في عام 1688، كان الطبيب السويسري «يوهانس هوفر» يراقب الجنود السويسريين المحاربين في الخارج عندما ظهرت على بعضهم أعراض مزعجة، لقد كانوا مكتئبين وذهولين وقلقين، لم يستطيعوا تناول الطعام أو النوم، وعانوا من الحمى وخفقان القلب، وتجنبوا المواقف الاجتماعية، وأصبحوا غاضبين، وغير قادرين على التوقف عن التفكير في المنزل، وتملّكتهم حالة غريبة من الحنين إلى الوطن.

عزا الأطباء العسكريون هذا الشعور بالحنين إلى أذيات الدماغ، ومُنع الجنود من غناء أغانيهم حتى لا يتفاقم حنينهم، أما هوفر فقد اعتبر هذا الحنين إلى الوطن مرضًا دماغيًا لقضية شيطانية تؤثر على أدمغة الجنود بأفكار عن الوطن، مما يجعلهم مرضى من الشوق، وأطلق عليه مصطلح «نوستالجيا» (ألم العودة إلى الوطن)، من اليونانية (nóstos) (العودة إلى الوطن) و(álgos) (ألم).


ذاكرتك هي أنت

الذاكرة هي قدرة الدماغ البشري على تخزين واسترجاع المعلومات والتجارب والحقائق والانطباعات والمهارات والعادات التي سبق تعلمها؛ لنستفيد بها في حاضرنا، وهذا يشبه استخدام الخبرة السابقة للتأثير على السلوك الحالي.

فسيولوجيًا أو عصبيًا؛ الذاكرة مجموعة من الروابط العصبية المشفرة في الدماغ، والتي تعمل على إعادة بناء التجارب الماضية من خلال إطلاق متزامن للخلايا العصبية التي كانت مرتبطة بالتجربة الأصلية، فتقوم بعملية إعادة بناء لعناصر منتشرة في أدمغتنا، بطريقة تشبه اللغز أو أحجية الصور، وليست كمجموعة من التسجيلات أو الصور أو مقاطع الفيديو المخزنة.

ولذاكرتنا أهمية كبرى في صنع «من نحن»، فالذين يفقدون ذاكرتهم أو يصابون بألزهايمر يقومون بكل الوظائف الحياتية إلا أنهم لا يدركون من هم، ولا يدركون ما حولهم، فإذا مُحيت ذكرياتنا مُحينا، وقد يؤدي التخلص من بعض آثار الماضي إلى تعطيل التذكر، مثل: التذكارات والهدايا والصور، وأي شيء آخر يمكن أن يثير الذكريات.

وتُعد قدرة البشر على استدعاء الذكريات الماضية لتخطيط مسارات المستقبل هي سمة ذات قيمة كبيرة في بقائنا وتطورنا كنوع، وتلعب الذاكرة الجماعية دورًا أساسيًا في تأسيس المجتمعات البشرية.


احذر الوثوق بذاكرتك

تذكُر حدث أو موقف أو شخص يمكن أن يثير الأحاسيس داخلنا، وهو ما يُعرف بالذاكرة العاطفية، التي قد تساعدنا في حاضرنا عن طريق استخدامها لتقديم معلومات في شكل ذكريات.

فالذكريات العاطفية تعمل على توجيهنا، فإذا سبق لك التعرض لموقف محزن فهي تحميك من القيام بذلك مرة أخرى، لكن احذر؛ فالعاطفة التي تنشّطها الذاكرة تختلف عن العاطفة أثناء التجربة الفعلية.

كما أنه في المواقف العاطفية قد نحصل على ذاكرة قوية لبعض التفاصيل، وهو أمر يقودنا إلى الاعتقاد أن لدينا ذاكرة قوية لجميع التفاصيل، لكننا لا يجب أن نثق بذلك؛ فالذاكرة لا تعمل بصورة مثالية؛ إذ إن النسيان يعد جزءاً طبيعياً من الذاكرة، لذا فلا أحد يملك ذاكرة جيدة، لكن البعض لديهم تحيز في ذاكرتهم، بمعنى أنهم يتذكرون بعض – وليس كل – الأشياء بتفاصيلها، وعادة ما يدّعون امتلاكهم لذاكرة جيدة؛ لأنهم يحاولون إثبات أنهم على حق وغيرهم على خطأ، إلى جانب أن امتلاك ذاكرة جيدة لاستدعاء الأحداث قد لا يكون أمراً سعيداً.


