نادرًا ما يحصل العنصر الكيميائي على دور رئيسي في الدراما العلمية، ولكن في قصة جائزة نوبل للكيمياء لعام 2019 هناك بطل واحد للرواية: عنصر الليثيوم. عنصر قديم خُلق في الدقائق الأولى من الانفجار العظيم، وعرفته البشرية عام 1817، عندما استخلصه الكيميائي السويدي «يوهان أوجست أرفيدسون» في معمل الكيميائي «يونس ياكوب بيرسيليوس» من عينة لمعدن البيتاليت من منجم جزيرة أوتو السويدية. أطلق «بيرسيليوس» على العنصر الجديد اسم «lithos» وهي كلمة يونانية تعني الحجر.

عنصر الليثيوم هو أخف العناصر الصلبة، وهو معدن يدور حول ذرته إلكترونان في الغلاف الداخلي، وإلكترون واحد فقط في الغلاف الخارجي، ويمكنه أن يترك هذه الذرة لينتقل إلى ذرة ليثيوم أخرى، وعندما يحدث ذلك يتشكل أيون ليثيوم موجب الشحنة وأكثر استقرارًا.

في أوائل سبعينيات القرن الماضي، تمكن «ستانلي ويتنجهام» من تحرير الإلكترون الخارجي ليطور أول بطارية ليثيوم. وفي عام 1980، ضاعف «جون جوديناف» من إمكانات هذه البطارية، وخلق الظروف المناسبة لبطارية أكثر قوة وإفادة. وفي عام 1985، نجح «أكيرا يوشينو» في التخلص من الليثيوم النقي من البطارية، وجعلها تعتمد بالكامل على أيونات الليثيوم، وهي أكثر أمانًا من بطاريات الليثيوم النقي.

وفي عام 2019، حاز العلماء الثلاثة على جائزة نوبل في الكيمياء مناصفة بينهم، لتطويرهم بطاريات أيونات الليثيوم، والتي ساهمت بفوائد عظيمة للبشرية بأكملها، ومكنتنا من تطوير أجهزة الكمبيوتر والهواتف المحمولة، والسيارات الكهربائية، وتخزين الكهرباء التي تولدها الطاقة الشمسية وطاقة الرياح.

سوف نعود الآن خمسين عامًا في الزمن، إلى بدايات قصة بطاريات أيون الليثيوم.

البداية مع «ستانلي ويتنجهام»

In the early 1970s, Stanley Whittingham, awarded this year’s Chemistry Prize, used lithium’s enormous drive to release…

Gepostet von Nobel Prize am Mittwoch, 9. Oktober 2019

بدافع الخوف من أزمات البترول، وكونه مصدر غير متجدد للطاقة، اتجهت شركات البترول العملاقة مثل «Exxon» إلى تنويع أنشطتها، وضخ استثمارات كبيرة في البحوث الأساسية لمصادر أخرى للطاقة، واستعانت ببعض أفضل الباحثين في ذلك الوقت في مجال الطاقة، وأتاحت لهم حرية البحث فيما يريدون طالما أنه بعيد عن البترول.

وكان الكيميائي البريطاني «ستانلي ويتنجهام»، أستاذ الكيمياء حاليًا في جامعة بنغهامتون بنيويورك، أحد هؤلاء الباحثين المنضمين إلى شركة «Exxon» عام 1972، والذي أتى من جامعة ستانفورد، حيث كان يُجري أبحاثه على المواد الصلبة التي تملك مساحة ذرية يمكن أن ترتبط بها الأيونات، وهي ما يُطلق عليها ظاهرة الإقحام «intercalation»، حيث تغيير خصائص المواد عندما تعلق الأيونات داخلها.

وفي معامل «Exxon»، بدأ «ستانلي ويتنجهام» وزملاؤه في بحث ودراسة المواد فائقة التوصيل، بما في ذلك ثاني كبريتيد التنتالوم «tantalum disulphide»، حيث أضافوا له الأيونات، ودرسوا كيفية تأثر التوصيل الكهربائي بها. وكما يحدث غالبًا في العلوم، أدت هذه التجربة إلى اكتشاف قيّم وغير متوقع؛ حيث اتضح أن أيونات البوتاسيوم أثرت على قدرة التوصيل لثاني كبريتيد التنتالوم، وعندما بدأ ستانلي دراسة المادة بالتفصيل لاحظ أنها تملك كثافة طاقة مرتفعة جدًا.

