منذ أن اكتشف البشر تلك الكتلة الرخوة التي أسموها مخًا، وعرفوا كيفية عمله شيئًا فشيئًا، والأحلام تراودهم بأن يصنعوا واحدًا كاملًا بكل تعقيداته ونشاطاته. بالطبع كان ذلك أسهل في أعمال الخيال العلمي من كتب وأفلام عن معامل التكنولوجيا الحيوية والنانوية. لكن العمل مازال مستمرًا بدأب وإصرار. وها هي خطوة جديدة اتُّخذت ولاحت ثمارها في الأفق.


حواسيب صغيرة

يعتمد المخ في عمله على خلاياه العصبية المسماة «نيورونات neurons»، والتي يمتلك منها بشكل عام ما يقارب 86 بليونًا1. تلك الخلايا التي تحمل الإشارة الكهربية، وتنقلها للخلية المجاورة عن طريق التشابكات العصبية لتصل في نهاية المطاف إما للمخ أو منه إلى أحد الأعضاء لتتم الاستجابة.

تلك هي الفكرة العامة لكن الأمر أعقد من هذا بكثير. لا يمكنك أن تصنع مضخة صوديوم وبوتاسيوم وتقوم بزرعها في أي خلية غير قابلة للإثارة وتحصل على نيورون.

لما لا؟ في الواقع يمكننا اعتبار النيورون كآلة حاسبة صغيرة وظيفتها الحيوية هي جمع النبضات الكثيرة التي تصل إليها summation ومقارنتها بقيمة جهد معينة تعرف باسم «Threshold». إن وصل المجموع إلى هذه القيمة أو تعداه فإن الخلية تقوم بنقل النبضة هي الأخرى، وهذا هو ما تعنيه القابلية للإثارة. هكذا تنساب النبضات العصبية على طول الخلايا حتى منتهاها في المخ أو الحبل الشوكي.

لكن أي جزء من الخلية العصبية يقوم بعملية المعالجات والجمع والمقارنة تلك؟ لغشاء الخلية العصبية خواص تعرف باسم خواص الغشاء membrane properties. من بين هذه الخواص نجد خواص متعلقة بالزمن Time constant وخواص متعلقة بالطول Length constant. ولكن ما فائدتهما؟


لمحاكاة أكثر دقة

عندما تتوالى المثيرات العصبية على الخلية العصبية، تتحكم الخاصية الأولى فيما إذا كان سيتم إضافتها وجمعها (للوصول إلى الجهد الحرج Threshold) أم لا. يعني هذا أنه إذا كان الثابت الزمني أعلى لخلية ما فإن هناك احتمالية أكبر أن يتم جمع نبضتين متتاليتين تفصلهما فترة زمنية أكبر.

أما ثابت الطول فإنه يحدد النسبة التي سيتم فقدها من النبضة خلال ارتحالها على طول الخلية. بالتالي فإن خلايا ذات ثابت طول أصغر ستؤدي لفقدان الكثير من قوة النبضة أثناء عبورها، والعكس بالعكس2.

رغم صعوبة تقليد ومحاكاة كل هذه الخواص، فإن صناعة ترانزيستور يقوم بمحاكاة خلية عصبية ليس أمرًا جديدًا، لكن ما تم صنعه حتى الآن كان يختلف جذريا عن النيورون الحقيقي من حيث جهد إطلاقه. فبينما تعمل الخلية العصبية عند ترددات تقارب 5 ميجاهيرتز، كان الترانزيستور المحاكي يعمل عند تردد 0.05 هيرتز.

هذا هو ما استطاع الباحثون التغلب عليه حديثًا.حيث نشر علماء من جامعة العلوم الإلكترونية والتقنية بالصين وجامعة نانيانج بسنغافورة بحثًا جديدًا في دورية “نانوتكنولوجي” عن صناعتهم لترانزيستور عصبي يعمل في نطاق واسع من الترددات ما بين 0.01 هيرتز إلى 15 هيرتز.


خلايا ذات عقول

ما أهمية صنع الترانزيستورات وغيرها من المكونات المحاكية لوظائف وأنشطة المخ؟ إن هذه المكونات هي أحجار الأساس لحقبة الحوسبة العصبية Neural Computing والمعدات المورفولوجيا العصبية Neuromorphic التي تهدف لمحاكاة عمل المخ كاملًا.

نعني هنا كاملًا حرفيًا. لا تعبر حركة السيالات العصبية في الخلايا عن العمل الكامل للمخ كمنظومة تستقبل خبرات وتقوم بصنع قواعدها الخاصة. قادت شركة IBM الطريق نحو محاولة اصطياد روح هذه المنظومة بشكل كامل عند استخدامها لمواد نانوية تغير من حالتها phase الصلبة إلى السائلة، وتربط بين مكونات إلكترونية تحاكي الزوائد الشجيرية dendrites والمحور العصبي Axon للخلية العصبية. سميت هذه المواد باسم Chalcogenides.

هل نقوم بكل هذا الجهد لتطوير الذكاء الاصطناعي؟ يكمن اختلاف الحوسبة العصبية من هذا المنظور عن منظور الذكاء الاصطناعي في اعتماد الذكاء الاصطناعي على الحتمية في مقابل تقبل الحوسبة العصبية لعشوائية stochastic عمل المكونات العصبية.

بينما يعتمد الذكاء الاصطناعي على الإمداد بالقواعد، تقوم معدات الحوسبة العصبية بتكوين قواعدها بناء على الخبرات التي تكتسبها، والتي لا يمكن معرفتها بالضرورة، تماما كما يعمل الوعي3

تعمل حتمية الذكاء الصناعي ضد مصلحته في كثير من الأحيان. إذا استطعت أن تقوم بتعليم روبوت ما خمس خطوات للتعرف على شجرة، فإن اختلافات بسيطة في شكلها أو هيئتها قد يؤدي لعدم إدراك الروبوت للكينونة التي يميزها طفل صغير بدون عناء. لهذا تحاول الحوسبة العصبية جعل الروبوتات تخوض عملية تعليم مشابهة لما تخوضه خلايا مخ البشر لا أن تقوم بمحاكاتها وظيفيًّا وشكليًّا فقط. هكذا يصبح من الممكن صناعة مقاربة جديدة تماما لتقنيات التعرف على الصوت ومحاكاة الحواس بشكل عام.

المراجع
  1. 1- Alan Longstaff-BIOS Instant Notes in Neuroscience
  2. 2- kandel – principles of neural science
  3. 3- Igor Alexander-Neural computing archtictures