منذ عملية طوفان الأقصى التي فاجأتنا صبيحة السابع من أكتوبر المُنصرم، والهجمات العنيفة على الفلسطينيين لا تنفك تتوحش، ونحن هنا لا نتحدث عن سكان الأرض الأصليين من قاطني القطاع فحسب – بحجة أن حماس تتخذ منهم دروعًا بشرية – بل حتى عن العُزَّلِ ممن يعيشون في الجانب الآخر، وبالتحديد في الضفة الغربية.

فمنذ ذلك التاريخ، ووفقًا لمكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشئون الإنسانية OCHA، لقي 121 فلسطينيًّا، من بينهم 33 طفلًا، من سكان الضفة حتفهم، بينما أُصيب – على الأقل – 2000 فلسطيني آخر، من بينهم أكثر من 200 طفل.

المثير – للحنق – في الأمر أن هذه التصعيدات لم تحدث على يد الجيش الغاصب الموجود بالضفة وحده، بل الحقيقة أن المستوطنين الإسرائيليين هم أشرار هذه القصة الحقيقيون؛ المستوطنون الذين سُلِّحوا بـ 10 آلاف بُندقية حسب توصيات وزير الأمن القومي الإسرائيلي إيتامار بن جفير.

وبعد أن كان مُعدل المناوشات، التي تصل تارةً إلى حد اعتداء المستوطنين على ممتلكات الفلسطينيين وتارةً أخرى إلى حد قتلهم، بل أحيانًا إلى الأمرين معًا، 3 حوادث باليوم الواحد – وهو مُعدل مرتفعٌ بالفعل – منذ بداية العام، قفز هذا الرقم إلى 7 حوادث مُذ نُفِّذت هجمات حماس الاستباقية.

وخلال الأسابيع الثلاثة الأخيرة فقط، سجَّل مكتب الأمم المتحدة المذكور، 171 حالة اعتداء من مستوطنين إسرائيليين ضد فلسطينيين بالضفة الغربية، وتنوعت شدة الاعتداءات ما بين تخريب الممتلكات والمُنشآت (بواقع 115 حالة اعتداء من هذا النوع)، وإراقة الدماء (26 حالة)، وارتكاب الجريمتين الشنيعتين معًا (30 حادثة).

انبثقت عن هذه التصعيدات الشنيعة إحصائية مروعة تُفيد بأنه منذ عام 2022، اضطُر حوالي 2000 فلسطيني بالضفة إلى ترك بيوتهم نتيجة لاعتداءات المستوطنين الضارية. والصدمة ليست هنا، وإنما بأن 43% من هؤلاء السكان الأصليين قد نزحوا عن أراضيهم بالضفة منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر الماضي؛ أي في خلال الأسابيع الثلاثة الأخيرة فقط! وهذا يدل على توحش الإسرائيليين، وبالتأكيد ارتعادهم، جراء الأحداث الأخيرة.

انتهاكات غير مسبوقة منذ الانتفاضة الثانية

تمادت القوات الإسرائيلية في فرض الخناق على أهالي الضفة؛ إذ طوقت بعض المناطق بالسياج العسكري، وفرضت حظر التجوال، وأغلقت نقاط العبور إلى الأردن.

بالطبع لم تحدث هذه التعسفات القسرية بين يومٍ وليلة، وما يحدث بالضفة عمومًا منذ بداية العام الجاري لم يحدث منذ نهاية الانتفاضة الثانية في عام 2005، والتي سنُضطر إلى العودة إليها إن أردنا أن نستشهد بانتهاكات عسكرية مُشابهة مثلما يقول غيث العُمري، وهو الباحث في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، والمدير التنفيذي السابق لـ «فرقة العمل الأمريكية المعنية بفلسطين».

وفقًا لتقرير نشرته وكالة الأنباء والمعلومات الفلسطينية (وفا- WAFA) في التاسع والعشرين من أكتوبر المنصرم؛ فإن أهالي الضفة قد شهدوا 1590 حالة اعتقال و181 حالة قتل منذ بداية العام، وهذا ما جعل المنظمات الحقوقية، وعلى رأسها منظمة بتسليم B’Tselem الإسرائيلية نفسها تُندد بما يحدث.

