ضجة كبيرة حدثت أواخر أغسطس 2018 الماضي مع صدور نتائج دراسة موسعة نُشِرت في دورية the Lancet العلمية الشهيرة، وأظهرت أنه لا يوجد قدر آمن صحيًا يمكن تعاطيه من الكحوليات. بصيغة أخرى كما ورد في نص نتائج الدراسة، فالمقدار الذي يمكن تناوله بشكل مزمن دون أن يسبب أضرارًا خطيرة على الصحة كالفشل الكبدي والسرطانات هو صفر.

كانت الدراسة عبارة عن مراجعة ممنهجة، وتحليل واسع لبيانات توصلت لها مئات الدراسات السابقة في هذا الموضوع على مدار 26 عامًا من 1990م-2016م، وشملت عشرات الآلاف من متعاطي الكحوليات، من 195 موقعًا مختلفًا حول العالم، ومن كلا الجنسين بالطبع، وضمت كذلك أعمارًا مختلفة تتراوح بين 15 و 95 عامًا. ولعل هذا التجمع الهائل من الأزمنة والأمكنة والبشر في خضم تلك الدراسة هو ما أعطى نتائجها كل هذا الزخم، لتتصدر واجهات الأقسام العلمية في كل الصحف العالمية بلا استثناء على مدار الأسبوع الأخير من شهر أغسطس.

من أبرز نتائج الدراسة كذلك أن تعاطي الكحوليات جاء في المرتبة السابعة بين عوامل الخطر التي تفتح الأبواب للمرض وللوفاة عام 2016م، وجاء في المرتبة الأولى للشريحة العمرية من 15-49 عامًا، متفوقًا على حوادث الطرق والأمراض المعدية، وهي الشريحة العمرية الأكثر كثافة، والأكثر قدرة على التعلم والإنتاج. في الشرائح الأكبر سنًا، جاءت أغلب وفيات متعاطي الكحوليات نتيجة حدوث السرطانات، ومن أبرزها سرطان الكبد ذو العلاقة البارزة مع التليف الكبدي الذي يسببه التعاطي المزمن للكحوليات.


لماذا أثار التأكيد على ضرر الكحوليات كل هذه الضجة؟

قد يرى كثيرون أن الضجة التي أحدثتها نتائج الدراسة المذكورة آنفًا هي ضجة مفتعلة، أو على الأقل غير منطقية، فكون تعاطي الكحوليات من مسببات الضرر الجسيم على الصحة، المفترض أنه معلومٌ بالضرورة لغالبية الناس، حتى متعاطي الكحوليات أنفسهم. لعل السر في تلك الضجة هو العنوان العريض لنتائج الدراسة الواسعة الحالية، والذي يتحدث عن الصفر الآمن، إذ في السنوات الماضية تحدثت دراسات سابقة – أصغر حجمًا بالطبع من الدراسة الحالية – عن بعض الفوائد الصحية المحتملة للتعاطي المعتدل للكحوليات، حتى تساءل البعض مع انتشار تلك الأخبار عن مدى جدوى أن يبدأوا في تعاطي الكحوليات حفاظًا على صحتهم! وكذلك بدأ بعض الأطباء يترددون في التشديد على مرضاهم في الامتناع التام عن الكحوليات، ماداموا سيحافظون على القدر المعتدل من التعاطي.


أسطورة التعاطي المعتدل للكحوليات

التعاطي المعتدل الذي تحدثت عنه بعض الدراسات العلمية هو تعاطي جرعة واحدة فقط يوميًا من الكحوليات للمرأة من جميع الأعمار، وللرجال فوق 65 عامًا، أما الرجال الأصغر سنًا، فبإمكانهم تعاطي جرعتين يوميًا. والجرعة هي كمية صغيرة تختلف باختلاف نوع الكحوليات (حوالي 330 مل في البيرة مثلًا، بينما يصل لـ 40 مل وأقل في أنواع أشد). وفقًا لهذا التعريف، سنجد أن أكثرية متعاطي الكحوليات يقعون خارج نطاقه. كذلك فالكحوليات من مسببات الإدمان والتعوُّد كما سنوضح لاحقًا، وبالتالي يصعب أن يحافظ معظم المتعاطين على الاقتصار على الكمية المعتدلة، وإنما سيتجاوزونها عاجلًا أو آجلاً إلى الكميات الأكثر خطورة.

