بمؤشرات إيجابية، أعلنت المملكة العربية السعودية، الثلاثاء 19 ديسمبر/كانون الأول 2017، عن أكبر موازنة توسعية في تاريخها، مُتضمنة مجموعة واسعة من المبادرات التنموية الجديدة، والتي تهدف إلى تحقيق الاستقرار المالي وتنويع الاقتصاد السعودي، وتحفيز نمو النشاط غير النفطي، فضلاً عن مساهمة القطاع الخاص كمحرك للنمو، مما يؤكد أن السعودية في طريقها لتبني نهج توسعي لتعزيز النمو الاقتصادي خلال عام 2018، وذلك بعد اتباع سياسة تقشفية حاسمة أتت بثمارها، بتضييق نطاق العجز المالي خلال العامين الماضيين.

وقدمت الحكومة السعودية موازنة تفصيلية، في محاولة لإقناع المواطن والمستثمر بمدى جدية البلاد في وضع خطة مستدامة لإصلاح العجز وتقليل اعتماد الاقتصاد على النفط. وتتضمن الميزانية الجديدة، الموضوعة للعام المالي 2018، سيناريوهات مختلفة لتمويل بنود الإنفاق كافة؛ وذلك بعد التأثر الشديد من انخفاض أسعار النفط على مدى الثلاثة أعوام الماضية.

فبعد تضييق العجز خلال عام 2016، تتجه الحكومة إلى دعم النمو من خلال زيادة في الإنفاق الحكومي تماشياً مع موازنة عام 2017، وتوقعت وزارة المالية أن تبلغ النفقات 978 مليار ريال (حوالي 260.8 مليار دولار)، والإيرادات المقدرة 783 مليار ريال (حوالي 208.8 مليارات دولار)، وحسب المؤشرات المُعلنة من قبل وزارة المالية السعودية، فمن المتوقع أن تنمو الإيرادات غير النفطية في 2018 بنسبة 13% إلى 291 مليار ريال، وأن تنمو الإيرادات النفطية بنسبة 12% تقريباً، لتصل إلى 492 مليار ريال في موازنة 2018 مقارنة بـ 440 مليارا في 2017.


أرقام إيجابية على خطى رؤية 2030

على مدى سنوات، كان الفارق بين الميزانية المعلنة والميزانية الفعلية كبيراً جداً، متراوحاً بين 25 و30%، إلا أن الفارق قد يصل إلى ما نسبته 5% فقط بنهاية عام 2017، مما يعد إنجازاً جيداً على صعيد ضبط المالية العامة والترشيد ورفع كفاءة الإنفاق. وفيما يلي أهم نتائج ميزانة عام 2017:

  • بلغت قيمة العجز في الميزانية العامة لعام 2017 في السعودية 61,3 مليار دولار، متجاوزة المستوى المتوقع في بداية السنة المالية بأكثر من ثمانية مليارات دولار.
  • في المقابل ارتفعت الايرادات المقدرة في الميزانية بنحو 13% عن المتوقع، وذلك بفعل ارتفاع أسعار النفط ومواصلة تنفيذ الإصلاحات الاقتصادية الرامية إلى زيادة الإيرادات غير النفطية، وذلك بعد أن ظل النفط لأكثر من 80 عاماً، يمثل نحو 90% من الموازنة العامة للمملكة.
  • ارتفعت الإيرادات غير النفطية عن النسبة المتوقعة، من 212 مليار ريال إلى 256 مليار ريال بنهاية 2017، وقد نمت الإيرادات غير النفطية بشكل عام بنسبة 130% بين عامي 2014 إلى 2018.
  • نجحت البرامج الحكومية في تقليص الاعتماد على النفط، ليصل إلى نسبة 50% تقريباً، وكانت موازنة عام 2017 هي المرة الأولى التي تشارك فيها الصناديق التنموية وصندوق الاستثمارات العامة في الإنفاق الرأسمالي والاستثماري، بما يزيد على حجم الإنفاق الرأسمالي من الموازنة في السنوات السابقة.
  • ارتفع الإنفاق الرأسمالي بنسبة 3% في عام 2017 عما كان مجدولاً بالميزانية، كما أن إيرادات الميزانية بلغت أرقاماً تجاوزت التوقعات.