لعبة النوستالجيا

هناك اختلاف بين التذكر والحنين إلى الماضي (النوستالجيا)، فالتذكر جهد واعٍ ومتعمد لتذكر الماضي، أما الحنين فيكون مدفوعاً بالحواس؛ إذ إن أهم مشغلات الحنين هي الروائح والموسيقى، وغالباً ما يكون غير متعمد، فهو فيض شعوري يحولنا مؤقتاً من الحاضر ويغمرنا في الماضي، فهو شعور بالحنين يرتبط بذكرى معينة، أو حالة عاطفية من الحنين إلى الماضي نصنعها في أوقات معينة؛ لنستعيد لحظات سعيدة من ذاكرتنا لتحل محل لحظات سلبية نعيشها، ويمكن اعتباره آلية دفاعية عقلية لتحسين حالتنا النفسية في الأوقات التي نشعر فيها بفقدان قيمة الحياة، فيقوم عقلنا باستدعاء ذكرياتنا السعيدة؛ ليعطينا شعوراً بقيمة أنفسنا، وبأن حياتنا البائسة كانت ذات قيمة يوماً ما.

والحنين هو جزء من الحالة البشرية؛ إذ يصاحب مختلف الناس في مختلف الأعمار والظروف، وفي حين أن معظم الحنين هو حنين شخصي لذكريات خاصة، إلا أن بعض الناس يعيشون نوعاً من الحنين التاريخي لحقبة ماضية، وهو ما يتضح عند حديثنا عن (زمن الفن الجميل) مثلاً.


فوائد التذكر والحنين

هناك استخدامات إيجابية للذاكرة – حتى الذاكرة المؤلمة – في مواجهة التحديات والتغيرات في حياتنا، فهي تساعدنا عند تشكيل هويتنا في أوقات التغيير، وقد يكون هذا هو سبب هيمنة الحنين بين المراهقين، فعندما تصبح الحياة أكثر استقراراً، يصبح الإنسان أقل حنيناً.

ويمكن اعتبار الذاكرة وسيلة لإعادة كتابة الذات، ويمكن اعتبار النوستالجيا قصة للذات، فقدرتنا على التذكر هي أساس من نحن، فإذا فقدت ذاكرتك تفقد الاتصال مع ذاتك، ولمعرفة من أنت كشخص يجب أن يكون لديك فكرة عن هويتك، وقصة حياتك المتذكرة هي دليل جيد لما ستفعله غداً.

لذا ليس غريباً أن يكون هناك سحر بهذه القدرة الإنسانية، فعندما نرجع إلى حدث ماضٍ لا نستحضر فقط التواريخ والأزمنة والأماكن -ما يسميه علماء النفس (الذاكرة الدلالية)- بل نستطيع بطريقة ما إعادة بناء اللحظة في بعض تفاصيلها الحسية، واستعادتها كما كانت، نحن نعود إلى هناك وسط المشاهد والأصوات والروائح، ورغم أنها تبدو خدعة من الناحية النفسية، إلا أننا نتعامل مع ذكرياتنا كما لو أنها ممتلكات مادية نفيسة تتم حمايتها بعناية.

و يقول بعض علماء النفس إن الحنين إلى الماضي نعمة، وهو مصدر قوة يُمكِّن الفرد من مواجهة المستقبل، وهو أمر مدهش؛ إذ يربط ماضي الشخص بحاضره ومستقبله بطريقة مذهلة، ويساعد في درء المشاعر السلبية، ويطمئننا إلى أن الحياة ذات مغزى، ويمكن أن يساعد تكرار هذه المشاعر الإيجابية في التغلب على مشاعر القلق والوحدة والاكتئاب.

لذلك نحن نحب النوستالجيا؛ لأنها تذكرنا بأشياء تنقصنا، وتغمرنا بشعور جيد نحتاجه، وكلما زاد رضانا عن واقعنا قل ذلك الشعور لكنه لا يختفي، ويبقى مصدراً من مصادر شعورنا بالراحة والسعادة؛ إذ يربطنا بأشخاص مُحببين، وأماكن حميمية، وروائح مألوفة، نتذكرها فتتحسن حالتنا النفسية، وتزداد رغبتنا في التواصل مع الآخرين، فالعديد من علاقاتنا الاجتماعية تدوم بسبب الحنين إلى الماضي، كما أن المشاركة في لحظة حنين يمكن أن يصلح علاقة متوترة.


النوستالجيا الحديثة

لأكثر من قرن كان ينظر إلى الحنين إلى الماضي باعتباره اضطراباً عقلياً، وشكلاً من أشكال الاكتئاب، أو من أعراضه الخطيرة، حيث يفقد الشخص القدرة على العيش في الحاضر.

وفي نهاية القرن العشرين أصبح وسيلة لمواجهة الاكتئاب. فالذكريات يمكن أن تساعد في رفع معنوياتك، والأوقات الجيدة التي عشتها في الماضي يمكن أن تحدث مرة أخرى، كما أن كثرة الشعور بالحنين قد يكون علامة على وجود خطأ ما في حياتك الحالية تحاول باستمرار الهروب منه، فضلاً عن أن التأمل في الماضي أمر لا يدعو للقلق، إنه ببساطة تفاعل دماغي مع جزء ما من الذاكرة، أو رد فعل وقائي من الدماغ لتعزيز معنوياتنا.

