اللاعنف ومقاومة الاستعمار؛ 3 تجارب تشرح لك
النصر الذي حققه العنف هو بمثابة هزيمة، لأنه مؤقت
ما بين المقاومة باستخدام السلاح ومقاومة الاستعمار والاضطهاد والعنصرية، ما بين تكبيد المضطهِد خسائر في صفوف جنوده وقواته، ومابين المقاومة باللافعل وتكبيد المضطهِد خسائر في أمواله ومرافقه. بـ «ألا نفعل شيئًا»، هكذا اتخذ الكثيرون طريقًا للمقاومة بدون سلاح أو عنف.
سياسة اللاعنف
يعنى مصطلح «اللاعنف»؛ استمرار النضال من خلال الوسائل السياسية والسلمية وعدم اللجوء إلى المواجهة بالسلاح مع الخصوم، ولسياسة اللاعنف الكثير من الأدوات مثل الوقفات الاحتجاجية، العصيان المدني، الإضرابات، الإضراب عن الطعام. وتقوم فكرة اللاعنف على النضال من خلال الأفكار وتحويل الأفكار إلى وسائل للمقاومة على أرض الواقع.
ويُرجع بعض الباحثين فكرة الاحتجاج واللاعنف إلى العصور الرومانية في ثورات الشعوب ضد حكاهم، ففي إحدى تلك الثورات قام المحتجون بالانسحاب من المدينة وتركها خالية احتجاجًا على الظلم الذي طالهم، كما هدد سكان روما في أحد المرات بالانسحاب من المدينة وتأسيس مدينة بديلة لهم.
مع بداية عام 1800 قام الأمريكي «هنري دايفيد ثورو» بقيادة تظاهرة سلمية ضد الحرب الأمريكية في المكسيك، وسجن على أثرها
ومع بداية عام 1800 قام الأمريكي «هنري دايفيد ثورو» بقيادة تظاهرة سلمية ضد الحرب الأمريكية في المكسيك، وسجن على أثرها. وخلال فترة سجنه قام بكتابة مقالة عن العصيان المدني، وفي عام 1910 تم إرسال مقالته إلى توستلوي وغاندي.
إلا أن المفهوم أخذ في التبلور بالقرن التاسع عشر مع المقاومة الهندية للاستعمار البريطاني، حيث بدأ غاندي في مقاومته عام 1918 بإعطاء دروس للمواطنين بجميع أنحاء الهند عن «الحقيقة واللاعنف» وكيفية مقاومة عنف البريطانيين، من أجل خلق أرض خصبة لأفكاره عن المقاومة. هو ما حديث أيضًا بجنوب إفريقيا، بمقاومة مارتن لوثر كينج للعبودية في الولايات المتحدة الأمريكية.
ولكن يرى البعض أن هذه السياسة لا تجدي نفعًا، وأنها محض تنظيرات لا تمت للواقع بصله، فكيف استفاد منها السابقون فى نضالتهم السابقة؟
ساتياگراها الملح
ربما فكر البريطانيون في ظلم كل هندي بفرض ضريبة على الماء، ثم وجدوا أن ذلك مستحيلا. ولهذا فرضوا ضريبة على الملح، وبدأوا ظلما قاسيا لمئات الملايين من الجوعى والضعفاء
86 عامًا تمر على مسيرة الملح، أكثر المسيرات التي كانت خطوة في سبيل تحرر الهند من الاستعمار البريطاني، ففي 12 مارس/ آذار 1930 تحرك المهاتا غاندي في مسيرة طويلة استمرت 24 يومًا وبلغ طولها 400 كم احتجاجًا على ضرائب الملح التي تفرضها السلطات البريطانية واحتكارها لصناعة الملح.
وتعتبر مسيرة الملح جزء من مسيرة غاندي في كفاحه السلمي ضد الاستعمار البريطاني، الذي قاده قبلها بسنوات، وقبل انطلاق المسيرة قرر حزب المؤتمر الذي يتزعمه غاندي، استكمال سياسة العصيان المدني بالامتناع عن دفع ضريبة الملح والسير إلى مصنع الملح، مطالبين بحق الهنود بتصنيع الملح بأنفسهم.
لم يقتصر كفاح غاندي ضد الاستعمار الإنجليزي على مسيرة الملح حيث كانت خطوة ضمن الكثير من الخطوات نحو الاستقلال، فمنذ أن عاد إلى الهند -عام 1914- دعا الهنود إلى مقاطعة البضائع الإنجليزية والاكتفاء بما هو محلي. واكتفى بأن يلبس ثوبًا من القطن أو الصوف من الصناعة المحليه لبلده حتى يكون قدوة للآخرين، كما قاد غاندي الكثير من الإضرابات والعصيانات المدنية ضد حكومة الهند، ففي عام 1915 قام بتنظيم احتجاجٍ من قبل العمال والفلاحين ضد الضرائب على الأراضي.
وتم اعتقال غاندي يوم 5 مايو 1930 على أثر دعواته لمسيرة الملح، مما أدى إلى استمرار المضربين في إضرابهم لمدة عام حتى تم الإفراج عنه، وبدأت المفاوضات من أجل حصول الهند على استقلالها وحكمها الذاتي.
