بعد يوم من تأكيد كييف تحقيقها مكاسب عسكرية مهمة قرب مدينة باخموت في وقت يبدو هجومها المضاد على وشك الانطلاق، وقع انهيار جزئي لسد «نوفا كاخوفكا» في 6 يونيو/حزيران، إذ انفجر فجأة، وتم تدمير 16 بوابة به مما أطلق سيلًا هائلًا أطاح بكل ما اعترض طريقه في المناطق التي تحيط بنهر دنيبرو في منطقة خيرسون جنوب أوكرانيا، حيث تحتل روسيا الضفة اليسرى أو الجنوبية، بينما تسيطر أوكرانيا على الضفة اليمنى أو الشمالية.

تدفقت مياه خزان السد المنهار البالغ حجمها نحو 18 مليار متر مكعب، وكان السكان المحليون يسمون هذا الخزان «بحر كاخوفكا» لضخامته، إذ لا يمكن رؤية الضفة الأخرى منه في بعض الأماكن. وقالت الشركة الأوكرانية المشغلة لسدود الطاقة المائية إن محطة نوفا كاخوفكا للطاقة دُمرت بالكامل ولا يمكن إعادتها للعمل.

من المتضرر؟

تبادل الأوكرانيون والروس الاتهامات بشأن المسئولية عن تفجير السد، فيما قالت الولايات المتحدة، الثلاثاء، إنها غير متأكدة من هوية الفاعل، لكنها استبعدت أن تفعل كييف ذلك بشعبها وأرضها.

وأعلن رئيس إدارة مدينة نوفايا كاخوفكا، فلاديمير ليونتييف، أن الحادث جاء نتيجة القصف الأوكراني اليومي المستمر من قبل القوات الأوكرانية، والتي استمرت منذ عام تقريبًا، وقال سفير أوكرانيا لدى الأمم المتحدة، سيرجي كيسليتسيا: «من المستحيل عمليًّا أن نفجره من الخارج عن طريق القصف … لقد زرع فيه المحتلون الروس الألغام وفجروه»، ووصف الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، الهجوم بأنه «عمل همجي أوكراني»، واجتمع مجلس الأمن الدولي المكون من 15 عضوًا، الثلاثاء، بطلب من البلدين المتحاربين.

وأجج الهجوم مخاوف عالمية من تعطل الإمدادات الأوكرانية من الحبوب كالقمح والشعير والذرة، إلى الدول النامية، وارتفاع الأسعار العالمية للمواد الغذائية من جديد، وحذرت الأمم المتحدة من أن الأزمة سوف تترك عواقب جسيمة وواسعة النطاق.

وفي رد فعل سريع، ارتفعت الأسعار العالمية للقمح والذرة بعد ساعات من الإعلان عن انهيار السد، إذ تعد كييف رابع أكبر دولة مصدرة للحبوب في العالم، لكن مناطقها الزراعية قد تتحول إلى صحراء قاحلة؛ فقد توقعت وزارة الزراعة الأوكرانية، الثلاثاء، أن تغمر المياه حوالي 10 آلاف هكتار من الحقول في منطقة خيرسون.

كما تمت مطالبة السكان في مناطق ميكولايف وخيرسون وزابوروجيا بعدم صيد الأسماك لاحتمال إصابتها بالتسمم بسبب التلوث، وتم إجلاء آلاف السكان في المناطق المنكوبة.

وارتفع منسوب المياه في نهر دنيبرو، ما يُشكل خطر حدوث فيضانات تدمر نظام الري في معظم أنحاء الجنوب الأوكراني.

وتنفذ موسكو حملة جوية لاستهداف البنية التحتية الأوكرانية، خاصة نظام الطاقة، وقال مستشار وزارة الدفاع الأوكراني، يوري ساك، إن معلومات مصدرها اعتراض مكالمات هاتفية، كشفت عن نية روسيا استهداف المزيد من السدود.

وتقطعت السبل بالسكان، وصعدوا على أسطح منازلهم، وأخذوا يتوسلون لمن يملكون القوارب ليأتوا وينقذوهم، بينما تم اعتبار العشرات في عداد المفقودين، وحذر الأوكرانيون من غرق 80 بلدة، بينما حاولت السلطات الموالية لموسكو في منطقة خيرسون تهدئة المخاوف من تداعيات الحادث من خلال إعلانها أنه ليس هناك أي بلدة كبرى مهددة بالفيضانات، وادعى مسئول الإدارة الروسية لنوفا كاخوفكا أن الحياة تسير بشكل طبيعي في المدينة.

وبينما كانت أوكرانيا تستعيد أجزاءً كبيرة من خيرسون في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، دعا الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلنسكي الغرب لتحذير روسيا من تفجير السد، ومن أنه سيغرق منطقة كبيرة في جنوب بلاده، وقال إن القوات الروسية زرعت متفجرات داخل السد، وقالت المخابرات الأوكرانية حينها إن محطة الطاقة تم تلغيمها بالكامل من قبل الجيش الروسي.

وتصر موسكو على أن الجيش الأوكراني قصف السد بهدف حرمان شبه جزيرة القرم – التي تسيطر عليها روسيا – من المياه، لكن لا يعد قطع الماء عن شبه جزيرة القرم معضلة كبيرة، فقد ظلت مياه النهر مقطوعة عنها منذ عام 2014 إلى أن أعاد الجيش الروسي فتح القناة بنفسه بعد بدء عملية الغزو العام الماضي.

وتحظر اتفاقيات جنيف بشكل واضح استهداف السدود في الحرب، وقد صادقت كل الدول الأعضاء في الأمم المتحدة، بما في ذلك روسيا، على اتفاقيات جنيف لعام 1949.

