كان العالم الإسلامى يشهد أعوامه العجاف، أقطاره ممزقة بين دول مستقلة مختلفة، بل إمارات مستقلة للمدن، صراع مذهبي، خلافتان في وقت واحد، وكل خلافة تحمل مذهبا مختلفا، انحطاط على مستوى السياسة والفكر والعلوم إذا ما قورنت بسنوات مضت، والطامة، عدوان صليبي واغتصاب لقبلة المسلمين الأولى«بيت المقدس» والمدن الساحلية الشامية المهمة.

في هذه اللقطة تُستدعى أفكار الجهاد للساحة، هذه المرة على يد مؤدب أولاد السلطان، الأتابك عماد الدين زنكي، الذي سيوليه السلطان السلجوقي عام 521 هـ الموصل وما يفتحه من بلاد الشام.

ستمتد رحلة زنكي في بلاد الشام موحدا أطرافها، ومؤدبا عصاتها، ومدبرا أمور رعيتها، إلى أن يسقط قتيلا على يد غلام له، في انتقام صليبي من محرر «الرها» أحد أهم معاقلهم بالشام [طقوش، ص196].

هنالك تنقسم أملاك زنكي بين أولاده، ليحوز «نور الدين محمود» مدينة «حلب» وما يتصل بها، و«سيف الدين غازي» مدينة «الموصل» وما يتصل بها أيضا.

سلّ محمود سيفه من اللحظة الأولى، تارة على الصليبيين، وتارة في وجه أمراء الشام المعاندين المتخاذلين، وبدا أن سحابة خير سينهال مطرها أخيرا على العالم الإسلامي، فمحمود ليس مجاهدًا وحسب، بل لسنوات لم يشهد عموم المسلمين حاكمًا عادلًا سيأتيهم سلطان يخلد ذكره بجوار الخلفاء الراشدين عدلًا وقوة وجهادًا.


اختصام الملوك، على غرار القدماء

الذهبي

هل كان يسيرًا متبادرًا إلى ذهن عامي بالشام أن يرفع شكواه إلى القاضى يشتكي السلطان نفسه، كم بذل نور الدين من الوقت والجهد لأجل تحقيق العدالة في البلاد حتى يصير متبادرًا إلى الذهن أمر كهذا ببساطة؟

كان القضاة يتحرجون من محاكمة كبار رجال دولة نور الدين، فلما زادت الشكوى من عماله وتحديدًا من عمال «أسد الدين شريكوه» -أعظم رجاله – وعلم نور الدين محمود بالأمر أسس «دار العدل»، وهي بمثابة محكمة عليا لمحاسبة كبار رجال الدولة، وكان يجلس فيها مع القضاة بنفسه لينظر في الدعاوى التي ترفع إليه، فلما علم أسد الدين بأمر الدار جمع عماله وقال لهم:

اعلموا أن نور الدين ما أمر ببناء هذه الدار إلا بسببي وحدي؛ وإلا فمن هو الذي يمتنع على كمال الدين؟ ووالله لئن أحضرت إلى دار العدل بسبب أحدكم لأصلبنه. فامضوا إلى كل من بينكم وبينه منازعة في ملك فافصلوا الحال معه، وأرضوه بأي شيء أمكن، ولو أتى ذلك على جميع ما بيدي. فقالوا له: إن الناس إذا علموا هذا اشتطوا في الطلب. فقال: خروج أملاكي عن يدي أسهل على من أن يراني نور الدين بعين أني ظالم، أو يساوي بيني وبين آحاد العامة في الحكومة. فخرج أصحابه من عنده وفعلوا ما أمرهم، وأرضوا خصماءهم، وأشهدوا عليهم. فلما فرغت دار العدل جلس نور الدين فيها لفصل الحكومات. وكان يجلس في الأسبوع يومين وعنده القاضي والفقهاء؛ وبقى كذلك مدة فلم يحضر عنده أحد يشكو من أسد الدين. فقال نور الدين لكمال الدين: ما أرى أحدا يشكو من شريكوه. فعرفه الحال، فسجد شكرا لله تعالى، وقال: الحمد لله الذي جعل أصحابنا ينصفون من أنفسهم قبل حضورهم عندنا.

أبقى نور الدين على العدل دينا له حتى أن شهرته به دامت بعد موته، فمما يروى: «إن إنسانا كان بدمشق غريبا، استوطنها وأقام بها لما رأى من عدل نور الدين رحمه الله. فلما توفي تعدى بعض الأجناد على هذا الرجل، فشكاه، فلم ينصف. فنزل من القلعة وهو يستغيث ويبكي وقد شق ثوبه وهو يقول: يا نور الدين، لو رأيتنا وما نحن فيه من الظلم لرحمتنا؛ أين عدلك!

وقصد تربة نور الدين ومعه من الخلق ما لا يحصى وكلهم يبكي ويصيح. فوصل الخبر إلى صلاح الدين وقيل له: احفظ البلد والرعية وإلا خرج عن يدك. فأرسل إلى ذلك الرجل وهو عند تربة نور الدين يبكي والناس معه، فطيب قلبه ووهبه شيئا وأنصفه، فبكى أشد من الأول. فقال له صلاح الدين: لمَ تبكي؟ قلل: أبكي على سلطان عدل فينا بعد موته. فقال صلاح الدين: هذا هو الحق، وكل ما ترى فينا من عدل فمنه تعلمناه» [سير أعلام النبلاء].