ومركز المعلومات الإسرائيلي لحقوق الإنسان بالأراضي المُحتلة، أو كما يُعرَف بـ «بتسليم- B’Tselem»، هو مُنظمة حقوقية شارك في تأسيسها أعضاء بالكنيست الإسرائيلي نفسه، ولكنها تؤكد وقوفها على خط الحياد بين الفلسطينيين والإسرائيليين.

وتقول المنظمة بأن المستوطنين الإسرائيليين وحدهم، قد قتلوا 7 فلسطينيين على الأقل منذ بداية الحرب في غزة، في حين أن القوات العسكرية قد قتلت ما يزيد عن مائة فلسطيني بالضفة في نفس هذه الفترة.

قصتان تُجسِّدان ما يحدث

ولعل قصتا بلال صالح، الذي لم يَعِش حتى عَقده الرابع، وطارق مُصطَفى الذي هُجِّر من قريته، تجسدان ما يجري بالضفة، على يد المستوطنين أنفسهم، خير تجسيد.

بلال صالح ومطاردة المزارعين

فبلال، الذي كان أبًا لأربعة أطفال ولم يبلغ من العمر سوى 38 عامًا، أُردي قتيلًا برصاص أحد المستوطنين في بلدة الساوية جنوب نابلس، وذلك أثناء اعتداءٍ تعرض له وزملاءه المزارعين على يد المستوطنين الغاشمين.

وبشهادة صحفيي الواشنطن بوست الذين كانوا موجودين وقتها في الميدان، فإن القوات الإسرائيلية قد طلبت من شقيق بلال، والذي يُدعى هاشم – وكان قميصه مُلطخًا بدماء أخيه – أن يُدلي بشهادته العينية في واقعة مقتل بلال، ولم يكد هاشم يقترب من سيارتهم الـ «جيب- Jeep»، حتى «سَحَلوه» للاستجواب وكبلوا يديه، ثم ألقوه بداخل شاحنة ذات لوحة معدنية مدنية وقادوه بعيدًا برفقة عسكريين.

لاحقًا، أخبرت قوات الشرطة الإسرائيلية عائلة هاشم بأنه اعتُقِل بسبب دعمه لحماس.

يقول سكان البلدة إنهم صُدِموا لأنهم لم يتوقعوا البتة أن يُقتَل واحدٌ منهم رُغم المضايقات المستمرة التي يتعرضون لها على يد المستوطنين الغاشمين. 

حتى إن هاشم كان قد تحدث إلى صحيفة الواشنطن بوست، قبل اعتقاله، وقال: «لم أتوقع أبدًا أن يُطلقوا النار علينا» – قاصدًا المستوطنين – «وحتى بعدما أطلقوا النار، لم أكن أعرف أن أخي أُصيب حتى رأيته مُلقًى على الأرض».

طارق مصطفى والتهجير الفج لأهالي الضفة

القصة الثانية هي قصة مواطنٍ آخر من أهالي الضفة، وبالتحديد من أهالي مجتمع بدوي صغير بمنطقة وادي السيق. لم يُقتَل، لحسن الحظ، ولكنه أُجبِر على النزوح وعائلته إلى بلدة مُجاورة بعدما استفحلت «البجاحة» بمستوطنين إلى حد قولهم لطارق: «اخرج من هنا واذهب إلى الأردن»!

بشهادة طارق، فإن مضايقات المستوطنين مُستمرة منذ الأسابيع الثلاثة الماضية، ولا ريب أن لفظة الـ «مضايقات» – التي استخدمتها أنا – لا تليق بوصف التهديدات التي وصلت إلى حد «المذبحة» إن لم يترك الفلسطينيون أراضيهم.

أعتقد أن المستوطنين، إضافة إلى الجنود الإسرائيليين بالتأكيد، استغلوا ما يحدث بغزة وانصباب الأعين عليها واتجهوا للضفة ليمارسوا فيها كل أنواع العنف والإرهاب الممكنين، ومثلما يقول طارق: «أعطت الحرب في غزة الضوء الأخضر للمستوطنين – يقصد للتمادي في الإرهاب – ففي السابق كانوا يصرخون بنا للذهاب إلى رام الله، أما الآن فيخبروننا بالذهاب إلى الأردن».

ما حدث مع طارق مصطفى أنه رفض، مثل أغلبية المواطنين الفلسطينيين، أن يخرج من بلدته الصغيرة رُغم كل أنواع الترهيب الذي تعرض له، نتيجةً لذلك، دمر المستوطنون الخيام وسرق أحدهم سيارة طارق ليجبروه وزوجته وأولاده الثلاثة على النزوح إلى أقرب بلدة مجاورة.

