في نهار اليوم الثالث من أكتوبر/تشرين الأول، تقرر منح جائزة نوبل في الفسيولوجيا أو الطب لعام 2016 للعالم الياباني يوشينوري أوسومي Yoshinori Ohsumi المولود عام 1945م في اليابان والحاصل على درجة الدكتوراه من جامعة طوكيو في عام 1974م؛ بسبب اكتشافه وتوضيحه للآليات الكامنة خلف عملية الالتهام الذاتي Autophagy، والتي تعد عملية مهمة وأساسية لتحلل وإعادة استخدام المكونات الخلوية المختلفة.


ما هو الالتهام الذاتي؟

تشتق كلمة Autophagy من الكلمتين اليونانيتين (auto) وتعني (ذاتيّ) وكلمة (phagein) وتعني (التهام)، وبناء على ذلك الاشتقاق فإن كلمة (Autophagy) تعني (الالتهام الذاتي) وهو أن تقوم الخلية بهضم مكوناتها. ظهر ذلك المفهوم لأول مرة في ستينات القرن العشرين، حين لاحظ العلماء أن الخلايا الحية يمكنها أن تقوم بتدمير مكوناتها عن طريق إحاطتها بغشاء وتكوين حويصلة تضم الأجزاء المراد تدميرها/هضمها ونقلها إلى أحد العضيات organelle الخلوية التي تعمل كغرفة لإعادة التدوير وتسمى الجسيم الحالّ أو اليحلول lysosome حيث يتم هضم تلك المكونات الخلوية وتحليلها إلى عناصرها الأولية.

وقد أدت الصعوبات التي واجهت دراسة تلك الظاهرة إلى نقص كبير في المعلومات المتاحة عنها حتى بدايات تسعينات القرن العشرين، حين بدأ يوشينوري أوسومي مجموعة من التجارب الرائعة باستخدام فطر الخميرة لتحديد الجينات الضرورية لعملية الالتهام الذاتي، ثم استمر في تجاربه لتوضيح الآليات التي تتم بها تلك العملية وأثبتت تجاربه أن نفس الآليات تتم في خلايانا البشرية لتنظيم نفس العملية.

رسم توضيحي لكيفية تكون الحويصلات التي تضم المكونات الخلوية المرغوب التخلص منها وكيفية ارتباطها بالجسيمات الحالّة (lysosomes)
رسم توضيحي لكيفية تكون الحويصلات التي تضم المكونات الخلوية المرغوب التخلص منها وكيفية ارتباطها بالجسيمات الحالّة (lysosomes)

أدت تلك الاكتشافات إلى تحول جوهري في طريقة فهمنا لكيفية إدارة الخلايا لمحتوياتها، كذلك أدت إلى فهم الأهمية الجوهرية لعملية الالتهام الذاتي في العديد من العمليات الفسيولوجية، حيث تحتوي الخلية الحية على العديد من المكونات الهامة في مساحة صغيرة جدًا، وفي بعض الأحيان تنهار بعض تلك المكونات، أو تتعرض الخلية للهجوم. وللحفاظ على الآليات الحيوية المعقدة للخلية، فإنه لا بد من طريقة للتخلص من تلك البقايا وهو ما تقوم به عملية الالتهام الذاتي، كما أن تعرض الجينات المسئولة عن عملية الالتهام الذاتي يمكن أن يتسبب في الإصابة بالمرض، كما أن تلك العملية تتدخل في عدد كبير من الحالات كالسرطان على سبيل المثال.

وقد أدت أعمال أوسومي إلى خلق اهتمام كبير بموضوع الالتهام الذاتي؛ مما جعله واحدًا من أهم المواضيع البحثية في العلوم الطبية.

رسم بياني يوضح عدد الأبحاث العلمية المنشورة سنوية والتي تضم بفظ (الإلتهام الذاتي) في عنوانها
رسم بياني يوضح عدد الأبحاث العلمية المنشورة سنويًا والتي تضم لفظ (الالتهام الذاتي) في عنوانها.

أنواع مختلفة من الالتهام الذاتي

منذ ذلك الوقت تطورت معرفتنا بعملية الالتهام الذاتي بشكل كبير، فأصبحنا الآن نعلم أن تلك العملية تنقسم إلى أنواع مختلفة، منها على سبيل المثال (Macroautophagy) وهو عملية التهام الخلية لأجزاء كبيرة من تركبيها الداخلي كالعضيات المختلفة على سبيل المثال، وكذلك (microphagy) وهو العملية التي تقوم فيها الخلية بالتخلص من الجزيئات العائمة التي لا داعي لها في الخلية، و(xenophagy) وهو العملية التي تستخدم لتحطيم البكتيريا والفيروسات التي تقوم بمهاجمة الخلية.

اكتشاف الجينات المتحكمة في الالتهام الذاتي

قام أوسومي، بعد تحديده للآليات المنظمة لعملية الالتهام الذاتي باستخدام نفس الخلايا موضع التجارب، بالبحث عن الجينات المسئولة عن العملية، حيث قام بتعريض تلك الخلايا لبعض المواد الكيميائية التي تقوم بالتسبب في بعض الطفرات في مواضع مختلفة من الحمض النووي ومن ثم قام بمتابعة الخلايا لمعرفة إذا ما كانت لا تزال قادرة على القيام بالعملية أم لا، وخلال عام كان أوسومي قد استطاع تحديد أول الجينات المسئولة عن عملية الالتهام الذاتي. وفي تجاربه اللاحقة تم تمييز البروتينات التي تقوم تلك الجينات بإنتاجها، وأظهرت النتائج أن عملية الالتهام الذاتي تتم إدارتها وتنظيمها عن طريق سلسلة من البروتينات حيث يتولى كل منهم مرحلة معينة في تكوين الحويصلة التي سوف يتم هضم محتوياتها.

رسم توضيحي للدور المختلف لأنواع مختلفة من البروتينات في عملية الالتهام الذاتي.

أهمية الالتهام الذاتي

بفضل أوسومي -وغيره ممن ساروا على خطاه- فقد أصبحنا الآن نعرف أن عملية الالتهام الذاتي تتحكم في العديد من العمليات الفسيولوجية الهامة التي تحتاج إلى تحليل وإعادة تدوير بعض مكونات الخلية. يمكن لعملية الالتهام الذاتي أن توفر مكونات يتم استهلاكها لتحرير بعض الطاقة الكامنة في الخلية أو توفير بعض العناصر الأساسية لبناء وإعادة تجديد المكونات الخلوية؛ ولذلك فهي عملية أساسية في استجابة الخلايا للجوع وأنواع أخرى من الإجهاد، كما يساهم الالتهام الذاتي في التطور الجنيني وتمايز الخلايا (حيث أن كل الخلايا البشرية ذات أصل واحد، ثم تخضع تلك الخلايا للكثير من التعديلات في مكوناتها لتصبح ما هي عليه في النهاية)، كما تستطيع الخلايا استخدام الالتهام الذاتي للتخلص من البروتينات والعضيات التالفة، فيما يعد آلية مهمة لمكافحة الآثار السلبية للتقدم في العمر.

يساعد الفهم الأفضل لآليات عملية الالتهام الذاتي في جعل الباب واسعًا أمام الكثير من الاحتمالات، حيث قد يساعدنا على التدخل الموجه بطرق دقيقة في تلك العملية على الوصول إلى طرق تساعدنا على جعل البشر يعيشون حياة أطول وأكثر صحة؛ مما يجعل عمل أوسومي عملًا ذا قيمة بالغة للطب في القرن الحادي والعشرين.

المراجع