واليوم يُنظر إلى الحنين على أنه سمة إيجابية للوعي البشري، إذ هو عاطفة طبيعية وشائعة وإيجابية، ووسيلة للسفر خارج حدود الوقت والفضاء المميتين؛ فهو يكسر الرتابة، ويطمئننا إلى أن حياتنا وحياة الآخرين ليست مبتذلة كما تبدو، وأنه كانت هناك – وستكون – لحظات جيدة، وهنا يؤدي الحنين وظيفة مشابهة للتوقعات، والتي تعرف بأنها الحماس لبعض الأحداث الإيجابية المتوقعة أو المأمولة.


النوستالجيا وخطر الحياة البديلة

للبشر قدرة مذهلة على التذكر، وقد يكون الأمر مفيداً عند تذكر الأشياء المفقودة، لكنه قد لا يكون مفيداً في لحظة حزن أو شوق، بل يكون مؤلماً؛ لأنه يرسخ الإحساس بأن الماضي أفضل من الحاضر، وأحياناً لا يكون الحنين حالة عاطفية، بل توقاً إلى انطباع جيد عن الماضي.

وبدلاً من رؤية الماضي لما كان عليه فعلاً، نتذكره باعتباره مجموعة من الذكريات السعيدة فقط؛ لأن عقولنا لا تتذكر الأشياء كما حدثت، لكن مع بعض التعديلات التي تجعل التذكر ممتعاً. على سبيل المثال، قد تتذكر لحظات ممتعة من عطلتك، ولكنك تنسى فقد أمتعتك في الطريق، أو أن الأمطار أفسدتها.

ومن ناحية أخرى، يمكن القول إن الحنين هو شكل من أشكال الخداع الذاتي؛ لأنه ينطوي على إضفاء الكمال على الماضي، فالتفاصيل السيئة تتلاشى من الذاكرة، والإفراط فيه يمكن أن يؤدي إلى فكر يوتوبي لا يمكن أن يُوجد في الحقيقة، مما يؤدي إلى تقويض الحياة في الحاضر، وهنا يكمن خطر النوستالجيا، عندما نجعلها الحياة البديلة، فنعيش في الماضي، ونفقد القدرة على التعايش في الحاضر فنهدم المستقبل.


الوجه القبيح للنوستالجيا

إنه أمر غريب؛ ذاكرة حية من الماضي، يطاردها أناس يتعلقون بأشياء لم تعد موجودة في عالم لم يعد له وجود، ومع ذلك، يبدو كل شيء حيوياً في أذهاننا كما لو أن ذلك قد يعيدها إلينا.

الحنين يُضفي رومانسية على الماضي، وهو ما جعله عنصراً شائعاً في الأدب والفن والإعلان والسينما والدراما، لكنه يكون ذا وجه قبيح عندما يعتمد المعلنون على الحنين في بيع كل شيء، من الموسيقى والملابس إلى السيارات والمنازل، ويريدوننا أن نشعر بالحنين؛ ليعيدوا بيع ذكرياتنا إلينا، وليس من الصعب أن نعرف لماذا نحن مستهدفون؛ فنحن أكبر مجموعة ديموجرافية تعيش على الكوكب، ونحن الجيل الذي يقوم بأكثر عمليات التسوق عبر الإنترنت، لذا نحن المستهلكون المثاليون.

فقد أظهرت دراسة نُشرت في مجلة أبحاث المستهلكين، أن الشعور بالحنين لديه تأثير مُسكر يفسد حكمنا، ويضعف قدرتنا على التحكم في أموالنا، لذا فالشركات تستخدم الحنين لكسب الملايين، من خلال تذكيرنا بالأوقات السعيدة، لتُشعرنا منتجاتها بتواصل أكثر، وتجعلنا أكثر تفاؤلاً بالمستقبل.

الخطير أن تزايد استغلال الشركات للحنين قد يشعرنا بالإحباط، فبدلاً من تشجيعنا على التواصل مع تاريخنا يتم تشجيعنا على التفاعل مع أحدث إصدار من المنتج، وكلما زاد تفكيرنا في الأمور التي استهلكناها قل احتمال تفاعلنا مع الجوانب الأخرى غير المرتبطة بالإعلام في تاريخنا، وهو ما قد يشوّه ماضينا من قبل الأشخاص الذين يحاولون دفع ذاكرتنا إلى الماضي باستمرار.

أفضل ما يمكن أن تربحه من النوستالجيا هو أن تذكر ماضيك لتصنع منه حاضرك ومستقبلك، وذلك بخلق ذكريات جديدة تلجأ إليها في المستقبل، كأن تشكل النوستالجيا الخاصة بك بطريقة استباقية، وهنا يمكنك التحكم نوعاً ما في مستقبلك وماضيك عندما تصل إليه.

ولكن… هل يمكن أن نصنع ذاكرة أولادنا من الآن إلى ما يحنون إليه عندما يكبرون؟، وهل يمكن أن تُصنع نوستالجيا للشعوب؛ للتحكم في ذكرياتهم وبالتالي تاريخهم وما سيبقى منه في المستقبل؟

ربما سيحدث ذلك لاحقاً مع تطور علوم النوستالجيا.