وحول معدلات الدين العام، ما زالت السعودية قادرة على الاقتراض نتيجة مستويات الدين ‏المنخفضة، حيث من المتوقع ألا يتجاوز مستوى سقف الدين 20% من الناتج المحلي الإجمالي خلال ‏عام 2018، ولن يتجاوز نسبة الـ 30% في 2030، مما يعني أن المملكة ما زال لديها القدرة على الاقتراض عند ‏الحاجة، لسد العجز.‏


تراجع العجز بعد أعوام من المستويات القياسية

جاءت موازنة عام 2017 بعجزاً تبلغ قيمته 195 مليار ريال، بما يعادل 52 مليار دولار، وتستهدف الحكومة في موازنة 2018 خفض العجز إلى نحو 7.3% من إجمالي الناتج المحلي، ومن المتوقع أن تسهم خطط التحفيز والإنفاق الحكومي في ارتفاع معدلات النمو الاقتصادي الحقيقي في عام 2018، كما أنه من المتوقع انخفاض معدل البطالة بين السعوديين، مقارنة بالأعوام السابقة.

وخلال العشرة أعوام الماضية، حققت الميزانية العامة للسعودية فائضاً في 6 مرات، بينما حققت عجزاً في 4 مرات، وحققت ميزانية السعودية أكبر فائض خلال هذه الفترة عام 2008، حيث بلغ نحو 581 مليار ريال، وذلك لارتفاع الإيرادات النفطية بنحو 75%، مقارنة بعام 2007، بسبب الارتفاع الكبير لأسعار النفط خلال النصف الأول 2008، حيث وصلت آنذاك إلى 135 دولاراً للبرميل.وسجلت الميزانية السعودية خلال عام 2007 وفي الأعوام من 2010 إلى 2013 فوائض نقدية تراوحت بين 88 مليار ريال إلى 374 مليار ريال.

وفي المقابل حققت الميزانية السعودية أكبر عجز لها عام 2015، قُدر بنحو 366 مليار ريال، وذلك بسبب تراجع الإيرادات النفطية بنسبة 51% لتصل إلى 447 مليار ريال، مسجلة عجزا للعام الثاني على التوالي بعد أن حققت خلال عام 2014 عجزا بنحو 66 مليار ريال.

كما سجلت الميزانية عجزاً في 2016 وللعام الثالث على التوالي بنحو 297 مليار ريال، بينما تراجع حجم العجز خلال الأشهر التسعة أشهر الأولى من عام 2017 ليبلغ 121,5 مليار ريال، وسط ارتفاع الإيرادات غير النفطية خلال الربع الثالث من العام الحالي بنسبة بلغت 80%، مقارنة بالفترة المماثلة من عام 2016.

وكانت الحكومة السعودية قد بدأت في رفع أسعار الوقود في نهاية عام 2015، بما في ذلك زيادة في أسعار البنزين، علماً أنه سيتم فرض ضرائب القيمة المضافة عام 2018. وبدأت المملكة بالفعل بفرض بعض الرسوم على العمالة الوافدة.


من أين سيُمول إنفاق 2018؟

وفقاً لبيان المالية السعودية، سيأتي الإنفاق من ثلاثة مصادر أساسية، فالإنفاق من الموازنة يصل إلى 978 مليار ريال، وإضافة إلى ذلك ستُخصص 50 مليار ريال من صناديق التنمية القائمة تحت صندوق التنمية الوطني، والمخصصة لتمويل مشاريع سكنية وصناعية وتعدينية، كما ستوفّر تحفيزاً للقطاع الخاص.