الفوائد المحتملة هي تقليل – نسبيًا – فرص حدوث جلطات القلب والمخ لدى المصابين بتصلب الشرايين، وكذلك فرص الإصابة بمرض السكري. وتلك الفوائد السابقة المحتملة إذا وُضِعَت في كفة الميزان المقابلة لها الأضرار الكثيرة المقطوع بها، فإنها ستحلق في الفضاء! ولذا فحتى المروجين لفوائد التعاطي المعتدل للكحوليات، لا يدعون غير المتعاطين لبدء التعاطي من أجلها، بل يؤكدون عليهم عدم الولوج إلى عالم الكحوليات غير مضمون الخروج منه، إنما حديثهم بالأساس لمن يتعاطون بالفعل تشجيعًا لهم على السيطرة على الأمر، لتقليل الضرر.

كذلك هناك حالات عديدة لا يُسمح لها صحيًا – حتى وفق الأدلة القديمة – بتعاطي أقل كمية من الكحوليات:

  • الحوامل أو من تريد الحمل؛ لأن الكحول قد يسبب عيوبًا خلقية جسيمة لدى الجنين.
  • من سبق أن تم علاجه من إدمان الكحوليات، أو من يوجد في أسرته مدمنٌ للكحوليات.
  • المصابون بأمراضٍ مزمنة في الكبد أو البنكرياس.
  • المصابون بضعف عضلة القلب.
  • المصابون بنزيف في المخ.

أضرار قاطعة لتعاطي الكحوليات

بالطبع تتناسب الأضرار طرديًا مع مقدار التعاطي، ومدته، وكذلك لا يشترط حدوث كل هذه القائمة وسواها مما لم يتسع المقام لذكره، لكل المتعاطين. تزداد فرص حدوث المضاعفات بشكل خاص مع وصول الإنسان إلى ما يسمى بالتعاطي الكثيف، وهو 3 جرعات فأكثر يوميًا للإناث (و 7 فأكثر أسبوعيًا) من كل الأعمار، وللرجال فوق 65 عامًا، و 4 جرعات فأكثر يوميًا (و 14 فأكثر أسبوعيًا) للرجال تحت 65 عامًا. وأيضًا مع ما يسمى بالتعاطي المتطرف binge drinking وهو التعاطي المتواصل لـ 4 جرعات فأكثر للإناث، و 5 فأكثر للرجال، خلال ساعتين أو أكثر، كما يحدث كثيرًا في الحفلات والمناسبات.

الإدمان

الإدمان هو أن يصبح الشخص معتمدًا على مادة معينة، فلا يستطيع التوقف عن تعاطيها، ويشعر دائمًا برغبة جامحة في الحصول عليها، ويكون على غير ما يرام عندما لا تتوافر له، وقد يحدث له ما يسمى بمتلازمة الانسحاب عند التوقف المفاجئ عن تعاطيها. وإدمان الكحوليات من أكثر أنواع الإدمان شيوعًا، نتيجة القبول الواسع لتناول الكحوليات في مجتمعات عديدة، وارتباطها شرطيًا عند الكثيرين بالسعادة والاحتفال.

والسبب في حدوث الإدمان هو تغيرات قصيرة وطويلة المدى يحدثها في بنية المخ، وموصلاته الكيميائية. لا يوجد مقدار محدد من التعاطي يمكن أن يحدث معه الإدمان لزومًا، فهذا يختلف من شخص لآخر. ومن أخطر ما يسببه الإدمان هو تعود المتعاطي على كميات متصاعدة من الكحوليات، فيصل لمعدلات شديدة الخطورة على الجسم.

