لا يكاد يمر يوم دون أن يجأر طبيبٌ بالشكوى من كارثة المقاومة البكتيرية للمضادات الحيوية، والتي أصبحت تهديدًا حقيقيًا للحياة الإنسانية، ظهر في الأرض بما كسبت أيدينا من إساءة استخدام هذا الكنز الثمين، الذي أنقذ حياة عشرات أو مئات الملايين منذ اكتشافه. سرعان ما دار الزمان دورته، وأوشكت البشرية أن تعود مجددُا للماضي البائس الذي كان يهلك فيه الملايين بالطواعين المختلفة، وبالجوائح المرضية، دون أن نملك الكثير لمواجهة هذا.

على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي، يتبادل الأطباء – خاصة التخصصات المحتكَّة بالإصابات البكتيرية كالعناية المركزة، والصدر الباطني، والأمراض المعدية – صورًا لنتائج مروعة لمزارع بكتيرية أُجريَت لمرضاهم المصابين بالعدوى، أظهرت مقاومة البكتيريا المصابين بها لكافة أنواع المضادات الحيوية المعروفة، حتى أوسعها مجالًا، وأغلاها ثمنًا، والتي تُنتَج في الدول ذات المنظومات الصحية الأكثر رقيًًا. مما يعني ببساطة أن الطبيب لا يملك لهذا المريض أكثر من الدعاء.

لا تقتصر الكارثة على دولنا النامية التي يُصرَف فيها المضادات الحيوية دون ضابط أو رابط، وبدون روشتة طبية، إنما تعاني منها البلاد الأكثر تقدمًا أيضًا. يذكر المركز الأمريكي للتحكم في الأمراض CDC أن في الولايات المتحدة وحدها – وهي صاحبة أقوى منظومة صحية على وجه الأرض – تحدث حوالي 3 ملايين إصابة بالبكتيريا المقاومة للمضادات الحيوية في العام الواحد. تذهب بعض التقديرات العلمية، إلى أنه باستمرار المعدلات الحالية من تفشي ظاهرة مقاومة المضادات الحيوية، فإنه بحلول عام 2050، سيتجاوز عدد الوفيات بالبكتيريا المقاومة 10 ملايين، وهذا الرقم يتجاوز عدد قتلى الحرب العالمية الأولى، ويتجاوز ضحايا السرطان، وحوادث الطرق، مجتمعيْن.

اقرأ أيضًا: سوء استخدام المضادات الحيوية: انتحار جديد للإنسانية

ولعل أشد ما يثير المخاوف في هذه القضية، أنه خلال العقود الأخيرة لم يُكتَشف مضادٌ حيوي جديد، وجُلَّ ما ظهر كان تنويعات ضمن نفس المجموعات الدوائية المعروفة، ودوران في أفلاك القديم، مما يعني أن أسلحتنا في تلك المواجهة المصيرية تتحول بمرور الوقت إلى أسلحة بدائية، بينما عدونا – بعد أنفسنا – البكتيريا يطور على قدمٍ وساق من آليات مقاومته، ويزداد ضراوة وفتكًا. ولعل البعض قد يتفاجأون عندما أخبرهم أن بعض المضادات الحيوية القوية التي تُباع في صيدلياتٍ في ريف مصر، دون داعٍ طبيٍّ، هي نفسها التي تستخدم للمصابين بالعدوى البكتيرية شديدة الخطورة في العنايات المركزة، والحضَّانات في أرقى مشافي العالم. وفي عالمٍ تنهار الحواجز بين أرجائه، فإن كارثة سوء الاستخدام ستطال الجميع بلا استثناء أيًّا كان موقعهم أو حالهم.

من هنا كانت أهمية الكشف العلمي الجديد الذي أُعلِن عنه في هذا الأسبوع الأخير من شهر نوفمبر/ تشرين الثاني عام 2019، والذي كان أبطاله فريق من الباحثين في مجال البكتيريا المُقاوِمة، تابع لجامعة مكماستر الكندية.

فتحٌ جديد

بدون المضادات الحيوية، لا يوجد طب حديث.
جيري رايت، الباحث في معهد أبحاث الأمراض المعدية التابع لجامعة مكماستر الكندية

لا مبالغة على الإطلاق في استخدام وصف «الفتح» للتعبير عن أهمية المُكتَشَف الجديد، حتى وإن كان لا يزال في طور التجريب والتطوير. فريق بحثي من جامعة مكماستر الكندية، يضم باحثًا مصريًا في الكيمياء الحيوية هو «عمر الحلفاوي»، نجح في تطوير مُركَّب جديد يضرب البكتيريا المقاوِمة للمضادات الحيوية في مقتل، خاصة من سلالات «البكتيريا العنقودية – Staph aureus»، والتي تعبر من أشهر مسببات العدوى في الإنسان بكافة درجاتها، من مجرد دمامل الجلد، مرورًا بالالتهابات الخلوية، وانتهاء بالتسمم البكتيري العام في الدم.