يُذكر أن طارق اتصل بالشرطة الإسرائيلية، ولكن الضابط لم يدعه يُبلغ عن الحادثة من الأساس؛ إذ أنهى المكالمة على الفور عندما بدأ طارق الكلام!

عودة الغرب الأمريكي المتوحش، ولكن بالضفة الغربية

في منطقة وادي السيق الصغيرة وحدها، وهي نفس البلدة التي هُجِّر منها طارق مصطفى، أجبر المستوطنون والجنود الإسرائيليون 200 فلسطيني آخرين من البدو أن يتركوا أراضيهم بلا حول ولا قوة. وبداية من أحداث السابع من أكتوبر، وعدد الفلسطينيين الذين يتركون الضفة – مُضطرين – في ازدياد مُستمر، ووفقًا لمكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشئون الإنسانية، فإن عددهم قد اقترب من الـ 1000 فلسطيني.

يكفي أن تعرف أن الرئيس الأمريكي، جو بايدن، وهو أحد أشد المناصرين لإسرائيل كما نعرف جميعًا، قد أعرب عن قلقه من وجود «مستوطنين – إسرائيليين – متطرفين» يُهاجمون الفلسطينيين بالضفة الغربية، حتى تتصور مدى المأساة التي وصل إليها فلسطينيو هذه المنطقة.

بل حتى إنه – بايدن – شبَّه الوضع القائم في الضفة وما يفعله المستوطنون بالفلسطينيين هناك: «بإضافة البنزين إلى النار»، مُحذِّرًا نتنياهو من عواقب هذه الممارسات على الوضع – الذي لا يُحتَمل – بغزة، ومؤكدًا على ضرورة معاقبة المستوطنين الذين يهاجمون الفلسطينيين بالأماكن «المسموح لهم التواجد فيها».

وكان الناشط الإسرائيلي حجاي إلعاد، وهو المدير التنفيذي السابق لجمعية بتسليم، قد تحدث إلى صحيفة The New Yorker وذكر الكثير من الأشياء المُهمة، من بينها التعتيم الإسرائيلي الحاصل تجاه ما يحدث بالضفة الغربية، وأن الصحيفة الإسرائيلية الوحيدة التي ربما يُشهَد لها بالإنصاف هي صحيفة هاآرتس، وهي – بالمناسبة – التي دعت منذ أيام لعزل نتنياهو واتهمته بالخسة.

أما عن المتحدث الرسمي الحالي لجمعية بتسليم، درور سادوت، فلا يختلف موقفه البتة عن موقف حجاي المُعارض لما يحدث؛ إذ شبَّه درور ما يحدث بالضفة الغربية الآن بالغرب المتوحش Wild West.

ويُذكر أن الساوية ووادي السيق، ليستا المنطقتين الوحيدتين اللتين تعرض أهلهما للانتهاكات، ففي قرية خِرْبة زَنُّوتَة مثلًا، اضطُر 150 مواطنًا إلى ترك منازلهم بعدما تعرضوا لأبشع أنواع العنف؛ حيث اقتحم مستوطنون مهاجعهم في الليل، وانهالوا عليهم بالضرب، وسرقوا أغراضهم وروَّعوا أطفالهم. لدرجة أن شيخًا يبلغ من العمر 72 عامًا وصف الوضع بـ «النكبة الجديدة».

الشاهد أن ما يحدث في الضفة الغربية هو مهزلة بكل ما تحمله الكلمة من معنى، قُرى بأكملها يتم إجلاؤها وغربلتها، وأخشى ما يمكن للسكان الأصليين أن يخشوه هو وجود حالة تشبه تأثير الدومينو تُنهي وجود الفلسطينيين بالضفة.

ففي السنة الأخيرة فقط، ومن خلال البؤر الاستيطانية الرعوية في المقام الأول، وضعت قوات الاحتلال مساحات جديدة تصل إلى 110 كم2 من أراضي الضفة تحت سيطرتها، وهذه إحصائية مُرعبة لأن الرقم المذكور يفوق مساحة أراضي الضفة المُحتَلة منذ عام 1967، والتي تُقدَّر بـ 80 كم2.