تحمل دلالات كلمة «الإنسانية» أو «الإنسانوية» طيفًا واسعًا من المعاني، إلا أنه حين نتحدث عن الإنسانوية (Humanism) كأيديولوجية أو فلسفة، فإننا نتحدث عن اتجاه فكري له معالم محددة ومعروفة.

في ظل المناخ الثقافي السائد لما بعد الحداثة، الغارق في أزمات المعنى والتعدد المفرط للسرديات الصغرى، ومع غياب قصة كبرى ينتظم في إطارها التاريخ الإنساني بأكمله ليكتسب معنى ومغزى ما، يمكن النظر إلى اتجاه الإنسانوية الجديدة الذي ظهر في العقد الثاني من القرن العشرين في الولايات المتحدة الأمريكية، كوريث طبيعي لمشروع التنوير الغربي الذي بدأ في أوروبا في القرن الثامن عشر.

تعبر أفكار المؤرخ الإسرائيلي يوفال نوح هراري في الوقت الراهن، بشكل كبير عن الفكرة الإنسانوية، ولكن بعد دخولها طورًا جديدًا يتجاوز بعض أفكار الإنسانوية الكلاسيكية.

نطرح الآن ثلاثة أسئلة، سنحاول أن نجيب عنها، وهي:

  1. ما هي «الإنسانوية»؟
  2. لماذا تعد تلك الفلسفة هي الفكر الأكثر تعبيرًا عن روح مشروع التنوير الغربي؟
  3. أخيرًا، من هو يوفال نوح هراري؟

ما هي الإنسانوية؟

يحدد الفيلسوف الإنجليزي «ستيفن لو» في كتابه «الإنسانوية: مقدمة قصيرة جدًّا»، سبع سمات تميز الرؤية الإنسانوية عن غيرها من الفلسفات، وهي:

  1. العقلانية وسيادة النزعة العلموية (الإيمان بالعلم).
  2. الإنسانويون إما ملحدون أو على الأقل لا أدريون.
  3. عدم الإيمان بوجود حياة أخرى بعد الموت.
  4. التأكيد على وجود القيمة الأخلاقية وأهميتها، ومن ثم تحول السؤال عن كيفية وجود الأخلاق من دون إله ومن دون دين، إلى سؤال مركزي ومبحث رئيسي لدى الإنسانوية.
  5. التأكيد على المسئولية الأخلاقية الفردية.
  6. الإيمان بوجود معنى للحياة، دون أن يكون دينيًّا بالضرورة.
  7. العلمانية والديمقراطية والليبرالية.

يقول ستيفن لو إن هذه السمات السبع تشكل ككل منظومة فكرية تتميز باهتمامها بمحاولة الإجابة عن «الأسئلة الكبرى»، وبوجود درجة من الارتباط المتبادل فيما بينها، ولا سيما فيما يتصل بالموقف من الدين، الذي تتخذ منه الإنسانوية عادة ًموقفًا سلبيًّا للغاية، إن لم يكن مفرط العداء في كثير من الأحيان.

بالنسبة إلى الإنسانوية الجديدة، فهي حركة نقدية أدبية نشأت في الولايات المتحدة بين عامي 1910 و1930، بناءً على النظريات الأدبية والاجتماعية للشاعر والناقد الإنجليزي ماثيو أرنولد، وكان من أبرز أعضائها على سبيل المثال: بول إلمر مور، وإرفينج بابيت، ونورمان فورستر، وروبرت شيفر.

بسبب رفض الإنسانويين الجدد قبول وجهات النظر الحتمية المادية للطبيعة البشرية، وإيمانهم في تلك المرحلة بالإرادة الحرة، والطابع الاستثنائي للجنس للبشري بين المخلوقات، أصبح يُنظر إلى الإنسانويين الجدد على أنهم من الاتجاه المحافظ على المستويين الاجتماعي والنقدي، وأصبح تأثيرهم ضئيلًا، في الحياة الثقافية الغربية.

جدير هنا بالذكر أن يوفال نوح هراري، الذي تمثل أطروحاته تجديدًا وبعثًا للحياة في الفكرة الإنسانوية، لا يؤمن بقضية الإرادة الحرة، إذ يؤمن في المقابل بأن الإرادة البشرية هي عبارة عن خوارزميات معقدة داخل العقل البشري، تعطينا الوهم بأننا أحرار، بينما الأمر ليس كذلك، على حد زعمه.

