وداعًا أيها الغريب، لقد كانت إقامتك قصيرة لكن ممتعة.

بعد وفاة الأديب المصري «أحمد خالد توفيق»، ملأت تلك العباراة التي كتبها الأديب الراحل وسائل التواصل الاجتماعي على لسان معجبيه كرثاءٍ له. بتتبع العبارة تكتشف أن توفيق استخدمها في أحد كتبه كرثاءٍ منه شخصيًا لرجل آخر، نوستراداموس، في ختام كتاب خصصّه أحمد خالد توفيق لكشف بعض الغموض الذي أحاط نوستراداموس.

لكن ربما كان التفسير الذي خلص إليه الأديب المصري أكثر غموضًا من حياة نوستراداموس، فقد انتهى توفيق أنه لا بد أن الرجل استطاع السفر عبر الزمن، وتمكنّ من رؤية المستقبل فوصفه في كُتبه المليئة بالنبوءات، والتي تشعل الجدل في بداية كل عام، فقد بات الرجوع لكتب نوستراداموس طقسًا ثابتًا في رأس العام الميلادي الجديد، ليرى مصدّقوه ما الذي يخبرهم به عن عامهم الجديد.

فمثلًا مع بداية عام 2019 حبس معجبوه أنفاسهم لأن الرجل تنبأ أن 2019 سوف تكون بداية نهاية العالم، فقد تنبأ أن ذلك العام سوف يشهد مقدمات لحرب كبرى تستمر ثلاثين عامًا، وبعد تلك الحرب الكاسحة سيظل العالم يعاني من آثارها حتى يتلاشى العالم تمامًا في عام 3797 تحديدًا، العام الذي حدده نوستراداموس لنهاية العالم.

السيناريو الذي وضعه الرجل لتلك الحرب أنه سيظهر شخص يدّعي أنه المسيح، لكنّه كاذب، فتقوم حرب بين أتباعه في الشرق وأعدائه في الغرب، حرب ضروس سوف يوقفها سقوط جسم سماوي غريب يفتك بعدد هائل من سكان الأرض، فتضطر البشرية لإيقاف الحرب وإعلان انتصار الشرق. بعد انتهاء تلك الحرب سيبدأ القادة في التوافق شيئًا فشيئًا من أجل إعمار الأرض، فتُصبح الأرض صالحة للحياة لكن لمدة محدودة حتى عام 3797.

الطبيب الذي لا يؤمن بالطب

تلك القصص وغيرها نشرها نوستراداموس في كتابه الأشهر، النبوءات، عام 1555 ميلادية، وتبع كتابه هذا العديد من الكتب التي تطوع بنشرها آخرون من أجل شرح كتب نوستراداموس. ما يعني أن الرجل لم يكن مُنجمًا عاديًا في عالم التنجيم الملئ بالمُدعين، بل يمكن اعتباره إمبراطور التنجيم في حينه، وبعد مرور كل تلك العقود يمكن القول إنه لم يزل إمبراطورًا للتنجيم حتى في عصرنا شديد التشكك في الأساطير.

لا توجد الكثير من المعلومات حول نشأته أو طفولته، كل ما يعرفه المؤرخون عنه أنه وُلد في فرنسا عام 1504، وأنه استطاع في طفولته المبكرة أن يُجيد اللاتينية والعبرية واليونانية، وأن يُتقن الرياضيات. كل ذلك كان تحت إشراف ورعاية جده يهودي الأصل، الذي فضل نوستراداموس على أخوته الأربعة، وكان جدّه نافذته الأولى على الإيمان بعلم التنجيم، وبقدرة الأجرام السماوية وحركتها وتراصها بطريقة معينة على تحديد مصاير البشر، وكشف المستقبل.

كلّل نوستراداموس كل تلك العلوم بدارسة الطب البشري بشكل نظاميّ في الجامعات الأوروبية، لكنّه كان دائمًا ما يثير الجدل كلما يعلن عن رأيه في التنجيم، وعن إمكانية علاج البشر بالأعشاب دون الحاجة لتعقيدات الطب الحديث. بعد أن نفدت منه الجامعات وبات مفصولًا من غالب الجامعات الأوروبية، لم يعد أمام نوسترادموس إلا الترحال في مختلف قرى فرنسا وإيطاليا مبرهنًا على فكرته بشكل عملي.

بينما كان الطاعون ينهش الجسد الأوروبي العاجز عن العلاج، طفق نوستراداموس يعالج المصابين بعقاقير غير معروفة التركيب لكنّها ناجحة. لاحقًا كشف عن بعض أسرار عقاقيره التي تكوّنت من الزئبق، ودهن أجساد المرضى بالثوم، وجرعات عالية من النباتات التي تحتوي على فيتنامين سي.