صورة مجهرية للعديد من مجموعات بكتيريا المكورات العنقودية الذهبية المقاومة للميثيسيلين
صورة مجهرية للعديد من مجموعات بكتيريا المكورات العنقودية الذهبية المقاومة للميثيسيلين

ركَّز الفريق البحثي على وجه الخصوص على نوعٍ شديد الخطورة من البكتيريا العنقودية، والمعروفة اختصارًا بـ MRSA، والتي تعني «البكتيريا العنقودية المقاومة للميثيسيللين»، والمسؤولة عن الكثير من أنواع العدوى الخطيرة، خاصة العدوى التي تنتقل أثناء الحجز بالمشافي، والتي غالبًا ما تكون مقاوِمة لمعظم المضادات الحيوية، باستثناء عدد محدودٍ يعد على أصابع اليد الواحدة، والتي تكون غالبًا من المضادات باهظة الثمن ماديًا، وعالية الكلفة من ناحية الآثار الجانبية. وظهرت فصائل عديدة من MRSA مقاومة لكل المضادات الحيوية بدون استثناء.

في بحثهم المنشور في مجلة نيتشر المرموقة، ذكر الباحثون أن المركب الجديد، والذي أطلقوا عليه اسمًا أوليًا «MAC-545496» ليس مضادًا حيويًا تقليديًا، فهو لا يحاول مهاجمة أجزاءً حيوية من جسم البكتيريا لقتلها كما تفعل الكثير من المضادات الحيوية المعروفة، ولا حتى يعطل انقسامها وتكاثرها، كما تفعل مضادات حيوية أخرى، إنما يجعلها أكثر عرضة للقتل.

من أبرز مكامن ضراوة هذه البكتيريا، أنها تفرز إنزيمات خاصة تدافع بها عن نفسها ضد الأخطار الخارجية، منها إنزيم يسمى «lactamase» والقادر على تكسير العديد من المضادات الحيوية، والمواد التي تفرزها خلايا المناعة لمقاومتها.

المركب الجديد

هنا يأتي دور المركب الجديد، والذي يُفسد قدرة البكتيريا على إنتاج مثل هذه الإنزيمات عبر آلية معقدة، وبالتالي يضعف مقاومتها للكثير من المضادات الحيوية، ولأسلحة خلايا المناعة بأجسامنا، فيسهل القضاء عليها. يمنع «MAC-545496» البكتيريا من تكوين بروتين هام بالنسبة لها هو GraR والمسئول عن عمليات الاستجابة للمؤثرات الخارجية، والتعامل مع التهديدات، وتطوير المقاومة ضدها.

يذكر الباحث الرئيس في دراستنا الحالية عمر الحلفاوي، أنه ما يزال أمامنا سنوات حتى يترجم مثل هذا الاكتشاف على أرض الواقع على هيئة دواء يُباع في الصيدليات، ويعطى للمرضى في أقسام العناية المركزة، لكنه خطوة مهمة على الطريق، ويعطي أملًا للإنسانية بأن ترسانة أسلحتها في مواجهة خصمٍ عنيدٍ وقاتل كالبكتيريا عادت للتوسُّع.

حصل عمر الحلفاوي على درجة البكالوريوس في العلوم الصيدلية من جامعة الإسكندرية، ثم نال منها درجة الماجستير في الأحياء الدقيقة الصيدلانية. انتقل بعدها إلى كندا لإكمال درجة الدكتوراه في علم الأحياء الدقيقة والمناعة من جامعة أونتاريو الغربية. تركزت أبحاثه على آليات المقاومة للمضادات الحيوية الذاتية بواسطة عمليات الأيض، وغيرها من الجزيئات الصغيرة البكتيرية. وفي أكتوبر/ تشرين الأول 2015؛ انضم عمر إلى مختبر براون في الجامعة، حيث يعمل فيه على أبحاثه في إيجاد علاجات جديدة ضد البكتيريا المقاومة للمضادات الحيوية.

ما الذي علينا فعله؟

إن آخر اكتشاف حقيقي سابق في عالم المضادات الحيوية يعود إلى أكثر من 30 عامًا ماضية. وهذا يعني أن المعركة مع الوقت في ذلك المجال الحيوي ليست في صالحنا على الإطلاق، ولذا يجب بذل جهود متزامنة من الحكومات والمنظّمات والأفراد، من أجل الحفاظ على ما بقي لدينا من فعالية المضادات الحيوية الموجودة، ووضع قواعد صارمة لحسن استغلال الجديد، وإطالة عمر فعاليته، لأن التوصل إلى مثل تلك المُنجّزات ليس من السهولة بمكان، ويتطلب من الباحثين جهودًا لسنوات، وإنفاقًا بالملايين من الدولارات من الجهات البحثية. في موضوعنا الحالي، يذكر الباحث عمر الحلفاوي أن الوصول إلى MAC-545496 لم يتأتَ إلا بدراسة أكثر من 45 ألف مادة أخرى، مما جعل الأمر أشبه بالبحث عن إبرة في كوم قش على حد تعبيره.

اقرأ أيضًا: الأساطير المؤسسة لطب الأطفال في مصر: أسطورة المضاد الحيوي

وريثما ينجح العلم في القضاء نهائيًا على تلك المشكلة، يمكن لنا كأفراد أن نساهم إيجابيا في منع تفاقم أزمة البكتيريا المقاومة عن طريق خطواتٍ بسيطة في مقدمتها توعية أنفسنا وغيرنا بضرورة الرشادة في استخدام المضادات الحيوية. كذلك يجب علينا حماية أنفسنا من التعرض لمثل تلك العدوى، عن طريق التزام التعليمات الصحية المعروفة كغسيل اليديْن جيدًا، والالتزام بالطعام الصحي، وتجنب انتقال العدوى بأخذ مسافة آمنة من المصابين، والمبادرة إلى طلب المشورة الطبية في حالة ظهور أعراض مرضية غريبة علينا.