لماذا تعد «الإنسانوية» الفلسفة الأكثر تعبيرًا عن المشروع التنويري الغربي؟

رغم أن ذروة ما يعرف بـ «عصرالتنوير» كانت في القرن الثامن عشر الذي اندلعت خلاله الثورة الفرنسية، فإن جذور «التنوير» الحقيقية تعود إلى الثورة العلمية في القرنين السادس عشر والسابع عشر.

تتعدد بوجه عام الروافد التي غذت ظاهرة التنوير الأوروبي، فعلى المستوى الفلسفي يعد سبينوزا ورينيه ديكارت وديفيد هيوم آباء للتنوير على هذا الصعيد، وعلى المستوى العلمي يبرز اسما إسحاق نيوتن وفرانسيس بيكون، وعلى مستوى الفكر السياسي تبرز أسماء مثل توماس هوبز وجون لوك وجان جاك روسو ومونتسكيو، وعلى مستوى الأفكار والمناهج المعرفية يمكن أن نحدد بعض المعالم البارزة في هذا السياق، مثل صعود العقلانية والمنهج التجريبي، كل هذا على سبيل المثال لا الحصر.

التنوير إذًا ظاهرة كبرى مركبة، تتشكل من العديد من الأفكار والاتجاهات التي تنتصر للعقل والعلم على حساب اللاهوت، أو يمكن أن نقول هي حالة لها لاهوتها الخاص، وخير تعبير في هذا السياق عن ذلك اللاهوت الجديد، هو فكرة الدين الطبيعي عند أوغست كونت ولودفيغ فيورباخ، أو الدين المدني عند جان جاك روسو.

تلك الفكرة هي بطبيعة الحال أحد أهم أفكار «الإنسانوية» التي نطرح هنا فرضية خاصة عنها، ألا إنها بمثابة أدلجة لمفهوم الدين الطبيعي، بمعنى أنها بمثابة محاولة لتحويل اللاهوت الربوبي الأخلاقي الذي قام عليه ذلك الدين إلى منظومة فكرية أكثر علمانية،على نحو قطع نهائيًّا مع أي نزعة ربوبية في ذلك الدين الطبيعي، وأدى إلى استبدال الإنسان محل الإله كمركز لهذه المنظومة.

أحد المفاصل الجوهرية، على المستوى الفلسفي والمعرفي، في هذا الانعطاف التاريخي نحو «الدنيوة» أو «الدهرنة» للمفهوم الديني، والعلمنة للمجال السياسي والقانوني، يتمثل في فصل الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط بين الدين والأخلاق، كما يشرح الأخير في كتابه «الدين في حدود مجرد العقل»، الذي يقول فيه إن الأخلاق ليست بحاجة إلى الدين في وجودها وقيامها.

تمثل أفكار يوفال نوح هراري في هذا السياق، جزءًا من سيرورة التخلص من آثار الميتافيزيقا تلك، داخل الفكر الإنسانوي الغربي، من خلال رفض الأخير لآخر فكرة تحمل داخلها شبهة الإيمان بالمتعالي (Transcendence) أو الميتافيزيقي أو ما يسميه الفيلسوف الألماني نيتشه بـ«ظلال الإله»، ألا وهي فكرة حرية الإرادة.

هكذا يكون السبب الذي يحدونا بالقول إن الإنسانوية (ماركسية كانت أو ليبرالية) هي حاملة لواء مشروع التنوير ووريثه الطبيعي في هذه الحقبة، هو تلك النظرة الغائية للتاريخ التي تتتبناها الإنسانوية، والتي يكتسب من خلالها التاريخ معنى محددًا، يتمثل في التقدم الإنساني الذي تشرحه أفكار الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي أوجست كونت عن الأطوار الثلاثة للإنسانية على سبيل المثال، في خضم نزعات السيريالية والأدب العبثي والفلسفات العدمية التي تحفل بها ما بعد الحداثة.

من هو يوفال نوح هراري؟

يوفال نوح هراري مفكر وأكاديمي الإسرائيلي ومؤرخ متخصص في تاريخ العصر الوسيط بالجامعة العبرية في القدس، وصاحب أحد الكتب الأكثر مبيعًا، وهو كتاب «العاقل: تاريخ موجز للبشرية» (Sapiens: A Brief History of Humankind). أحد أهم أسباب شهرة هراري أيضًا هو احتفاء الصحافة وعدد من كبار المشاهير الغربيين به، مثل الرئيس الأمريكي باراك أوباما وبيل جيتس مؤسس شركة مايكروسوفت ومارك زوكربرج مؤسس فيسبوك.

