذلك، استمر العلماء أصحاب الأجندات الأكثر تواضعًا – الذين أرادوا ببساطة حل شفرة الإشارات الدماغية، وليس السيطرة على الحضارة البشرة بواسطة الخلايا العصبية – في زراعة الأسلاك داخل أدمغة حيوانات المختبر. بحلول الثمانينيات، اكتشف علماء الأعصاب أنه إن زرعت جهازًا لتسجيل إشارات مجموعات من الخلايا داخل، على سبيل المثال، القشرة الحركية لقرد، ثم وضعت متوسطًا لتلك الإشارات، ستتمكن من إدراك متى ينوي القرد تحريك أطرافه؛ وهو اكتشاف اعتبره الكثيرون أول خطوة ضخمة نحو تطوير الأطراف الصناعية الخاضعة لسيطرة المخ البشري.

ولكن عمليات زرع الأقطاب الدماغية التقليدية، المستخدمة في الكثير من هذه الأبحاث، واجهت عقبة كبيرة؛ فالإشارات التي التقطتها كانت غير مستقرة بشكل ملحوظ. ولأن المخ عبارة عن وسط له قوام هلامي، أحيانًا ما تنحرف الخلايا عن نطاقها أثناء تسجيل إشاراتها، أو قد ينتهي أمرها بالموت نتيجة صدمة الاحتكاك بقطعة معدنية مدببة. وفي النهاية، يمكن للأقطاب أن تتكتل مع أنسجة الندبات لدرجة تلاشي إشاراتها كليًا.

بدأت تجربة فيل كينيدي – التي ستميز مسيرته المهنية في علم الأعصاب وتضعه في النهاية على طاولةٍ لإجراء عملية جراحية في بليز – كمحاولة منه لحل تلك المشكلة الأساسية بمجال الهندسة الحيوية.

انطوت فكرته على سحب الدماغ إلى داخل القطب الكهربي، حتى يظل القطب الكهربي مثبتًا بأمان داخل الدماغ. ولفعل ذلك، ألصق أطراف بعض الأسلاك الذهبية المغطاة بالتفلون داخل مخروط زجاجي أجوف. وداخل ذات المساحة الضئيلة، أضاف عنصرًا آخر هامًا؛ شريحة رقيقة من عصبٍ وركي. ستعمل تلك الشريحة من المادة البيولوجية على تخصيب النسيج العصبي المجاور، لتدفع الأذرع المجهرية من الخلايا الداخلية إلى الانتشار داخل المخروط. وبدلًا من وضع السلك عاريًا داخل القشرة الدماغية، سيحمل كينيدي الخلايا العصبية على تمديد زوائدها حول السلك، لتقيده في موضعه كتعريشة لشجرة اللبلاب. (أما في حال إجراء التجربة على عناصر البشرية، سيُستبدل العصب الوركي بمزيج كيميائي معروف بمحاكاته للنمو العصبي).

وفر تصميم المخروط الزجاجي ميزة رائعة. حيث يستطيع الباحثون بفضله ترك أسلاكهم في موضعها لفترات ممتدة من الزمن. وبدلًا من التقاط قصاصاتٍ من نشاط الدماغ خلال جلسات منفردة في المختبر، يمكنهم الاستماع إلى تسجيلات للثرثرة الكهربائية للمخ لمدى الحياة.

أطلق كينيدي على اختراعه “القطب العصبي”. وبعد فترة وجيزة من توصله إليه، ترك منصبه الأكاديمي بكلية جورجيا للتكنولوجيا، وأنشأ شركة مختصة بالتكنولوجيا الحيوية أطلق عليها “نيورال سيجنالز”. في عام 1996، وبعد سنوات من إجراء الاختبارات على الحيوانات، حصلت الشركة على موافقة إدارة الأغذية والعقاقير الأمريكية على زراعة أقطاب كينيدي المخروطية داخل مرضى من البشر، حيث مثل ذلك شريان حياةٍ محتمل للأشخاص الذين لا سبيل آخر لهم للحركة أو الكلام. وفي عام 1998، توصل كينيدي ومعاونه الطبي، جراح الأعصاب بجامعة إيموري، روي باكاي، إلى المريض الذي سيرفعهم إلى مصاف مشاهير العلماء، وهو ما سنتحدث عنه في المقال القادم.

المراجع
  1. The Neurologist Who Hacked His Brain—And Almost Lost His Mind