من أبرز العلامات التي تشير لوصول المتعاطي إلى حافة الإدمان، هو عدم القدرة على القيام بنشاطه اليومي دون تعاطي الكحول، وقد يتعاطاه في الصباح الباكر بمجرد الاستيقاظ، أو أثناء العمل. وكذلك الميل دائمًا إلى التواجد في أماكن يتوافر فيها الكحوليات، ومع أشخاص على نفس القدر من التعاطي.

ويحتاج علاج الإدمان الكحولي في البداية إلى مراكز طبية متخصصة، وذلك لتجنب حدوث متلازمة الانسحاب، ولتطبيق أساليب علمية تقلص الآثار الجانبية للأمر، وتضمن أكبر فرصة للاستمرارية. لكن العمود الفقري للتخلص من الإدمان يظل هو إرادة الشخص نفسه، ورغبته الأكيدة في إنجاح الأمر. ويُنصَح بشدة بالانضمام لمجموعات الاستشفاء والدعم الجماعي، حتى لا يشعر الإنسان أنه وحيد في هذه الرحلة غير اليسيرة، وكذلك ليكون في بيئة أكثر صحية ومساعَدة. وينصح كذلك المتعاطون الذين يعانون من أعراض الاكتئاب بطلب المشورة الطبية النفسية فورًا، ليتم وصف مضادات الاكتئاب المناسبة للحالة، بدلًا من تعاطيهم الكحول كمحاولة اعتباطية لتسكين الاكتئاب.

الانسحاب الكحولي

تحدث متلازمة الانسحاب عند التوقف المفاجئ عن تعاطي الكحوليات، وهي عبارة عن أعراض شديدة عصبية وجسمانية، وتكون عكس ما يقوم به الكحول عادةً، وهو بالأساس مثبط للمخ. يُحدث التعاطي المزمن للكحول تغييرات بارزة في كيميائية المخ ليتمكن من التوازن مع التأثير المثبِّط الذي يقوم به الكحول. ولذا عند التوقف المفاجئ، يكون المخ في حالة استثارة عصبية جارفة قد تسبب أعراضًا خطيرة للغاية على الصحة.

تتدرج الأعراض من مجرد الشعور بالقلق، والأرق، والميل للقيء، واضطراب الشهية، إلى حدوث الهلوسة (رؤية أو سماع أو الإحساس بأشياء غير موجودة)، أو التشنجات الصرعية، والتي قد تحدث خلال يومين من التوقف المفاجئ.

وهناك نوع خطير من متلازمة الانسحاب يحدث في 5% من الحالات، وعادة ما يحدث في اليوم الثالث، وهو عبارة عن هذيان عصبي شديد، يصحبه هلاوس سمعية وبصرية قوية، وارتفاع في ضغط الدم، ونبض القلب، واضطراب في درجة الوعي، وقد يسبب الوفاة.

وبالطبع تحتاج الأعراض الخطيرة للانسحاب إلى الحجز بالمستشفى لتلقي العلاج اللازم مثل المهدئات ومضادات التشنجات، ولمتابعة العلامات الحيوية، والتدخل العاجل عند تدهورها.

التسمم الكحولي

سببُه هو تعاطي كمية كبيرة من الكحوليات في وقت قصير، مما يؤدي لحدوث تثبيط شديد للمخ قد ينتج معه اضطراب في درجة الوعي، واضطراب في نبض القلب، وهبوط التنفس، وهبوط الدورة الدموية، والغيبوبة التامة، مما قد يؤدي إلى الوفاة.