كانت التفاعلات التي نشأت بين الأيونات وثاني كبريتيد التنتالوم غنية بالطاقة، وعندما قاس جهدها وجد أنه 2 فولت، وكان هذا أفضل من بطاريات كثيرة في ذلك الوقت. ولكن كان عنصر التنتالوم من أثقل العناصر الكيميائية، ولم يكن السوق يحتمل مزيدًا من البطاريات الثقيلة؛ لذا استبدله بالتيتانيوم، وهو يملك خصائص مماثلة لكنه أخف بكثير.

أين دور الليثيوم في هذه القصة إذن؟ حسنًا، هنا يأتي دور الليثيوم؛ القطب السالب على هذه البطارية المبتكرة. لم يأتي اختيار الليثيوم عشوائيًا، ففي أي بطارية، يجب أن تتدفق الإلكترونات من القطب السالب (الأنود) إلى القطب الموجب (الكاثود)، حتى يتولد التيار الكهربائي. لذلك، يجب أن يحتوي الأنود على مواد تتخلى بسهولة عن إلكتروناتها، ومن بين جميع العناصر، يتخلى الليثيوم عن إلكتروناته بسهولة كبيرة.

وكانت النتيجة بطارية ليثيوم قابلة للشحن، عملت في درجة حرارة الغرفة وتمتعت بإمكانات هائلة. ولكن للأسف بدأت المشاكل والعقبات في الظهور، فكلما تم شحن البطارية عدة مرات، نمت شعيرات رقيقة من الليثيوم على القطب السالب، وعندما وصلت إلى القطب الآخر، حدثت مشكلة في الدائرة أدت إلى انفجار البطارية. لجعل البطارية أكثر أمانًا، أضيف الألومنيوم إلى قطب الليثيوم وتم تغيير الإلكتروليت بين الأقطاب، وهي المادة التي تحتوي على أيونات حرة وتشكل وسطًا ناقلًا للكهرباء.

ومع انخفاض سعر البترول بشكل كبير في أوائل الثمانينيات، اضطرت شركة «Exxon» لإيقاف أعمال تطوير البطاريات، وانتقلت هذه التكنولوجيا لثلاث شركات في ثلاثة أجزاء مختلفة من العالم. ومع ذلك، لم يعنِ هذا توقف عملية التطوير، وهنا جاءت المرحلة الثانية مع «جون جوديناف».

المرحلة الثانية مع «جون جوديناف»

This year’s Chemistry Laureate John Goodenough doubled the lithium battery’s potential, creating the right conditions…

Gepostet von Nobel Prize am Mittwoch, 9. Oktober 2019

بعد أن حاز على جائزة نوبل هذا العام، يعتبر الأمريكي «جون جوديناف» أكبر الحاصلين على الجائزة عن عمر يناهز 97 عامًا، وهو حاليًا أستاذ الهندسة الميكانيكية وعلوم المواد في جامعة تكساس بأوستن.

عمل «جون جوديناف» لسنوات عديدة في مختبر لينكولن بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا «MIT»، وعندما عُرض عليه منصب أستاذ الكيمياء العضوية بجامعة أكسفورد في بريطانيا، انتهز الفرصة ودخل إلى مجال أبحاث الطاقة.

وبالطبع كان على علم بالبطارية الثورية التي طورها «ويتنجهام»، ولكن من خلال تخصصه وخبرته في علم المواد، اقترح «جون جوديناف» أن كاثود البطارية يمكن أن تزيد قدرته إذا صُنع باستخدام أكسيد المعدن بدلًا من الكبريتيد. ثم كلف مجموعته البحثية لإيجاد أكسيد المعدن الذي يمكن أن ينتج جهدًا أعلى عند استخدام أيونات الليثيوم، وفي ذات الوقت لا ينهار عندما يتم إزالة الأيونات.