أما المصدر الثالث، سيتمثل في الإنفاق الاستثماري داخل المملكة من صندوق الاستثمارات العامة، وذلك لتمويل مشاريعه الجديدة والقائمة. وهنا تتوقع الحكومة السعودية أن ينفق الصندوق ما يصل إلى 83 مليار ريال خلال العام المالي 2018، وبذلك يزيد إجمالي الإنفاق العام إلى أكثر من 1,1 تريليون ريال تقريباً في العام المالي الجديد.


قليل من التقشف ومزيد من الدعم

أخطرت السعودية صندوق النقد الدولي، في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، بأنها تعيد النظر في وتيرة تنفيذ إجراءات تقشف لتجنب حدوث تباطؤ كبير للاقتصاد وزيادة البطالة. وكانت المملكة قد اعتمدت خطة من شأنها تخفيض الإنفاق وزيادة الضرائب والرسوم لخفض العجز الكبير في موازنة البلاد بحلول 2020، وذلك في ديسمبر/كانون الأول 2016. لكن مع الإعلان عن أكبر موازنة في تاريخ المملكة للعام 2018، أرجأت المملكة المستهدف العام للقضاء على عجز الميزانية إلى 2023 بدلاً من 2020.

ومن الواضح، أن السعودية لن تستمر في موازنة العام الجديد في تنفيذ إجراءات التقشف، بل تعمدت الإعلان عن أكبر برنامج للإنفاق الحكومي في تاريخ المملكة في دلالة منها على نجاح جهودها في تحسين إدارة المالية العامة، رغم تراجع أسعار النفط بشكل كبير عن السنوات السابقة. وتوقعت وزارة الاقتصاد والتخطيط السعودية من خلال بيان موازنة لعام 2018، أن يحقق الناتج المحلي الإجمالي الإسمي نمواً إيجابياً بنحو 6.1% في نهاية عام 2018 مدفوعاً بارتفاع أسعار النفط في الأسواق العالمية، حيث يتوقع أن يرتفع الناتج المحلي الاسمي النفطي بنحو 20.2%. وكذلك يتوقع أن ينمو الناتج المحلي غير النفطي الاسمي بنحو 1.4% أخذاً في الاعتبار انخفاض المستوى العام للأسعار ممثلاً في الرقم القياسي لتكاليف المعيشة السالب لهذا العام 2017.

ودعماً للمواطن، كشف محمد الجدعان وزير المالية، عن مبادرات بشأن الموظفين الحكوميين تتم دراستها، وسيتم الإعلان عنها في حينه، مشيراً إلى أن هناك نحو 450 مليار ريال تم تخصيصها لرواتب ومزايا مالية للموظف الحكومي في 2018، معلناً عن تخصيص نحو 32 مليار ريال لحساب المواطن حالياً لصرفها شهرياً لمسجلين في حساب المواطن. كذلك أكد الجدعان تخصيص أكثر من 60 مليار ريال للإنفاق على الإسكان، في ميزانية المملكة للعام المقبل، وهو ما يعكس الاهتمام بالمشاريع التي تلبي متطلبات المساكن للمواطنين.


الإنفاق العسكري: الأعلى في موازنة 2018

على الرغم من إعلان الحكومة السعودية الأولوية لمستوى معيشة المواطن، فإن الأرقام تظهر استحواذ القطاع العسكري على أعلى نسبة من الاعتمادات في العام المالي الجديد، وكشفت الأرقام التي أعلنها المسئولون السعوديون في مؤتمر صحفي؛ لشرح معالم ميزانية 2018، عن تخصيص 210 مليارات ريال سعودي؛ للإنفاق العسكري، وهو ما يعادل 21% من الميزانية. كما خصصت نحو 10.3% من موازنتها للقطاع الأمني بقيمة 101 مليار ريال، مما يعني أن الحكومة السعودية خصصت قرابة ثلث موازنة العام 2018 للقطاعين العسكري والأمني، بقيمة 83 مليار دولار.