الهجوم الأوكراني المضاد

تخطط أوكرانيا لشن هجوم مضاد على قوات الغزو الروسي منذ عدة شهور، لكنها سعت إلى تأخيره قدر الإمكان لكسب وقت لتدريب قواتها وتلقي معدات عسكرية إضافية من الحلفاء الغربيين.

وحذر المسئولون في كييف من إعطاء معلومات عن الهجوم قائلين إن ذلك قد يساعد العدو، وقالت وزارة الدفاع الأوكرانية في شريط فيديو نُشر على تطبيق تيليجرام، الأحد الماضي، «الخطط تحب الصمت، لن يكون هناك إعلان عن (موعد) البداية»، بينما ظهر في الفيديو جنود ملثمون يضعون أصابعهم على شفاههم.

وترى كييف أن الروس فجروا السد لتعطيل الهجوم المضاد، وأكد الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي أن موسكو فجرت سد نوفا كاخوفكا خلال الليل من الداخل، مؤكدًا أنها لن تتمكن من إيقاف هجوم جيشه سواء بقطع المياه أو الصواريخ أو أي شيء آخر، لكنه حذر من أن تدمير السد سيؤثر على الأمن الغذائي العالمي.

وسقطت مدينة نوفا كاخوفكا بيد القوات الروسية في بداية غزو أوكرانيا في فبراير/شباط 2022، وما زالت تسيطر على سد كاخوفكا الكهرومائي حتى اليوم. واستعادت أوكرانيا السيطرة على عاصمة منطقة خيرسون، التي تسمى أيضًا خيرسون، نهاية العام الماضي، مما أدى إلى طرد الروس الذين استولوا على المدينة في الأسابيع التي أعقبت بدء العملية العسكرية الروسية قبل أكثر من عام، ويمثل نهر دنيبرو الآن خط المواجهة في المنطقة، التي لا تزال محتلة جزئيًّا. وكان الجيش الأوكراني قال في مارس/آذار الماضي إن القوات الروسية انسحبت من مدينة نوفا كاخوفكا، لكنه عاد ونفى صحة هذا الإعلان.

ومن المتوقع أن تكون خيرسون أحد محاور الهجوم الأوكراني المضاد، وبالتالي فإن إغراق الأرض بالمياه سيشكل عائقًا أمام تقدم القوات الأوكرانية، وكان الروس يخشون من أن تستخدم القوات الأوكرانية الطريق فوق السد، للتقدم نحو الأراضي التي يحتلونها، كجزء من الهجوم المضاد المرتقب.

وتهدف أوكرانيا إلى تحرير الأراضي التي احتلتها روسيا قبل تسع سنوات أيضًا؛ أي شبه جزيرة القرم والأقاليم الأربعة شرق وجنوب شرق البلاد: دونيتسك، ولوجانسك، وخيرسون، وزابوروجيا.

ورغم أن الدمار طال مناطق سيطرة روسيا في خيرسون بشكل يفوق الضفة الأخرى من النهر التي يسيطر عليها الجيش الأوكراني، فإنه بالنظر إلى الموقف الميداني فإن روسيا هي المستفيد الأكبر والمتضرر الأصغر من تفجير السد، نظرًا لأن مصلحة عرقلة الهجوم المضاد تفوق أي مصلحة أخرى لديها، وهذه المناطق المتضررة من المتوقع أن تخسرها روسيا فور وقوع الهجوم المضاد المخطط له، فكان من مصلحة الروس تدميرها.

وبالنظر إلى تراجع موقف الجيش الروسي وعدم استعداده بشكل مناسب لصد الهجوم المضاد الوشيك، فإن الحفاظ على الوضع الراهن يعد مكسبًا كبيرًا له، بدليل امتلاك كييف خططًا هجومية، بينما يقف الروس في وضع دفاعي، ولا يبدو أنهم عازمون أو قادرون في الوقت الحالي على إكمال السيطرة على مناطق تم ضمها رسميًّا لبلادهم منذ العام الماضي.

دمار شامل

تسبب الحادث في تلوث واسع شمل تسرب 150 طنًّا من زيت المحركات، واحتمال تسرب ضعف هذه الكمية، كما حذر وزير الداخلية الأوكراني، إيهور كليمنكو، من خطر انفجار الألغام نتيجة ارتفاع منسوب الفيضان القادم من السد المنهار، ومن المتوقع أن ينتهي المطاف بكمية كبيرة من الزيت المتسرب من محطة الطاقة الكهرومائية في البحر الأسود لتسبب دمارًا بيئيًّا آخر هناك، كما أن حقول الألغام التي بناها الروس على الضفة اليسرى للنهر دمرتها المياه مما يجعلها تنفجر بشكل لا يمكن السيطرة عليه وتطفو على سطح الماء الجاري.

 لكن الأخطر هو تداعيات الحادث المحتملة على أكبر محطة نووية في أوروبا؛ إذ يقع السد المنكوب على نهر دنيبرو الذي يوفر المياه لتبريد محطة زابوروجيا النووية التي تحتلها القوات الروسية، وقد حذرت كييف من «كارثة نووية» بعد تدمير السد، لكن الوكالة الدولية للطاقة الذرية أوضحت أن الوضع ما زال تحت السيطرة، وأنه لا يوجد «خطر مباشر على السلامة النووية» لأن محطة زابوريجيا لديها ما يكفي من المياه لتبريد مفاعلاتها لعدة أشهر قادمة.

وقال المدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية، رافاييل غروسي، في بيان له صدر عقب تفجير السد إنه يوجد عدد من المصادر البديلة لمياه تبريد المفاعل، وأحد هذه المصادر بحيرة كبيرة بالقرب من المحطة.