كفى بالشرع عدلا

تواترت الأخبار عن عدل نور الدين فيقتص لصاحب الحق من عماله ومن نفسه، لكن منهجه في التمسك بتطبيق الشريعة وحفظها جعل لعدله دروبا كثيرة، فقد كان نور الدين ينهى عن المعاقبة بأكثر مما أوجبت الشريعة من عقوبات، وكان الزعار واللصوص قد كثروا، فخاطبه الناس بتشديد العقوبات ثم أرسلوا يستنجدون بشيوخ الصوفية ليقنعوه بتشديد العقوبات، فكتب الشيخ عمر كتابا إلى نور الدين يقول فيه: «إن الزعار وقطاع الطرق والمفسدين قد كثروا ويحتاج إلى نوع سياسة، ومثل هذا لا يجيء إلا بقتل وصلب وضرب، وإذا أخذ مال إنسان في البرية من يجيء ليشهد له».

فأجاب نور الدين على ظهر رسالة الشيخ بقوله: «إن الله تعالى خلق الخلق وهو أعلم بمصلحتهم، وإن مصلحتهم تحصل فيما شرعه على وجه الكمال، ولو علم أن على الشريعة زيادة في المصلحة لشرعه لنا، فما لنا من حاجة على زيادة ما شرعه الله تعالى، فمن زاد فقد زعم أن الشريعة ناقصة، فهو يكملها بزيادته وهذا من الجرأة على الله وعلى شرعه، والعقول المظلمة لا تهتدي، فالله سبحانه يهدينا وإياك إلى الكتاب وإلى الصراط المستقيم».

فلما وصل الجواب إلى الشيخ عمر، جمع الناس وقرأ عليهم كتابه وجواب نور الدين عليه، قائلا: «انظروا في كتاب الزاهد إلى الملك وكتاب الملك إلى الزاهد» [الصلابي، ص60].

لكنه لم يكن ليترك الزعار يقطعون الطريق على الكارة ويتعاونون مع الصليبيين، وبدلا من أن يبادرهم بالهجوم كسابقيه من الأمراء، عمد إلى توطينهم، فاستقروا وتركوا قطع الطريق إلى أعمال شريفة.

قال ابن الأثير: «ومن عدله أنه لم يكن يعاقب العقوبة التي يعاقب بها الملوك في هذه الأعصار على الظنة والتهمة، بل يطلب الشهود على المتهم، فإن قامت البينة الشرعية عاقبه العقوبة الشرعية من غير تعد فدفع الله إذا الفعل عن الناس من الشر ما يوجد في غير ولايته مع شدة السياسة والمبالغة في العقوبة والأخذ بالظنة، وأمنت بلاده مع سعتها، وقل المفسدون بيركة العدل واتباع الشرع المطهر».


عدالة جمع المال

وجاءه رجل طلبه إلى الشرع، فجاء معه إلى مجلس كمال الدين الشهرزوري، وتقدمه الحاجب يقول للقاضي: قد قال لك: اسلك معه ما تسلك مع آحاد الناس. فلما حضر سوى بينه وبين خصمه، وتحاكما، فلم يثبت للرجل عليه حق، وكان ملكًا، ثم قال السلطان: فاشهدوا أني قد وهبته له.
اعلم أن العدوان على الناس في أموالهم ذاهب بآمالهم في تحصيلها واكتسابها، لما يرونه من أن غايتها ومصيرها انتهابها من أيديهم، وإذا ذهبت آمالهم في اكتسابها وتحصيلها انقبضت أيديهم عن السعي في ذلك.
ابن خلدون

لما كانت الدولة الإسلامية فى حال حرب واضطراب، زادت الضرائب وكسدت التجارة، لكن نور الدين رأى أن لا حاجة له بضرائب ومكوس لم تشرع في شريعة، فأسقط الضرائب والمكوس غير الشرعية وأبقى على حق الدولة الشرعي من مال الرعية، حتى أنه لما ملك مصر كان المكس يزيد عن 45% من إجمالى قيمة التجارة، فألغى نور الدين كل ذلك، لكن خزينة الدولة لم تهتز ولم تقل نفقات البلاد الحربية، بل زادت [الصلابي، ص84].

لقد زادت التجارة اتساعا وتجرأ التجار على إخراج كالهم، مع زيادة أمن الطريق الذي حققه بتوطين العربان والزعار، ولم يوقف الجهاد حركة التجارة بل وسعها بالتأمين العسكري للموانئ والسيطرة على طرق التجارة العالمية بعد ضم مصر.

إن نور الدين محمود لم يكن بدعا من أمره في التاريخ الإسلامي، لكنه في زمانه كان حالة فريدة، في العدل والحرص على الرعية وحسن تدبير أحوالهم، فبقدر ما ابتلي المسلمون بحكام ظلمة بقدر ما هدي لحكام عادلين.

المراجع
  1. طقوش، محمد سهيل: التاريخ الإسلامى الوجيز، دار النفائس، بيروت، الطبعة الخامسة، 2011.
  2. الذهبى، محمد بن أحمد بن عثمان الذهبى. سير أعلام النبلاء. مؤسسة الرسالة، 2001.
  3. الصلابى، على محمد محمد. نور الدين محمود زنكى ، شخصيته وعصره، مؤسسة اقرأ، القاهرة، الطبعة الأولى، 2007.
  4. المقدسى،أبو شامة. "الروضتين فى أخبار الدولتين".
  5. ابن خلدون، عبد الرحمن."مقدمة ابن خلدون"