على مدار الأسابيع الفائتة، تم إجلاء ملايين من المواطنين الأمريكيين في السواحل الجنوب شرقية بالولايات المتحدة الأمريكية، تاركين ديارهم وموروثاتهم العائلية بسبب فيضان إعصار إرما. بينما فقد النوبيون المستقرون في جنوب مصر قديماً كامل مدنهم وقراهم بسبب مياه فيضان نهر النيل. لم تحدث هذه المفقودات بسبب كارثة طبيعية ما، وإنما كانت نتيجة قرار جمهوري.

أُزيلت أجزاء واسعة من النوبة – وهي حضارة أفريقية قديمة حكمت مصر ذات مرة في عهد الفراعنة القدماء – حرفيًا من الخارطة. تمت عمليات النزوح القسري للنوبيين أربع مرات خلال القرن العشرين، حيث قررت حكومات متعاقبة – منذ الاحتلال البريطاني حتى عهد جمال عبد الناصر – بناء سدود عبر نهر النيل، وأمرت الأسر النوبية بمغادرة أوطانهم. بخلاف إغراق النوبة تحت مياه النيل، تعرضت اللغة النوبية للكبت الشديد. فلا يوجد أي جامعة أو مدرسة واحدة في مصر حتى اليوم تستخدم اللغة النوبية في تعاملاتها الرسمية. وبعد مرور الحقبة الناصرية وذروة حركة العروبة، فإن تهميش النوبيين ما يزال مستمرًا حتى وقتنا الحاضر.

تلك السياسات التمييزية طويلة الأمد تم تحديها حاليًا بواسطة جيل جديد من النشطاء النوبيين، والذين هبوا مع اندلاع ثورة يناير. لدى كل الشرف بمقابلة كثير منهم، حيث أعيش في مصر وأُدرِّس في الجامعة الأمريكية بالقاهرة.

محمد عزمي – محام حقوقي من محافظة أسوان ومؤسس نوبة تيوب وهي قناة عبر يوتيوب تُروج للغة النوبية- وهو في الرابعة والثلاثين من عمره تم انتخابه ليكون رئيس الاتحاد النوبي العام، وهي جمعية مشابهة للجمعية الوطنية للنهوض بالملونين في الولايات المتحدة. خلال الربيع الماضي، تمت دعوته لإلقاء كلمة لطلاب علم الاجتماع في الجامعة الأمريكية كمُحاضر. وفي يوم الثالث من سبتمبر/أيلول الجاري، عزمي تم اعتقاله مع 23 ناشطا نوبيا آخر أثناء قيامهم بمسيرة سليمة محدودة في أسوان. الآن هم يقبعون داخل مسكر قوات الأمن بالشلال، والذي يخضع لإدارة قطاع الأمن المركزي سيئ السمعة. لقد كتبت مراراً وتكراراً حول حملة الحكومة المصرية القمعية غير المسبوقة، وأشرت إلى اعتقال قادة المعارضة وحجب المواقع، وحاولت أن ألفت الانتباه إلى حقيقة أن الأقليات في مصر – وتحديدا الأقباط والنوبيين– قد يعانون بشكل مضاعف بعد إجبار منظمات المجتمع المدني الداعمة لهم على إغلاق مكاتبها.

المأزق الحالي للأقلية القبطية في مصر تم تداوله عبر وسائل إعلام وتقارير حقوقية عدة. في أبريل/نيسان الماضي، قام البابا فرانسيس بزيارة مصر لإظهار التضامن مع الأقباط المُحاصرين. وعلى النقيض، لم تحظ الأقلية النوبية بذات القدر من الاهتمام الدولي. في التقرير الأخير لوزارة الخارجية الأمريكية الذي يُقيم أوضاع حقوق الإنسان في مصر – مُتضمناً الاعتقال العشوائي والاحتجاز التعسفي والاختفاء القسري والقتل خارج إطار القانون والتعذيب – تم تخصيص فقرة كاملة حول الأقباط بينما لم يتم الإشارة نهائيًا للأقلية النوبية.

أقرّ ذلك التقرير أن مناخ حقوق الإنسان في مصر مستمر في الانحدار، بينما لا تزال حكومة الولايات المتحدة الأمريكية في إرسال إشارات متضاربة للسلطات المصرية. الأسبوع الماضي، التقى الرئيس الأمريكي ترامب مع نظيره المصري عبد الفتاح السيسي على هامش اجتماع الجمعية العمومية للأمم المتحدة. وصف ترامب العلاقات الثنائية بين البلدين بأنها جيدة للغاية. بينما من جانبها، قامت لجنة الاعتمادات الخارجية بمجلس النواب الأمريكي بالتقدم بطلب لقطع 300 مليون دولار أمريكي من المساعدات الأمريكية السنوية لمصر، مُخفِّضة بذلك المعونة من 1.3 إلى 1 مليار دولار كرسالة للسيسي أن أمريكا قلقة بشأن موجة القمع العاتية التي تستهدف فعلياً كل القطاعات بالمجتمع المصري.

تزامنت الاعتقالات الجماعية للنوبيين هذا الشهر مع إطلاق تقريرين يوثقان التعذيب داخل السجون المصرية. في الخامس من سبتمبر/أيلول، أطلقت منظمة هيومان رايتس ووتش تقريراً يشير إلى أن وباء التعذيب في مصر قد يرقى إلى مرتبة «الجرائم ضد الإنسانية». بينما توصلت لجنة مناهضة التعذيب بالأمم المتحدة إلى نتيجة لا يمكن الهروب منها بأن التعذيب هو ممارسة ممنهجة في مصر.