نجح هذا البحث بأكثر مما كان يأمل فيه «جوديناف»، حيث كانت البطارية الأولى تولد 2 فولت، ولكن البطارية الجديدة مع أكسيد الليثيوم والكوبالت في الكاثود كانت تولد تقريبًا الضعف أي 4 فولت.

كانت إحدى أهم خطوات نجاح هذه البطارية هي عدم حاجتها إلى البقاء في حالة الشحن عند تصنيعها، كما كان يحدث سابقًا، ويمكن أن تُشحن فيما بعد. وفي عام 1980، نشر الاكتشاف، للمواد الجديدة للكاثود الغنية بالطاقة، وبالرغم من وزنها الخفيف، إلا أنها أنتجت بطاريات قوية ذات سعة مرتفعة، وكانت هذه خطوة حاسمة نحو الثورة اللا سلكية للأجهزة.

المرحلة الثالثة مع «أكيرا يوشينو»

2019 Chemistry Laureate Akira Yoshino developed the first commercially viable lithium-ion battery.When Akira Yoshino…

Gepostet von Nobel Prize am Mittwoch, 9. Oktober 2019

في ثمانينيات القرن الماضي، وبينما قل الاهتمام بوسائل وتكنولوجيا الطاقة البديلة في الغرب، كان الأمر مختلفًا في اليابان، حيث كانت تتمنى شركات الإلكترونيات هناك الحصول على بطاريات قابلة للشحن وخفيفة الوزن ويمكنها أن تُشغّل الأنظمة الإلكترونية المبتكرة لديهم، مثل كاميرات الفيديو والهواتف اللا سلكية وأجهزة الكمبيوتر.

كان واحدًا من الذين رأوا هذه الحاجة الملحة هو الكيميائي الياباني «أكيرا يوشينو»، الذي يعمل في الشركة اليابانية العالمية للمواد الكيميائية «Asahi Kasei»، والأستاذ بجامعة «Meijo». وعندما قرر تطوير بطارية عملية وقابلة للشحن، استخدم أكسيد الليثيوم والكوبالت في الكاثود، وحاول استخدام مواد كربونية مختلفة في الأنود.

أظهر الباحثون سابقًا أن أيونات الليثيوم يمكن إقحامها في الطبقات الجزيئية للجرافيت، ولكن كان الجرافيت ينهار بسبب الإلكتروليت في البطارية. جاءت اللحظة الهامة لاكتشاف «أكيرا يوشينو» عندما حاول استخدام فحم الكوك، وهو منتج ثانوي من صناعة النفط.

عندما شحن فحم الكوك بالإلكترونات، انسحبت أيونات الليثيوم في المادة، ثم عند تشغيل البطارية، تدفقت الإلكترونات والأيونات نحو أكسيد الكوبالت في الكاثود، وبهذا امتلكت البطارية إمكانات أعلى من السابق بكثير: كانت مستقرة، وخفيفة الوزن، وذات قدرة عالية، وتنتج 4 فولت، كما أنه تخلص من الليثيوم النقي في البطارية، لتعتمد بالكامل على أيونات الليثيوم، وهو ما جعلها أكثر أمانًا، ولا تتعرض للانفجارات كالسابق.

من أهم مميزات بطارية أيون الليثيوم أن الأيونات يتم إقحامها في الأقطاب، حيث تستند معظم البطاريات الأخرى على التفاعلات الكيميائية التي يتم فيها تغيير الأقطاب ببطء ولكن بثبات، وعندما يتم شحن بطارية أيون الليثيوم أو استخدامها، تتدفق الأيونات بين الأقطاب دون التفاعل مع محيطها، وهو ما يعني أن عمر البطارية سيكون طويلًا، ويمكن شحنها لمئات المرات قبل أن يتدهور أداؤها، مثلما يحدث في بطاريات الهواتف المحمولة على سبيل المثال.

ومن خلال أعمال وأبحاث وابتكارات علماء الكيمياء الثلاثة، استطعنا استخدام هواتفنا الذكية وأجهزة الكمبيوتر في أي مكان، وتمكنا من تخزين الكهرباء الناتجة من مصادر الطاقة النظيفة، والاعتماد على السيارات الكهربائية في المستقبل.