لم يستطع إنقاذ زوجاته الثلاث

نجاحه في علاج الطاعون منحه شهرةً كطبيب قروي يُعالج بالأعشاب، لكن ذاع صيته بعد أن دعمه العديد من الأثرياء لاستكمال أبحاثه، ودعاه الأطباء الفرنسيون ليعمل معهم، أبرز هؤلاء الأطباء كان الإيطالي جول ساليجر. في تلك المرحلة استقرت حياته المادية والاجتماعية، فتزوج وأنجب 6 أطفال، وأدرت له كتبه عن الطاعون دخلًا ماديًا مريحًا، واستمر في البحث عن علاجات جديدة للطاعون، وللعديد من الأمراض المستعصية.

رويدًا بدأ نوستراداموس يشعر بالملل من الطب والعقاقير، خاصةً بعد أن ماتت زوجته الأولى ثم الثانية والثالثة بالطاعون، فامتنع الزواج واكتشف عجزه عن مداوة أقرب الناس إليه. ووجد إثارته في عالم ما وراء الطبيعة، عالم استشراف المستقبل عبر تأمل وعاء ملئ بالماء والأعشاب. عام 1550، 5 سنوات فقط قبل كتابة كتابه الأشهر، كتب الرجل أول كتاب، أو تقويم، يحوي توقعاته لأحداث عام 1551، كانت غالبها أحداث عن الطقس وأحوال التجارة، فلاقى تقويمه صيتًا كبيرًا بين المزارعين والتجار.

الإعجاب الذي قُوبل به شجعه على كتابة تقويم جديد، ثم آخر، ثم أخيرًا كتاب النبوءات. في كتابه الشهير جعل نبوءاته على هيئة أبيات من الشعر تحمل العديد من الألغاز، تلك الطريقة قللت من مصداقية أعماله إذ قال العديدون إن ألغاز نوستراداموس يمكن أن تكون إسقاطًا على أي شيء يحدث في المستقبل، خاصةً مع ذكائه وإلمامه بثقافات مختلفة فيمكن أن يكتب كلامًا عامًا يتوافق مع أي شيء في أي زمان حسب عقل القارئ.

هتلر وحريق لندن الكبير

لكن بعض النبوءات كانت شديدة التحديد بصورة تمثل تحديًا لمن يشكك فيه وتمنح المصداقية للنبوءات المُلغزة، أبرز نبوءاته الصادمة ما نصّها:

من أعماق غرب أوروبا يولد طفل صغير من الفقراء، بلسانه يغري حشدًا كبيرًا، تزيد شهرته نحو عالم الشرق، والوحوش الشريرة مع الجوع ستعبر الأنهار، الجزء الأكبر من ساحة المعركة سيكون في مقابل هيستر، في قفص الحديد سوف يرسم الشخص العظيم، عندما لا يلاحظ طفل ألمانيا شيئًا.

تلك الكلمات المكتوبة عام 1555 بتفسيرها نكتشف أنها تنطبق على أدولف هتلر، ابن إحدى أسر أوروبا الغربية الفقيرة. كما أن هتلر اشتهر في العالم بخطاباته الحماسية والحشود الهائلة التي حركّها هتلر لغزو أوروبا. أما كلمة هيستر التي ذكرها نوستراداموس، والتي اعتقد لفترة طويلة أنها غلطة مطبعيّة في الكتاب، لكن اتضح أنها تسمية قديمة لنهر الدانوب النمساوي، حيث وُلد هتلر في منطقة مجاورة له.

كما أن له نبوءة أخرى شديدة التحديد قال فيها:

سوف تذرف الدماء في لندن، ستحترق في النار عند 66، وتسقط السيدة الكبيرة من مكانها العالي، وكثير أبناء الطائفة سيقتلون.

تفسير تلك النبوءة تحقق عام 1666 حيث اشتعلت النيران في مخبز قديم في لندن، لكن تشّعب الحريق فطال غالبية لندن، واحترقت لندن ثلاثة أيام متتابعة.

أول من تنبأ بـالبسترة

أما أعظم الشهادات التي حصل عليها نوستراداموس فكانت عام 1585 من البابا سيكتستوس الخامس، إذ إن نوستراداموس قابله في إيطاليا حين كان  فيليس بريتي شابًا، فركع أمامه نوستراداموس من فوره وخاطبه كأنه البابا القادم، ولاحقًا تحققت نبوءة نوسترادموس.

كما تنبأ قائلًا:

يتم اكتشاف الشيء المفقود مخبأ لقرون عديدة، سيُحتفل بباستور باعتباره شخصية شبيهة بالإله. هذا عندما يكمل القمر دورته العظيمة، ولكن بشائعات أخرى سيُهان.

وقد كان بولادة لويس باستر عام 1822 الذي اكتشف لاحقًا أن هناك كائنات دقيقة هى التي تسبب التخمر، واقنع أوروبا باجراء عملية البسترة لقتل الكائنات الدقيقة، لكن لاحقًا عام 1995 أهين باستر على لسان أحد مؤرخي العلوم.

أما آخر نبوءات نوسترادموس فكانت ليلة موته، إذ أخبر مساعده أنه لن يجده في الصباح حيًا، وبالفعل مات نوستراداموس متأثرًا بمعاناته الطويلة مع داء النقرس والتهابات المفاصل وقصور عضلة قلبه، لكن نوستراداموس لم يجد في مسيرته دواءً يعالجه من أمراضه.