وتفصيلاً لبنوك الإنفاق، حظي قطاع التعليم في ميزانية 2018، بإنفاق بلغ 192 مليار ريال، بما يعادل 20%، في حين يتم إنفاق 147 مليار ريال على القطاع الصحي والشئون الاجتماعية، كما سيتم إنفاق 105 مليارات ريال سعودي، على قطاع الموارد الاقتصادية والبرامج العامة. هذا وقد تم تخصيص 89 مليار ريال لقطاع البنود العامة، و54 مليار ريال لقطاع التجهيزات الأساسية والنقل.وخصصت ميزانية 2018 مبلغ 53 مليار ريال سعودي لقطاع الخدمات البلدية، في حين ستصل مخصصات الإنفاق على قطاع الإدارة العامة 26 مليار ريال.


القطاع الخاص: قائد النمو الاقتصادي السعودي

تحقيقاً لمزيد من النمو خلال العام الجديد، تنوي حكومة المملكة إعطاء دور أكبر للقطاع الخاص وتوليد الوظائف، وذلك من خلال إطلاق 12 برنامجاً لتحقيق أهداف رؤية المملكة 2030، من حيث تنويع القاعدة الاقتصادية، وتمكين القطاع الخاص من القيام بدور أكبر مع المحافظة على كفاءة الإنفاق، وتشير التوقعات إلى أن دعم القطاع الخاص وزيادة الإنفاق الحكومي سيكونان من أهم العوامل الداعمة لتحقيق نمو مرتفع خلال العام الحالي.

هذا واعتمد الملك سلمان بن عبد العزيز 72 مليار ريال، لإطلاق خطة تحفيز القطاع الخاص، من خلال حزم تحفيزية تُقدر بـ 200 مليار ريال على 4 سنوات. وتلك الحزم التحفيزية من شأنها أن تُمكّن القطاع الخاص من النمو بنسبة 5.8% سنوياً، ورفع مساهمته في الناتج المحلي الإجمالي غير النفطي من 40% إلى 65%، فضلاً عن رفع نسبة الصادرات غير النفطية من 16% إلى 50% من إجمالي الناتج المحلي غير النفطي بحلول 2030. ومن المفترض الانتهاء من برنامج دعم القطاع الخاص في 2020.

نهايةً، وعد الملك سلمان بعدم فرض ضرائب جديدة، والتقليص من السياسة التقشفية، وفي الوقت ذاته أقرت الحكومة فرض الضريبة على القيمة المضافة بنسبة 5%، ومن المقرر أن تدخل حيّز التنفيذ في 2018، ومعها رفع أسعار الوقود. وذلك من شأنه أن يُرسل إلى المواطن إشارات بأن الحياة لن تكن رغداً خلال العام الجديد، وما يُزيد من قلق المواطن هو التخلي عن وعد التخلص من العجز في عام 2020، وتأجيله 3 سنوات. فذلك التأجيل يعطي دلالة على أن أزمات السعودية الاقتصادية منذ 2014 لا تزال قائمة.

ومن ثَمَّ نجد ألا شئ قد تحقق بالفعل، فمشكلة العجز مؤجلة، والإنفاق حقاً سيرتفع، ولكن في هذه المرة سيكون تمويله من الضرائب الجديدة كضريبة لقيمة المضافة، ومن ثَمَّ يصبح عام 2018 اختبارا حقيقيا لقدرة القيادة السعودية على تحقيق مزيد من النمو، وتقليص العجز بمصادر أخرى بعيداً عن الاعتماد على النفط كمورد رئيسي، وبالتالي سيكون عام 2018 عاماً أصعب على المواطن والحكومة معاً إذا ما لوحظ أن بدائل النفط لم تظهر بعد بشكلها الشامل والملموس.