تضامن الشعب البولندي
إذا كنت تؤيد سوليداريتي اشطب كل اسم ما عدا هذه الأسماء
تُعد نقابة «التضامن» لعمال بناء السفن أول نقابة مستقلة يتم تأسيسها في الكتلة السوفيتية، عام 1980. وتم إنشاؤها في مدينة «غدانسك» بشمال بولندا،بعد أن قام رؤساء العمال بالمصنع بطرد العمال مما دفعهم إلى الإضراب وتكوين النقابة.
ونجحت النقابة في تجميع عدد كبير من المجتمع المدني البولندي والمثقفين خلفها، حيث تبنت النقابة مبادئ اللاعنف كما تضمن إعلان إنشائها عددًا من النصوص التي سمح لها بأن تتحول إلى فدرالية فيما بعد ضمت عشرة ملاين عامل من إجمالي 13 مليون عامل بأنحاء بولندا.
استمر إضراب العمال والنقابة حتى انتهت المائدة بعقد انتخابات برلمانية جزئية
استمر إضراب العمال والنقابة حتى تم دعوتها إلى المائدة المستديرة لبحث مجريات الأمور ببولندا، وانتهت المائدة بعقد انتخابات برلمانية جزئية، ورأى النظام أن يتحتفظ لنفسه ب 65 % من المقاعد البرلمانية ويترك باقي المقاعد للتنافس عليها.
ساعدت نقابة التضامن المرشحين المعارضين في الانتخابات، سواء من خلال الدعاية أو مراقبة الانتخابات والإشراف عليها، وبالفعل نجح المعارضون والنقابة في الوصول إلى السلطة، ومن ثم تلاها حل الحزب الشيوعي وإدخال العديد من الإصلاحات الديمقراطية على النظام.
ثورة الغناء والتحرر
لو كنا نجيد الغناء فعلا لما هرب الروس من بلادنا
الكثير من القمع والدول المحتلة تحت مزاعم الشيوعية والمساواة بين الشعوب، هذا هو الحال الذي كانت عليه أغلب الدول الواقعة تحت السيطرة السوفيتية، وهكذا كان حال إستونيا، أحد دول البلطيق حيث كانت خاضعة للاحتلال السوفيتي منذ عام 1944. ولم يكن الشعب الإستوني يملك آية جيش يستطيع صد ذلك الاحتلال ومقاوته، وفي أواخر السنوات المتبقية للاتحاد السوفيتي ومع وجود آخر رئيس له، صرح جورباتشوف الرئيس السوفيتي بعدم أحقية وشرعية بلاده باحتلال دول البلطيق.
1 9 8 7 بدأ الإستونيون في مقاومة الاحتلال السوفيتي، من خلال تنظيم مظاهرات حاشدة وقام المتظاهرون بغناء أغانيهم الوطنية والفلكلورية التي يحظرها المحتل السوفيتي
أخذ الشعب الإستوني ذلك التصريح بأنه فرصتهم للاستقلال، وفي عام 1987 بدأ الإستونيون في مقاومة الاحتلال السوفيتي من خلال تنظيم مظاهرات حاشدة وغناء أغانيهم الوطنية والفلكلورية التي يحظرها المحتل السوفيتي. وفي عام 1988 تم التجهيز إلى مهرجان غنائي ضخم حضره أكثر من 300000 ألف مواطن آستوني-أكثر من ربع تعداد السكان آنذاك- وسمي «نشيد إستونيا».
وفي عام 1990 حاولت الدبابات السوفيته قمع حركة المقاومة والاستقلال، إلا أن المحتجين أقاموا حواجز بشرية أمام الدبابات وبدأوا في غناء أناشيدهم الوطنية، ثم انتقلت الحواجز لحماية المؤسسات الوطنية. واستمر الحراك وثورة الغناء حتى حصلت أستونيا على استقلالها عام 1991 قبل انهيار الاتحاد السوفيتي.
لم تكن إستوينا وحدها من دول البلطيق التي قاومت الاتحاد السوفيتي بشكل سلمي ودون سلاح، فكما تعامل الاتحاد السوفيتي مع إستونيا ولتواينا ولاتفيا -دول البلطيق- على أنهم وحدة واحدة، فهم أيضًا قاوموا ككتلة واحدة في أوقات متقاربة للحصول على الاستقلال.
ويبقي ما يميز دول البلطيق في نضالهم ضد السوفيت هو تنظيمهم لسلسلة بشرية بين عواصم الدول الثلاثة عام 1989، سميت تلك السلسلة ب«طريق البلطيق» وبلغ طولها 600 كم، ولم يقم المشاركون في السلسلة سوى بغناء أغانيهم الوطنية المحظورة من الاتحاد السوفيتي حتى حصلت الدول الثلاث على الاستقلال واحدة تلو الأخرى.
ثلاثة تجارب والكثير من صور القمع والاحتلال واستغلال إمكانيات الشعوب، شعوب مسالمة أو شعوب لا تملك ما تسطيع أن تقاوم به الاحتلال العسكري بنفس قوته، إلا أنه دائمًا ما كان هناك الحل والمقاومة من خلال اللاعنف والسلمية. ثلاثة شعوب ما بين المقاومة بصناعتهم ليخدموا أنفسهم ويمتنعوا عن خدمة المستعمر، وشعوب أخرى فضلوا وقف الصناعة وحشد المجتمع المدني والشعب تحت لوائهم حتى حصلوا على استقلالهم، وهناك من كان لا يملك سوى صوته وأناشيده المحظورة. ثلاث تجارب استطاعت بالإصرار على المقاومة أن تثبت لسياسة اللاعنف جدوى.