الكبد

يتضرر الكبد بفعل الكحوليات بدرجات متعددة، وبطرق متنوعة. فالكبد يتعامل مع الكحول كمادة سمية يجب التخلص منها، لكن هذه العملية ينتج عنها تسمم الخلايا الكبدية بالمواد الناتجة من تفاعلات الكحول. كذلك يحدث تراكم الدهون داخل أنسجة الكبد، مما يسبب تلف الخلايا الكبدية، وحدوث ما يعرف بالتليف الكبدي. الكبد المتليف لا يقوم بكفاءة بوظائفه الحيوية في إنتاج البروتينات الهامة كالألبيومين، وعوامل التجلط …إلخ، وفي تصفية السموم من الطعام وغيرها من أدواره التي تعد بالعشرات. وبمرور الوقت، لا نلبث أن نصل إلى مرحلة فشل وظائف الخلية الكبدية، وحينها يكون العلاج الوحيد هو زرع الكبد، وإلا سيستمر التدهور حتى تحدث الوفاة.

التهاب البنكرياس

البنكرياس من أعضاء الجهاز الهضمي، إذ أنه يفرز العديد من الأنزيمات الهاضمة التي تقوم بتجزئة وهضم البروتينات والدهون والسكريات في الأمعاء، بجانب وظيفته الشهيرة في إفراز هرمون الأنسولين. يزيد تعاطي الكحوليات من فرص حدوث التهاب البنكرياس الحاد، وهو من الحالات الخطيرة التي تسبب آلامًا شديدة بالبطن، وقد يصبحها تسمم عام بالدورة الدموية. كذلك قد تسبب الكحوليات التهابًا مزمنًا بالبنكرياس قد يؤدي إلى تلفه، وبالتالي إصابة المريض بمرض السكر، وباضطرابات في الجهاز الهضمي، ونقص في الفيتامينات الهامة التي تحتاج في امتصاصها إلى مواد يفرزها البنكرياس مثل فيتامين أ و د و ك.

السرطان .. أو للدقة السرطانات

أنواع عديدة من الأورام الخبيثة، أظهرت الأبحاث والدراسات علاقتها بتعاطي الكحوليات. هناك بالطبع سرطان الكبد الذي قد يحدث نتيجة التليف الكبدي، وسرطان البنكرياس الذي قد يسببه الالتهاب البنكرياسي المزمن. هناك أيضًا سرطانات البلعوم والجنجرة والأمعاء والثدي. قد يحدث السرطان نتيجة تعاطي أي نوع من الكحوليات، والسبب المرجح لعلاقة الكحول بالسرطان هو المواد السمية التي تنتج عن تفاعلاته في الجسم مثل الأسيتالدهيد، وكذلك إعاقة امتصاص بعض الفيتامينات الهامة مثل فيتامين أ و هـ ، والتي تساهم في تقليل فرص التحول السرطاني لخلايا الجسم.

ضعف عضلة القلب والوفاة المفاجئة

يتلف التعاطي المزمن للكحوليات خلايا عضلة القلب، مما يسبب ضعف عضلة القلب، وفشل وظائفها، واحتمالية حدوث اضطرابات كهربية خطيرة بالقلب قد تسبب الوفاة المفاجئة. كذلك يسبب التعاطي المزمن زيادة الدهون الثلاثية في الدم، وهذا يزيد فرص حدوث الجلطات، وقصور الشرايين.

المرأة الحامل، والتشوهات قصيرة وبعيدة المدى على الطفل

لا يوجد مقدار آمن من الكحول يمكن للأم تعاطيه وفقًا للأدلة العلمية المتاحة. يسبب تعاطي الكحول تشوهات جسيمة في نمو الجهاز العصبي للجنين. قد لا تظهر الأضرار على الطفل، نتيجة تعاطي أمه الكحولياتِ أثناء حملها به، إلا على المدى الطويل، على هيئة تباطؤ في نموه الحركي والذهني، وضعف في الإدراك العقلي، وقدراته الذهنية، مما يقلل من كفاءة التحصيل الدراسي، والمهارات الذهنية والحركية.


الخلاصة

  • تعاطي الكحوليات من أهم عوامل الخطر على الصحة.
  • تزداد الخطورة مع زيادة كمية ومدة التعاطي.
  • الأدلة العلمية القديمة على عدم خطورة التعاطي المعتدل للكحوليات لم تعُد بنفس المصداقية القديمة مع ظهور الأدلة الجديدة عن خطورة أقل كمية من الكحوليات.