في كتابه: « الإنسان الإله: موجز تاريخ الغد» (Home Deus: A brief history of tomorrow) يقول هراري إن الإنسانية في زماننا تجاوزت المجاعة والفقر والأمراض والحروب، وصارت تواجه تحديات أخرى مختلفة في عصر ما بعد الصناعة، من أبرزها تحدي الذكاء الاصطناعي، الذي يعتقد هراري أنه من الممكن أن يؤدي إلى زوال سيادة البشر، واستعبادهم من قبل جيل جديد من الآليين. هذا فضلًا عن تحدي آخر ألا وهو محاولة هزيمة الموت، أي سعى الإنسان من خلال الطب الحديث لتجاوز الموت وتحقيق الخلود.

كما هو واضح، لا تعبر أفكار هراري تقريبًا إلا عن تحديات العالم الأول، بعيدًا تمامًا عن تحديات العالم الثالث الذي ما يزال يواجه مشاكل الجوع والفقر والمرض، وبكل تأكيد الحروب وعدم الاستقرار السياسي أيضًا، هذا فضلًا على أنها أفكار لا تحمل أي انحياز ذا مضمون أخلاقي حقيقي، فهي انحياز للتقدم، بأي ثمن كان هذا التقدم، وعلى حساب أي كان. لماذا نقول هذا؟ ذلك لأن سيرورة التقدم التي يحتفي بها هراري، تسير بشكل حثيث في عالم غير عادل وغير أخلاقي، لا يتوقف هراري قليلًا أو كثيرًا لنقد مظالمه وآثامه الكبرى.

لذلك ليس من حقه أن يسأل هنا عن موقف الدين من الهندسة الوراثية كما يفعل بالفعل على سبيل المثال، بل العكس هو الصحيح. فالمرجعية الأخلاقية والدينية هي التي يجب هنا أن تطرح أسئلة من قبيل: من هي الفئة من البشر التي ستتحول إلى فئران تجارب لعمليات الهندسة الجينية لدراسة نجاح تلك التجارب من عدمه؟ ومن يمتلك الحق بأخذ هكذا قرار يتلاعب في كينونة ومصير الأشخاص؟

ربما تمثل جائحة كورونا العالمية الراهنة، خير برهان على أن الإنسان لم يستطع هزيمة المرض والموت حتى الآن، وأن أمامه أشواطًا لا نهائية في هذا السياق، لأنه كما أن البشر يتطورون وتتطور معارفهم الطبية والدوائية، كذلك تتطور التراكيب الوراثية للميكروبات والكائنات الدقيقة الناقلة للأمراض المعدية كالبكتريا والفيروسات، وهذه مشكلة واحد فقط على سبيل المثال في هذا الإطار .

تحمل أفكار هراري أيضًا الكثير من التفاؤل الساذج، والخلط بين الخيال العلمي والعلم، فأمام الذكاء الاصطناعي عقبات كبرى حتى يستطيع أن يستقل عن مبدعيه ومشغليه، بحيث يكون بإمكانه أن يعمل ذاتيًّا دون مدخلات رقمية من جانب البشر، وأن يعي ذاته بنهاية المطاف، أي باختصار: أن يستطيع أن يحاكي الوعي البشري، وتلك ليست مجرد مشكلة في مدى التقدم الهندسي والتكنولوجي الراهن، يمكن تجاوزها مع مرور الوقت فحسب، ولكن تمثل تحديًا للظرف الفيزيائي الذي خرج فيه ذلك الوعي الاصطناعي إلى حيز الوجود من البداية.

يطرح السؤال نفسه: لماذا رغم التبسيط الشديد والمخل في بعض الأحيان الذي تتسم به أفكار الرجل، نجح هراري ونجحت كتاباته إلى هذا الحد؟

ربما تكمن الإجابة في أن ما يظنه البعض عيبًا بحد ذاته في كتابات هراري هو نفسه سبب نجاحه، من خلال تقديمه للتاريخ البشري وعلم المستقبليات كسردية أو قصة موجزة شيقة، مليئة بالانتصارات المفترضة على أعداء متخيلين، كقصص هوليوود وألف ليلة وليلة البسيطة والمسلية، التي تنتهي في العادة نهاية سعيدة.