عندما تعرض النوبيون للنزوج بعد بناء السد العالي في أسوان في الستينات من القرن الماضي، كانت الولايات المتحدة الأمريكية واحدة من بين 25 دولة على مستوى العالم مما ساهموا في نقل الآثار القديمة من خلال عملية ضخمة عُرفت باسم «مشروع إنقاذ آثار النوبة». بعض هذه القطع الأثرية انتهى بها الحال في متاحف الولايات المتحدة مثل متحف متروبوليتان للفنون. ومما يُثير الخجل أن ما تم فعله لمساعدة المواطنين النوبيين كان أقل من الأفعال تجاه آثارهم القديمة. ولكن ما تزال الآن الفرصة سانحة أمام الولايات المتحدة أن تؤدي أفضل مما سبق.

وفي خطوة تنازل جديرة بالذكر، أقرّ الدستور المصري الصادر في 2014 بعضًا من المظالم النوبية التاريخية. حيث إن المادة 236 من الدستور تُعطي النوبيين حق العودة خلال 10 سنوات إلى بعض من أراضيهم الأصلية قبل النزوح. كان وراء القوة المحركة تجاه هذا الإنجاز الكاتب غزير الإنتاج حجاج قدول، والذي قمت بإجراء مقابلة شخصية معه منذ شهر مضى. منذ ذلك الحين، قام الرئيس السيسي بإصدار عدد من القرارات التي تجعل إمكانية العودة مُستبعدة بشكل كبير. مثال ذلك، جاء القرار الجمهوري رقم 444 لسنة 2014 والذي يُحدد المناطق المُتاخمة للحدود بمسافة عرض 125 كم من الأراضي تجاه الحدود الجنوبية مع السودان كمنطقة عسكرية، مما يعني أن النوبيين لن يكونوا قادرين على العودة هناك. وعلى النقيض من ذلك، تم تقدير المنطقة العسكرية على طول الحدود مع غزة بعرض 5 كم فقط، مما جعل الكثير يُرجح أن ذلك القرار غرضه الأساسي ليس تأمين الحدود وإنما منع النوبيين من الاستقرار هناك.

كرد فعل لما رأوه إغراراً بحقوقهم الدستورية في العودة، حاول النوبيون الضغط عبر تظاهرات سلمية. ولكن هناك قانون التظاهر الاستبدادي – الصادر في نوفمبر/تشرين الثاني 2013 – والذي جرّم بشكل أساسي أي تجمعات ميدانية تتخطى 10 أفراد. في الثالث من سبتمبر/أيلول الماضي، خلال صلاة عيد الأضحى، قامت مجموعة صغيرة من النوبيين بمسيرة غنائية في أسوان. لتنفيذ ذلك، قاموا بتحدي كل من قانون التظاهر وقمع لغتهم الأصلية حيث قاموا بترديد أغان نوبية. قُوبل المتظاهرون بمدرعات ضخمة وقوات من الأمن المركزي تم استدعاؤها من أسوان وقنا والتي على بُعد مسافة أربع ساعات أخرى. الآن هما معروفون باسم«معتقلي الدفوف» حيث كانوا يعزفون الأغاني أثناء اعتقالهم. يمكن الوصول من هنا إلى قائمة كاملة بأسماء المعتقلين النوبيين، والمحتجزين منذ ذلك الحين في معسكر قوات الأمن بالشلال.

كتبت فاطمة إمام – باحثة حقوقية نوبية والتي عملت مع قدول من خلال لجنة التعديلات الدستورية- عن تلك التظاهرة عبر مدونتها. في نفس اليوم، تم حجبها في مصر. أيضاً، موقع منظمة هيومان رايتس ووتش تم حجبه بعد يوم واحد فقط من إطلاق تقريرهم عن التعذيب داخل السجون المصري. الآن يتخطى إجمالي عدد المواقع المحجوبة في مصر 400 موقع.

كانت الدورة التعليمية – التي كنت أدرسها بالجامعة الأمريكية بالقاهرة الربيع الماضي – حيث ألقى عزمي كلمته تحت عنوان «الحدود، الحروب، اللاجئين: من الإمبراطورية العثمانية إلى الدولة الإسلامية». قام عزمي باستعراض خرائط للقرى النوبية في جنوب مصر وكتاباً مكتوباً باللغة النوبية. اكتشفت لاحقاً أنه لا أحد من طلابي – الذين كانوا كلهم مصريون- قد اطّلع على تلك الخرائط من قبل، بل ولم ير أي منهم الكتابة النوبية أو يسمعها كلغة منطوقة. لا أحد على الإطلاق. مدى القمع الذي تعرضت إليه الثقافة والتاريخ واللغة النوبية لا يقارن إطلاقاً بتلك الصدمة. وحتى الآن، وقبل نهاية هذا العام الدراسي، اختار كثير من طلابي أن يكتبوا أوراقهم العلمية عن النوبة. لو كان لتصرف طلابي هذا دلالة، فإنه ليس فقط جاهزيتهم لذلك، بل أيضاً الرغبة الكامنة الجامحة لتعلم شيئاً ما عن ذلك التاريخ والثقافة النوبية. مدونون مثل فاطمة إمام، ومدافعون عن حقوق الإنسان مثل محمد عزمي، حريصون كل الحرص لرفع الوعي بشأن قضيتهم، ولكنه تم حجب مدونة فاطمة بينما يرقد عزمي الآن بالسجن. بالتأكيد هذا لن يكون سهلاً.

الآن لم تعد الآثار النوبية القديمة في خطر، بل أصبح الخطر يحاصر الجيل الجديد من المدافعين عن الحقوق النوبية المدنية.